انسحب المخرج داني بويل من مهمّـة تحقيق الفيلم الخامس والعشرين من سلسلة أفلام جيمس بوند الرسمية. أو الفيلم السادس والعشرين إذا ما أضفنا فيلماً خارج السلسلة تم إنتاجه سنة 1983.
يوم الثلاثاء الماضي أعلن المخرج الذي نال فيلمه «مليونير العشوائيات» ثمانية أوسكارات سنة 2010 من بينها أوسكار أفضل إخراج وأفضل فيلم، اعتزال الاشتراك في صنع مغامرة جيمس بوند المقبلة التي بقيت بلا عنوان رسمي كعادة أفلام جيمس بوند الأخيرة التي تُعامل بسرية فلا يُكشف عن عناوينها إلا من بعد انتهاء التصوير.
سبب الاستقالة يعود إلى «اختلاف وجهات النظر الفنية». مصطلح عادة ما يوعز بأن الجهة الإنتاجية لم توافق على رؤية المخرج للمشروع ولم يستطع هو القبول بتغيير تلك الرؤية ما ينتج عنه إما استمراره على النحو الذي ترغبه الشركة المنتجة وإما الانسحاب كلياً من المشروع. بالنسبة لداني بويل فإن المخرج البريطاني الذي كان خلف المخرج البريطاني الآخر سام مندز على هذا المشروع فإن رؤيته كانت تختلف جذرياً عن تلك التي بحوزة المنتجين جيمس ج. ولسون وباربرا بروكولي وهذا وضع حداً لعلاقة الثلاثة المهنية بعد نحو سنة من العمل على إعداد الفيلم وقبل ثلاثة أشهر من البدء بتصويره.
اختلاف الآراء حول نقاط فنية استراتيجية في صورة العميل 007 يشمل تفاصيل محددة. فالمشكلة ليست في أن المخرج أراد تمرير مشاهد غير متداولة في أفلام بوند السابقة، وليست في اختيار مواقع أو في خلاف حول الميزانية التي يرغب في ها، بل في أن بويل رأى أن على جيمس بوند أن يتبع الواقع المستجد حالياً.
عليه، حسب بويل، أن يعترف بالثقافات المتغيرة وينضم إلى حملات التوجيه المطالبة بالمساواة الكاملة بين المرأة والرجل. عليه أن يعي ويحترم، كما قال المخرج في تصريح له، للرسالة التي تبنتها حركة «أنا أيضاً» وتلك المسمّـاة بـ«مرحلة انتهاء الوقت» (Time’s Up Era) ومثيلاتهما.
هذا، لو حدث، سوف لن يكون طبيعياً. كان رد الجهة الإنتاجية. ما ميّـز بوند، من العام 1962 عندما تم تحقيق أول أفلامه، إلى اليوم هو انفلاته من التقيد بقوانين العصر الذي مرّ به (أو بالأحرى، مرّت عليه).
إنه عميل فالت، متحرر، جمع دوماً بين اللهو والعمل ووجد المتعة ما بين المغامرات العاطفية وتلك التي تحمل في طياتها مخاطر الحياة والموت وأحياناً كثيرة ما اتحدت تلك المغامرات فإذا بالنساء اللواتي كان بوند يواعدهن مدسوسات لقتله أو لجره إلى بيت العنكبوت للقبض عليه.
منذ «دكتور نو» سنة 1962 خبرنا هذا العميل كصنف مختلف من العملاء. الأفلام الجاسوسية قبل ذلك الحين عرفت قدراً كبيراً من المغامرات والمطاردات وحبك الخطط التي قد تؤدي إلى إحباط عمليات أو إنجاحها، لكنها لم تعرف عميلاً يخرق القوانين كلها ومسلح لا بالمسدس فقط بل برخصة دولية تسمح له بأن يقتل ولا يُحاكم في أي بلد في العالم بدءاً ببلد المنشأ بريطانيا.
جاسوس رشيق القوام يعمل لصالح الحكومة البريطانية التي بدورها تعمل على نظام استخباراتي محكم يعادي النظم الشيوعية (في الستينات) والنظم الديكتاتورية (في الستينات وما بعدها) وينجح في كل مرّة في نسف جهود الجماعات الإرهابية المختلفة بمفرده أساساً. ربما عاونته امرأة هنا ورفيق له في المخابرات الأميركية هناك، لكنه البطل الذي يعيش ويدع غيره يموت كما يوحي عنوان أحد أفلامه سنة 1973.
عندما انتشر مرض الإيدز في مطلع الثمانينات تكاثرت الشكاوى من أن بوند لا يشجع المشاهدين على الامتثال لحملات الإرشاد الصحي التي قامت بها أوروبا حينذاك. أراد المطالبون من بوند تقييد حريته تلك والاشتراك في الحملة. لكن أفلام بوند لم تعبأ بذلك كما لم تكن لتعبأ بالحملات الأخلاقية التي سبقتها في الستينات.
وهذا ما قد يتكرر في الأزمة الناتجة عن انسحاب بويل. فالعميل الخاص لا يمكن أن يرتبط بحملات ونصائح وإرشادات وإلا لانقلب إلى «جاسون بورن»، كما يؤديه مات دامون أو «إيثن هنت» كما يؤديه توم كروز. الفارق أن سلسلة أفلام «بورن» و«مهمّـة: مستحيلة» التي تحاكي المغامرات الجاسوسية بثبات، لا تقدّم بطليها بورن وهَنت كشخصيتين منفلتتين ونرجسيّـتين. لا يعتز أحدهما بما يقوم به بالقدر ذاته الذي يفعله جيمس بوند.
تداعيات الأزمة في أفلام بوند الأخيرة، من «كازينو رويال» (2006) إلى «سكايفول» (2012) مروراً بـ«كم العزاء» (2008)، ورغم التمسك بشخصيته المتمحورة حول نفسه وبطولاته، شاب المواضيع قدر ملحوظ من التغيير الذي كان لا بد منه.
بوند في هذه الأفلام بات معرضا للقتل بصورة أكثر واقعية وأخطر من أي وقت مضى. وهو قد يقع في الحب عملياً وقد يفكر بعلاقة عاطفية طويلة الأمد، شرط أن يخسر هذا الاحتمال في النهاية.
ما ارتآه المخرج بويل هو أن على بوند أن يتغير أكثر ليناسب أوضاع الزمن الحالي. ما تمسك به المنتجان بروكولي وويلسون هو أن بوند لا يستطيع أن يتنازل أكثر من ذلك وإلا لأصبحت شخصيته بلا مخالب ولباتت حكاياته لا تعدو، في عالمها، أكثر من استنساخ لأفلام من النوع المسالم الذي يخشى من جماعات الاستنكار والرفض.
لكن للأزمة الحالية جوانب أخرى. تداعيات ناتجة عن انسحاب بويل المفاجئ.
فالتصوير كان سيبدأ بعد ثلاثة أشهر. الآن بات الأمر يحتاج إلى ثلاثة أشهر أخرى على الأقل قبل أن يصيح المخرج الذي سيتولى العمل (والذي لم يتم تعيينه بعد) بالكلمة السحرية «أكشن». هذا لأن بويل كتب السيناريو بالتالي، سوف لن يكون محتملاً قيام المنتجين بتبني السيناريو من دون الموافقة على أسباب الخلاف أساساً وفي هذه الحالة سيبدو الأمر كما لو أنهما لم يجيدا تداول العمل على النحو الصحيح. هناك سيناريو جاهز من الكاتبين روبرت ويد ونيل بورڤيز اللذان كتبا «سكايفول» لكن هذا السيناريو توقف العمل عليه عندما انسحب المخرج سام مندز قبل ستة أشهر أو نحوها من العمل على المشروع الجديد بسبب ارتباطاته. هذا يعني أنه إذا ما اعتمد المنتجان سيناريو ويد- بورفيز فإن كل الاستعدادات لتصوير الفيلم الجاهز سوف يتم إلغاؤها بما في ذلك الأماكن التي تم تعيينها للتصوير ناهيك على القصّـة بكاملها.
لا يختلف كثيرون في نهاية المطاف، من أن بوند اليوم عليه أن يشطب من هويّـته السينمائية بعض الخانات التي كانت صالحة (ولو إلى حد) في العقود السابقة. وهذا ما كان بوشر به فعلاً نتيجة ضغوط الليبراليين وأصحاب الرسالات الاجتماعية. لكن لا يمكن، ولا يجب أن يصبح ممكناً، أن يتحوّل بوند إلى شخصية عائلية مثل «ماري بوبينز». المحنة الصعبة هي أن على بوند المقبل أن يحافظ على شخصيته وهويته وفي الوقت ذاته التقليل من سطوة الصورة التقليدية التي صنعته وهذا بدوره فعل يقارب المستحيل.
من ناحية أخرى، فإن المنادين بالتغيير كانوا طالبوا، على سبيل المثال، بأن يتم تحويل بوند إلى امرأة وآخرون تساءلوا لما لا يكون بريطانياً أسود البشرة. والممثل الباكستاني - البريطاني المنطلق ريز أحمد أعلن استعداده ليكون بوند آسيوي البشرة. لكن أي من هذه المقترحات لا تأخذ بعين الاعتبار لا تاريخ السلسلة ولا الهوية التي اكتسبتها اختلافاً عن كل الأفلام المنافسة الأخرى. وأن أي بوند جديد عليه أن لا يخرج عن الخط العام الذي تبنته الحلقات منذ البداية إلا بمقدار محدود.
لكن هل سيكون هناك بوند جديد بالفعل؟
لقد صرّح الممثل دانيال كريغ بأنه سيكون سعيداً عندما ينتهي عقده ويُطلق سراحه من تلك الشخصية (التي سابقاً ما تنافس عليها الكثيرون) وقال في تصريح لاحق «أفضل أن أقطع شرايين رسغي على أن أعود لتمثيل بوند». لكن ما يحدث الآن هو أكثر فداحة من رأي ممثل. لقد مرّت خمس سنوات على إنتاج بوند الأخير «سكايفول» وكان من المفترض خروج الفيلم المقبل سنة 2020. الآن يبدو أن ذلك بات صعباً كما أنه من الفداحة بمكان كبير أن يتم دفع الفيلم عاماً آخر.
لقد انتهت تلك الفترة التي كانت أفلام بوند تُنتج سنوياً (سبعة أفلام في ست سنوات ما بين 1962 و1967) وازداد عدد المستنسخين مثل سلسلتي بورن وهَنت و«كينغزمان» وربما (ولو أن الاحتمال ضئيل) سيعلن المنتجان أنهما ليسا بصدد إنجاز الفيلم الجديد حالياً. لكن الثابت أن التخلي عن صورة بوند الأصلية مقابل استبدال أسلحته العنيفة ومغامراته النسائية لن يفيد أي بوند جديد على الإطلاق إذا ما لم يجد صانعو الفيلم المقبل نقطة توازن باتت ضرورية.
جيمس بوند {في خطر} مع تراجع داني بويل عن إخراج أحدث مغامراته
هل حان الوقت لإغلاق ملفّ {العميل 007} أو تعديل وضعه؟
جيمس بوند {في خطر} مع تراجع داني بويل عن إخراج أحدث مغامراته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة