من هو الأهم والأفضل... تشابلن أم كيتون؟

سؤال يتردد منذ مائة سنة

TT

من هو الأهم والأفضل... تشابلن أم كيتون؟

ما زالت المحكمة منعقدة منذ 100 سنة أو نحوها بين اثنين من ملوك الكوميديا، بل لنقل مَلكَي الكوميديا بلا منازع: بستر كيتون وتشارلي تشابلن. السؤال الذي يوجهه النقاد والجمهور الهاوي للكوميديا وذاك المتيّـم بحب السينما الصامتة هو من بين هذين الكوميديين الكبيرين أجدر بأن نعتبره أكثر أصالة وأعلى موهبة وأهم تاريخاً؟
ما يزيد المسألة تعقيداً أن هذه المحكمة تستند في حيثيات هذه القضية إلى حسنات أكيدة يتمتع بها كل طرف وتشهد انقساماً بين هواة الكوميديا الصامتة. البعض يفضل تشارلي تشابلن والبعض الآخر لا يحيد عن تأييده بستر كيتون.

- خلفية لا تخلو من التشابه
تمهيداً لمحاولة الإجابة عن سؤال أيهما الأفضل (إذا ما كان سيقيد لهذه المحاولة أي نجاح هنا) لا بد من القول، إن تشارلي تشابلن لديه، لليوم، قاعدة شعبية أكبر من تلك التي لكيتون. الناس من حول العالم وقعوا في حب الصعلوك وضحكوا لحركات كيتون، لكنهم وجدوه أكثر ابتعاداً عنهم. ولهذا سبب مهم.
تشابلن كان رجل أعمال بارعاً. كيتون لم يكن. طموح تشابلن كان من البداية النجاح وحده، وهو قال ذات مرّة «أنا في السينما لكي أصنع ثروة». ليس أنه لم يكن يستحقها، لكن المقابل عند كيتون أرفع شأناً؛ فذلك الكوميدي اشتغل في السينما لأجل الفن، ونستطيع أن ندرك ذلك من خلال مراقبة دقيقة لأعماله (70 فيلماً قصيراً و15 فيلماً طويلاً)، وكيف مكّنها من الخروج من نطاق الموقف الفردي وحده صوب إشراك رتب وأوجه الحياة المختلفة في أعماله.
هو ذكاء تشابلن مختلطاً بطموحه الذي دفعه، وقد وُلد في السادس عشر من أبريل (نيسان) من سنة 1899، لمغادرة بريطانيا صوب نيويورك متوسماً النجاح في السينما التي بدت منذ ذلك الحين، أي نحو سنة 1908، أكثر سعة وإنتاجاً. الظروف ساعدته آنذاك من حيث إنه كان انتمى إلى فرقة «فرد كارنو» الكوميدية المسرحية التي كانت تقدّم على مسارح لندن استعراضاتها المضحكة. وهذه قررت التوجه إلى نيويورك مع أعضائها (وبينهم تشابلن) لتقديم «نمرهم» التي لم تكن تزيد على سبل تهريج مباشر.
في حين عاد أفراد الفرقة إلى لندن، بقي من بينهم اثنان فقط هما تشارلي تشابلن وستان لوريل الكوميدي النحيف الذي شكّـل نصف الثنائي المعروف بلوريل وهاردي.
ذكاء وطموح تشابلن قاده للعمل في شركة كيستون ستديوز النيويوركية التي تخصصت في إنتاج الأفلام الضاحكة القصيرة، وذلك في سنة 1914. والدافع الذاتي نفسه أوصله إلى قرار الاشتراك بتأسيس شركة خاصة لتوزيع الأفلام لجانب الممثل دوغلاس فيربانكس والممثلة ماري بيكفورد والمخرج (غير الكوميدي) د. و. غريفيث.
ليس هناك أي إدانة لمنهج تشابلن بصفته رجل أعمال، ولا لنجاحاته في هذا السبيل؛ فهو مزج بين الجانب التجاري والجانب الفني بمهارة لا تُـقاوم واستطاع أن يجني حب الملايين من رواد السينما حول العالم جنباً إلى جنب الأرباح التي مكّـنته سريعاً من المحافظة على مسافة عملية واضحة بينه وبين كل أترابه الآخرين في صناعة الفيلم الكوميدي بدءاً بكيتون ومروراً على هارولد لويد وروسكو فاتي أرباكل وهاري لانغدون على وجه التحديد.
كيتون، الذي وُلد في بلدة صغيرة في ولاية كانساس في الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1895، جاء من ظرف مختلف إلى حد. فبينما ورد تشابلن من عائلة لندنية فقيرة وخسر والدته عندما تم إدخالها، وهو بعد ما زال في التاسعة من العمر، إلى مصحة نفسية. عاش كيتون في كنف والديه. لم تكن أحوال العائلة المادية بالسوء ذاته، مقارنة بأحوال عائلة تشابلن، لكنها لم تكن مستقرة، بل كثيرة التنقل بسبب اشتغال الأبوين على مسارح كوميدية استعراضية جوّالة.
في السنة التي وُلد فيها تشابلن، كان كيتون تسلق خشبة المسرح وهو في الثالثة من عمره. عنوان البرنامج الذي قدّمه والداه كان «ذا ثري كيتونز» (The Three Keatons) للدلالة على أن الطفل الصغير هو من أساس الفرقة.
كلاهما، تشابلن وكيتون، إذ حطّا على أرض الكوميديا والتحقا بقطاره في سن مبكرة، يشتركان في أنهما اكتفيا بالقدر القليل من التعليم. القدر الذي مكنهما لاحقاً من الكتابة والقراءة (بما في ذلك كتابة وقراءة سيناريوهاتهما).

- عناصر مشتركة ومتباينة
معظم ما هو مشترك بينهما في مرحلة النشأة، ينتهي هنا لتبدأ الطريق بالانفصال بينهما كل في اتجاه موازٍ ومنافس.

- كيف يسقط وكيف ينهض
أولى لُـبنات هذا الاختلاف يكمن في طبيعة الإلقاء: كيتون هو عجينة الكوميديا البدنية. شغله صغيراً على المسرح عرّضه للكثير من تمثيل مشاهد الخطر البدنية لدرجة أنه ألّف هذه المخاطر التي طوّعت جسده على تحملها وكوّنت ليونة عظامه وتلقائية استخدام البدن في أشكال عدة. بذلك وُلد كيتون من رحم العمل صغيراً في المسرح والسيرك والحركات الصعبة. ومارس تلك الحركات ووظفها لاحقاً في مشاهد مذهلة بعد مرور مائة سنة على بعضها.
تشابلن ورد على نحو طبيعي أكثر. لقد ابتدع شخصيته (شارلو ذا الشارب القصير والقبعة ذات الأطراف القصيرة والسروال الواسع والحذاء المعكوف) بصورة مدروسة. وضعها ولم يرثها. لم يعتمد على الحركة لذاتها، بل على رد الفعل الذي تليها وهنا يلتقي مع لوريل وهاردي وهارولد لويد. والفارق في هذا الشأن يتبدّى من خلال دراسة رد فعل كل من كيتون وتشابلن على لازمة متكررة في أفلامهما وهي السقوط أرضاً.
في فيلم لتشابلن فإن السقوط يحمل قدراً من التمثيل. تشابلن يريد أن يضع هذا السقوط بين هلالين. في أي من أفلام كيتون السقوط هو الحدث ولا حاجة إلى تمييزه. تبعاً لذلك حين يسقط تشابلن أرضاً، فإن تمثيله السقطة هو تمهيد لإظهار كيف سينهض من سقوطه. كلاهما، السقوط والنهوض، يدخل في عداد تمثيل اللحظة لعرضها مطوّلة. عند كيتون، بالمقابل، فإن السقوط والنهوض أسرع. حالتان متوازيتان لا تكاد الأولى أن تنتهي حتى تعقبها الثانية (إلا إذا كان هناك حدث سينتج عن السقوط ذاته).
بذلك؛ فإن النهوض سريعاً والمواصلة يخطفان المشاهد صوب الدهشة. في حين أن سقوط تشابلن ونهوضه يمنحانه وقتاً أطول لتكوين الضحكة التي يرتاح الجمهور إليها؛ لأنها منحته وقتاً للمشاركة أطول.
هذا جزء من اختلاف أكمل وأوسع بين الاثنين يتعلق بدراسة فن الإلقاء ويشترط دراسة أوسع شأناً.

- الوحدة مقابل المشاركة
بستر كيتون هو الشخص الذي يبدأ وينتهي وحيداً. وحدته جزء من شخصيته التي لا تضحك. تشابلن قد يبدأ وحيداً، لكنه يجد شريكاً يتبادل وإياه العاطفة الإنسانية (كما في «الفتى») أو الحب (نهايات بعض أفلامه التي تصوّره وقد انتهى بصحبة الفتاة التي أحب متجهين صوب بداية جديدة). الضحك في هذا النطاق، يضع تشابلن ممثلاً لعاطفة وكيتون ممثلاً لحالة أعمق وجدانياً.
عند كيتون هذه الوحدة ضرورية لفرز الحالة العاطفية. شرط لكتابة الدور: هو دوماً يريد الفوز بإعجاب الطرف الآخر. نجده يحتاج إلى حب أبيه في «ستيمبوت بوت بل». يحتاج إلى حب الفتاة («الجنرال» أو «كاميرامان»). وهو وإن يحصل على ما يريد أحياناً يبقى وحيداً في كيانه كما لو أن نيل الحب فعل لا ينتهي.
أحياناً أخرى قد ينقلب عليه بالعواقب كما الحال في «سبع حظوظ» (1927) عندما يعلن عن حاجته إلى الزواج قبل الساعة السابعة مساءً شرطاً لتمكينه من ورث ملايين الدولارات فإذا بجمهور غفير من النساء (أكثر من مائة) يطاردنه في الشوارع ويدخل الكنيسة وراءه، كل تطلب أن تكون العروس.
هذا، وسواه من الأفلام، يجعل كيتون في مدار أوسع من الأماكن والشخصيات فهو وحيد بذاته ولذاته، لكنه ليس وحيداً في محيطه الاجتماعي.3

- الشكل والمحتوى
عند تشابلن المحتوى يأتي قبل الشكل. عند كيتون الشكل قبل المحتوى.
في «اندفاع الذهب» (1925) نجد مضمون الفيلم غالباً في مطلعه وحتى نهايته على الشكل حتى في المشاهد الشهيرة لتشابلن وهو يتعرض لخطر تحوّل شريكه إلى آكل لحم بشر من شدة جوعه. ما يستنبطه تشابلن من حركات هنا بديع وعبقري معاً بما في ذلك طبعاً تناول رباط الحذاء كما لو كان «سباغتي» بقناعة تثير تعجب وغيظ ذلك الشريك (قام به ماك سواين). لا ينسى تشابلن أن يرش الملح على شريط الحذاء ويتناوله بالشوكة تماماً كما يفعل لو كان يتناول الأكلة الإيطالية الأشهر. بعد ذلك هناك الحذاء نفسه الذي يعامله تشابلن معاملته السمكة.
هذا جزء من تلاقي تشابلن مع الجمهور على نحو عريض. على العكس منه كيتون الذي يريد للشكل أن يأتي في مقدمة المضمون وبالتالي تلك العلاقة. هذا واضح في «ستيمبوت بل جونيور» (1928) عندما نراه وقد نجا من سقوط جدار عليه لمجرد أن الجدار فيه فتحة لنافذة تم قياس بعدها بدقة لكي تسقط، حيث يقف من دون أن يُصاب بأذى. هذا المشهد، وسواه الكثير في أفلام أخرى، يقع (ويثير الذهول لليوم) رافعاً من قيمة كيتون ممثلاً ومخرجاً ومصمماً فريداً لأفلامه. في آخر اهتماماته منح نفسه نصف دقيقة يعبّـر فيها للجمهور عن مشاعره لنجاته، بل ينطلق سريعاً لمشهد آخر حتى يحافظ على تواصل كوميديا الحركة التي يؤمن بها.

- موضع السخرية
كل من كيتون وتشابلن ساخران؛ كون الكوميديا مبنية، في أحد أسسها، على السخرية من شيء ما رئيسي لدى كل كوميدي: الذات أو الآخر أو المدينة أو العصر الخ... عند تشابلن سخريته تنضوي على التقليل من شأن الآخر سواء أكان رجل شرطة (مصدر الكثير من النكات بالنسبة لكلا الكوميديين) أو رجلاً مدنياً.
ما يسيء لفن تشابلن هو أن هذه السخرية تحمل نقداً غير متوازن. فبينما تتوجه للنيل من الآخر تعفي نفسها من اللوم. تشابلن هو الإنسان المحب الذي قد يضطر إلى الخطأ وفي هذه الحالة، كما في فيلمه القصير «المغامر» (1917) سيتصرف كما لو أن الخطأ هو خطأ الآخرين حياله.
في هذا المثال نجده هارباً من السجن ومن مطاردة رجال البوليس الذين يفشلون في القبض عليه. طوال تلك المحاولة يتعرض كل شرطي لعقوبة من الضرب والسقوط (مبررة بأن الجمهور يضحك متفشياً عندما تكون الضحية من رجال القانون). ثم ينقذ تشابلن فتاة وأمها من الغرق كذلك الرجل الضخم الذي كان يحاول كسب عاطفتها. كرد جميل تستضيفه الفتاة (إدنا بورفيانس) في منزل والديها الثريين. فجأة ينتمي شارلو إلى المجتمع الراقي، ولو أن ممارساته ما زالت من الطبقة الشعبية.
انتماء شارلو إلى ذلك المجتمع ادعاء لكي لا يكشف للفتاة التي أنقذها والتي تبادله الإعجاب حقيقة أمره. لكن مفهوم التصرف بصفته ثرياً يكشف عن سخريته من تلك الطبقة، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن تشابلن من بين أكثر ممثلي عصره ثراء في ذلك الحين. كما أن مشاهده وهو يتصرف بصفته ثرياً معاكسة لمشاهد كيتون وهو في دور الثري. كيتون لا يسخر من الثراء (ولا من الفقر)، بل يلعب دوره تبعاً لشروط الحكاية.
اندماج كيتون بشخصيته هو أقرب واقعية. هناك سخرية، لكنها لا تعكس حقداً، بل تستخدم لغاية الضحك الخالص وهي تنطلق وتنتهي به هو. حين يحاول الدفاع عمن يحب لا يرفس غريمه على قفاه. لكن لاحظ ما يحدث في «المغامر» أو ابدأ بتعداد الرفسات التي يوجها تشابلن لكل من عاداه (تزيد على عشرين رفسة) لتجد أنها جزء من ابتزاز كوميدي للجمهور يقتحم حدود التهريج.

- المضمون الاجتماعي
ليس صحيحاً أن أفلام بستر كيتون خالية من المضمون، لكن - وكما ذكرت آنفاً - هي في المركز التالي من الاهتمام. هذا كان كافياً للتغاضي عنها لدى جمهور المثقفين الذي صفق لتشابلن انغماسه في الجانب السياسي في بعض أفلامه. يكفيه في ذلك فيلمه «الديكتاتور العظيم» (1940) حيث يتعرض لشهوة هتلر (من دون تسميته) للسيطرة على العالم. ومشهد رفعه العلم الأحمر الذي سقط من الشاحنة العابرة في الوقت الذي تصل إليه مظاهرة عمالية في «أزمنة معاصرة».
هذان الفيلمان يجمعان كل تلك الثنايا من الأفكار التي سبق له تداولها في بعض أفلامه عن الفقر والحاجة إلى العدالة وعن المهاجرين وسلطة القوي على الضعيف. وهذه غابت عن معظم ما أورده كيتون في أفلامه باستثناء أنه تعامل مع التاريخ الأميركي ذاته أكثر من تعامله مع السياسة، كما الحال في «الجنرال» (1926) الذي عرض للحرب الأهلية بين الشمال والجنوب ومع عناصر المجتمع (سود وآسيويين)، وهو أمر غاب عن أعمال تشابلن.
يمكن الغوص أكثر في فروقات أخرى، لكن ذلك سيكون على حساب شروط التحقيق الصحافي. ما يمكن أن نخلص إليه هو أن كليهما مبدع بطريقته. هذا ليس من باب تعادل النقاط وخروجهما معاً متوازياً مع الآخر، بل من باب أن الحقيقة في النهاية تتبع أي نوع من الجمهور نحن. فمن يحبذ الرسالة الظاهرة والعاطفة الواضحة ويجد فيهما السبب الذي يدفعه إلى مشاهدة فيلم ما سيفضل تشارلي تشابلن بالطبع.
أما الذين يريدون ما هو أصعب منالاً من ذلك ويهوون تصاميم المشاهد ودورها في خلق مشاهد صعبة التنفيذ، لكنها منفذة ببراعة فنية عالية، فإن بستر كيتون هو من يعتبرونه الفنان الأعلى مقاماً، خصوصاً أن الرجل كان مخرجاً أفضل، في التفاصيل كما في العناصر الأساسية كإدارة المجاميع وتوظيف المونتاج، من زميله تشابلن.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)