حبس اللبنانيون أنفاسهم للمرة الأخيرة وهم يتابعون مسلسل «تانغو» في الحلقة الـ31 منه والأخيرة في موسم رمضان. فهذا العمل الذي سرق اهتمام المشاهد منذ بداية انطلاقته في الموسم المذكور حافظ على إيقاعه التشويقي طيلة عرض حلقاته. فتفاعل المتفرج مع مجريات أحداثه محاولا أكثر من مرة حلّ ألغازها «الشرلوك هولمزية» الواحدة تلو الأخرى والتي تكمن عقدتها الأساسية في معرفة هوية قاتل فرح حبيب التي جسدت دورها دانييلا رحمة. فمشاركة هذه الأخيرة في عمل بطولي تمثيلي ولأول مرة شكّل بحدّ ذاته مفاجأة لمتابعي العمل. وجاءت قصته الرومانسية والبوليسية معا والتي تنطوي على عناصر فنية جمّة (في أسلوب الإخراج وحركة الكاميرا وأداء الممثلين وغيرها) لتتوج «تانغو» مسلسلا لافتا غرّد خارج السرب في موسم رمضان. فربح بذلك التحدي الذي أطلقاه منتجه جمال سنان ورئيس مجلس إدارة تلفزيون «ال بي سي آي» بيار الضاهر عندما أكدا أكثر من مرة بأنه سيحقق النجاح المطلوب في فضاء موسم رمضان.
ومنذ الحلقة الأولى للمسلسل عرف مخرجه رامي حنا كيف يجتذب اهتمام المتفرج في مشهد قوي مليء بالإثارة والتشويق يترجم بداية العقدة ونهايتها في آن، من خلال حادث السيارة التي انقلبت رأسا على عقب وهي تقل بطليه الزوج عامر الباشا (باسل خياط) وعشيقته فرح حبيب (دانييلا رحمة).
وبعدها توالت أحداث القصة المقتبسة عن عمل درامي أرجنتيني (حب بعد حب) من فئة السوبر أوبرا اشترت حقوقه شركة «إيغل فيلمز» للإنتاج وكتبه بنسخته العربية أياد أبو الشامات. ورغم اعتراف الشركة المنتجة باقتباسها للعمل (يشار إلى ذلك في بداية التتر) فإن كاتبه يؤكد بأنه انطلق من فرضية الخيانة بين الأزواج الأربعة (عامر ولينا وسامي وفرح) وبأنه مع وصوله إلى الحلقة السابعة منه أخذه إلى منحى آخر لينسجم بتركيبته الاجتماعية مع مجتمعنا العربي.
فمشكلات الخيانة الزوجية الرائجة بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة في المجتمع اللبناني وغيره من البلدان العربية أسرت المشاهدين من الجنسين. فقرر بعضهم متابعة العمل ليستشف منه العبرة المرجوة من حبكته فيما وجدت فيه نسبة أخرى حكاية واقعية تخاطبهم مباشرة وتلامسهم عن قرب.
وبعكس العنوان العريض لمسلسل «الهيبة» والذي يبرز في شارته الغنائية (أكثر ناس عرفوا الصح هني اللي عملوا غلط) فإن «تانغو» ومنذ حلقته الأولى نقل إلينا هذا الصراع الذي يعيشه الناس ما بين الصح والخطأ وليؤكد مع عروض حلقاته المتتالية بأنه «لا يصح إلا الصحيح». فشرّح في علاقات حب ثنائية المطبات التي يمكن أن تمر بها وكيف يمكن تفاديها فيما لو عرف الطرفان متى وكيف يوقفان نزيف علاقة غير ناجحة تدور بينهما. فيتحاوران لاكتشاف الأسباب التي أوصلتهما إلى الطريق المسدود أو ينفصلان حبيا بعد فقدانهما الأمل بانعاشها من جديد.
ولعل ما أنقذ المسلسل من إيقاع روتيني ممل هو تناوله مشكلات عدة علاقات ثنائية تجري بين أبطاله من زوجين وصديقين وحبيبين وزميلي عمل. فكانت في كل مرة تحمل في طياتها رسالة جديدة يبلورها نمط أدائي واحترافي للممثلين المشاركين في العمل كباسم مغنية ودانا مارديني ويوسف حداد وطلال الجردي وليزا دبس وغيرهم.
ومع عروض حلقات المسلسل المتتالية راح يفك المشاهد أحجيتها الواحدة تلو الأخرى بعد أن كان يزودهم المخرج بمفتاحها. وتضمنت الحلقة الأخيرة من «تانغو» ثاني أقوى مشهد تمثيلي فيه من نوع الـ«أكشن» (بعد مشهد حادث انقلاب السيارة).
ويحكي هذا المشهد لحظة هجوم (عامر) على عشيقته (فرح) في نادي الرقص الذي تعمل فيه لتخديرها في محاولة منه لتهريبها خارج البلاد بعيدا عن أعين رجال عصابة المافيا بعد أن أمروه بقتلها. فصحيح أنه واحد من أهم رجالها الموثوق بهم لتخليص أعمالها الخارجة عن القانون، إلا أنه كان مضطرا ولأول مرة في حياته لأن يخالف أوامرها. فهو يعشق فرح ولا يستطيع العيش من دونها وبالتالي لا يمكنه قتلها. وقدم المخرج هذا المشهد بعينه الفنية المتطورة والثاقبة لتكون بمثابة لوحة «رقصة الموت» التي تحمل آخر نفس لـ«فرح» قبل إعدامها من قبل كريم (يوسف حداد). فهذا الأخير نفذ أمر قتلها بدماء باردة خوفا على حياته، كما اعترف لرجال الشرطة بعد أن أطلق النار على السيارة التي تقل العشيقين. فخان الصداقة التي تربطه بـ«عامر» من أجل الحفاظ على مصلحته الشخصية وعلاقاته الجيدة مع العصابة. وحمل مشهد خطف فرح وتخديرها كل مشاعر الشغف والخوف والحب التي يكنها العشيقان لبعضهما البعض. فخطوات عامر باتجاه فرح وطريقة تحكمه بجسدها لتخديرها وإمساكه بها، إضافة إلى محاولات فرح للإفلات منه بخطوات خلفية وأمامية ووضعية يديها حول كتفه مستنجدة بحبهما شكلت مجتمعة رقصة «تانغو» من نوع آخر بعناصرها الفنية والتقنية معا.
وفي ظل كل هذه المعمعة التي تتضمنها أحداث الحلقة الأخيرة لم ينس المخرج تزويد المشاهد برسائل اجتماعية وإنسانية لتتحول أحداث العمل بأكمله إلى دروس في الحياة ترتكز على عنوان كبير ألا وهو ضرورة الاستفادة من الفرص التي تقدمها الحياة للمرء بصورة غير مباشرة لينقذ علاقته مع الآخر وبالتالي نفسه فيعيش بسلام. وحدها لينا (دانا مارديني) كما يظهر لنا المسلسل استطاعت أن تتزود بالسلام مع النفس، وبالتالي بفرصة إكمال حياتها بشكل طبيعي لأنها كانت الوحيدة بين الباقين التي اختارت دائما الوضوح كقاعدة ذهبية تهيمن على تصرفاتها مع الآخر. فكانت صاحبة شخصية شفافة وصريحة مستعدة لأن تضحي بحقوقها من أجل سعادة الطرف الآخر الذي تتعامل معه. فهي ركنت إلى رغبة زوجها في تخليها عن أصدقاء الجامعة وشاركته فرحته في إهداء صديقتها فرح سيارة فارهة في مناسبة عيد ميلادها، فكانت شريكة حقيقية وصادقة رغم أن نصفها الآخر يخونها ويستغل طيبتها. واعتمدت «لينا» هذا الأسلوب في التعامل مع الآخر حتى بعد اكتشافها حقيقة زوجها الخائن. فاستوعبت الموضوع إلى حد ما محافظة على علاقتها مع والدته ومثابرة على تربية ابنهما كنان. ولكن ذلك لم يمنعها من التقدم بدعوى طلاق إلى المحكمة من زوجها الراكد في الغيبوبة. وتسدل الستارة على الحلقة الأخيرة من «تانغو» في مشهد يجمع ما بين لينا (زوجة عامر) وسامي (زوج فرح) يحمل بصيص أمل لشخصين يبدآن حياتهما من الصفر، فتصارحه خلاله بأنها استطاعت ورغم كل الصعوبات التي مرت بها في هذه المرحلة بأن تحصل على «رفيق العمر»، مشيرة إلى إمكانية انطلاقهما معا في مرحلة جديدة.
رقصة الموت في «تانغو» لوحة إخراجية ميّزته
تضمن في حلقته الأخيرة رسائل اجتماعية عدة
رقصة الموت في «تانغو» لوحة إخراجية ميّزته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة