يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

رفضَ القذافي منحها استثمارات في الغاز والعقارات والمصارف... فبدأت المشاكل

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا
TT

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

في الحلقة الخامسة من سلسلة تحقيقات «يوميات الود والخصام» بين نظام معمر القذافي وعدد من المسؤولين حول العالم، تكشف تفاصيل حصلت عليها «الشرق الأوسط» قصة الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا ورفض الأخيرة منح الدوحة استثناءات للاستثمار في الغاز والعقارات والمصارف، ما أدى إلى تحوّل أيام الصفاء إلى كابوس.
وقال مسؤول ليبي سابق إن الدوحة كانت تسعى إلى الحصول على مقابل خدمات قدمتها سلفاً لطرابلس، منها صرف قطر نحو 900 مليون دولار للمساعدة في حل خلافات دولية كانت ليبيا طرفاً فيها، من بينها 400 مليون دولار لـ«صندوق ضحايا الإيدز»، و500 مليون دولار فيما يعرف بـ«الاتفاق الليبي الشامل» مع الولايات المتحدة لتسوية القضايا العالقة. ووفق شهادات صوتية يحتفظ بها مسؤولون في النظام الليبي السابق، طلبت قطر، بعد ذلك، شراء أصول وإقامة مشروعات في ليبيا بثمن بخس، بحسب تقدير الليبيين، منها مشروع «المصرف الليبي القطري» ومشروع للأراضي في كل من منطقة «باب طرابلس» ومنطقة «جنزور»، إلى جانب حقول للغاز في «حوض غدامس».

يقول مساعد لسيف الإسلام، نجل القذافي، إنه حضر جانبا من هذه المفاوضات بين الليبيين والقطريين، وإنه حين تباطأ مسؤولو طرابلس في الاستجابة للمطالب القطرية، قام الشيخ حمد بن جاسم بزيارة للعاصمة الليبية، في صيف 2010. ووفق روايات عدة، من أطراف كانت حاضرة للمشهد أو مطلعة على تفاصيله، فقد جاء الشيخ حمد غاضباً، والتقى بسيف الإسلام، في وجود كل من رئيس الوزراء في ذلك الوقت، البغدادي المحمودي، ورئيس المخابرات العسكرية عبد الله السنوسي، ورئيس مؤسسة النفط الليبية، الراحل، شكري غانم. وقال الشيخ القطري في ذلك الاجتماع ما معناه: نحن أعطيناكم أموالاً، وأنتم لم تفوا بتعهداتكم.
وعلى هذا بدأت الخلافات التي تجلّت في أوضح صورها حين ظهرت قطر كأحد المتحمسين للإطاحة بنظام القذافي في مطلع 2011، سواء من خلال نشاطها في المحافل الدولية، أو بتجنيد قناة «الجزيرة» في تأجيج المشاعر المناهضة لحكم العقيد الراحل، أو بتمويل أطراف ليبية، حتى بعد سقوط النظام السابق، ومنها مؤسسات إعلامية كـ«مؤسسة الوسط»، المسجلة في بنغازي، والتي تعمل حالياً انطلاقاً من القاهرة.
وحضر رجل الأعمال اللبناني، زياد تقي الدين، اجتماعات على العشاء والغداء، في طرابلس ولندن وباريس، مع أطراف مختلفة كانت تسعى إلى الحصول على امتيازات في ليبيا، من بينهم الشيخ حمد نفسه. وفي نهاية المطاف يختصر تقي الدين، كل ما جرى بالقول إن الدوحة «كان هدفها تكسير النظام الليبي، وكسرته».
وعلى كل حال، تعود قضية ضحايا الإيدز في ليبيا إلى عام 1999، حين جرى اتهام خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني يعملون في مستشفى للأطفال في مدينة بنغازي، بحقن 426 طفلاً ليبياً بدم ملوث بفيروس الإيدز. وبعد الحكم على هؤلاء المتهمين بالإعدام، ثار جدل بين ليبيا وأوروبا حول القضية، استمر حتى سنة 2007، حين سوي الموضوع. ويقول مساعد سابق لسيف الإسلام القذافي: «المهم أن اتفاقاً حصل على أن يتم إطلاق سراح أولئك المحكومين، مقابل أن تحصل عائلات الأطفال على تعويضات». ويضيف: «كان يفترض أن تكون هذه التعويضات من الاتحاد الأوروبي، لكنه رفض. وعليه قالت الدولة الليبية إنه طالما لا توجد تعويضات لذوي الضحايا، فإن المحتجزين لن يخرجوا. وهنا تدخل القطريون ودفعوا مبلغ 400 مليون دولار أميركي لصندوق ضحايا الإيدز... لقد دفعت الدوحة هذا المبلغ، وجاء به (مسؤول في) المصرف المركزي القطري».
أما قصة «الاتفاق الشامل» بين الولايات المتحدة وليبيا، والذي كان يهدف إلى غلق كل القضايا التي تخص ليبيا في الخارج، فقد كانت قيمته ملياراً و800 مليون دولار، وأخذت هذه القصة عدة مراحل إلى أن تبلورت في الاتفاق النهائي. وهو أمر يبدو أنه تسبب في ترطيب الموقف الأميركي تجاه ليبيا، حتى قبل نهاية حكم جورج بوش الابن بسنة واحدة.
كان سيف الإسلام يرى أنه من أجل الاهتمام بقضايا الداخل، وتنفيذ برامج للتنمية لليبيين، لا بد، أولاً، من إغلاق ملفات الخارج، والتي كان من بينها قضية تفجير طائرة «يو تي إيه» مع الفرنسيين، وقضية تفجير طائرة لوكربي مع الأميركيين خصوصاً، وموضوع دعم الجيش الجهوري الآيرلندي مع البريطانيين، وقضية الملهى الليلي (لابل) مع الألمان، وغيرها من قضايا عبر العالم كان فيها ليبيون متهمين أو محكومين غيابياً.
وكان المتهمان الليبيان في لوكربي هما الأمين فحيمة وعبد الباسط المقرحي. وصدر حكم ببراءة فحيمة وإدانة المقرحي... ويقول صديق لسيف الإسلام القذافي كان عضواً في لجنة «الاتفاق الشامل» الذي أقره، في 2008، الرئيس الأميركي بوش، والكونغرس، في نهاية المطاف: «كان هناك من يقول لك: إذا دفعت عشرة ملايين دولار لكل عائلة ضحية من ضحايا لوكربي، فأنت تعترف بالمسؤولية، ويقولون لماذا دفعت؟». ويجيب قائلاً: «حتى لو صدر حكم ببراءة المقرحي، فالنظام القضائي في أميركا يسمح، مع ذلك، برفع قضية مدنية ضد ليبيا، وكانوا سيحصلون على عشرات مليارات الدولارات، بما قيمته أكبر بكثير من قيمة التعويضات. لهذا لجأنا لما يعرف بالحل خارج المحكمة... ووصلنا إلى صيغة بدفع عشرة ملايين دولار لكل ضحية، على دفعات».
كانت الدفعة الأولى أربعة ملايين دولار لكل أهل ضحية، تدفع عند رفع العقوبات الأممية عن ليبيا، والتي كانت قد صدرت بالقرار رقم 748. ثم عند رفع العقوبات الأميركية، يتم دفع مبلغ أربعة ملايين دولار أخرى لكل عائلة ضحية. وبعد ذلك، وعند رفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، يتم دفع المليونين المتبقيين لكل ذي ضحية.
وتمكنت ليبيا من دفع ثمانية ملايين دولار لعائلة كل ضحية من ضحايا لوكربي. ويقول مساعد سيف القذافي: «كان هناك جدول زمني لهذا الموضوع... دفعنا الثمانية ملايين دولار، لكن المليونين الأخيرين لم ندفعهما، لأن الجانب الأميركي تأخر في رفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، حتى أبريل (نيسان) 2006. وكان يفترض أن يرفع اسم ليبيا من هذه القائمة سنة 2003».
وفي سنة 2008 بدأت بعض القضايا تُرفع أمام المحاكم الأميركية، لتجميد أرصدة ليبية في الخارج، جزء منها في قضايا أخرى متهمة بها ليبيا بالإرهاب في العالم. ويضيف مساعد سيف الإسلام: «وبالفعل صدر حكم في محكمة اتحادية، في نيويورك، بتجميد أرصدة ليبية، فكان لا بد من إيجاد حل شامل، لأن محامينا، والإدارة الأميركية في ذلك الوقت، نصحونا، وقالوا لنا حلوا المشكلة الآن، قبل أن تتضخم وقد تصل قيمة التعويضات إلى مئات المليارات».
وعلى هذا الأساس تم تشكيل لجنة «الاتفاق الشامل»، بعد أن التقى سيف الإسلام، مع ديفيد وولش، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، واللقاء تم في برلين. واتفقا على ضرورة المضي قدماً في حل شامل للقضايا العالقة خارج المحكمة على أن تغلق كل القضايا وتمنح المؤسسات الليبية الاعتبارية الحصانة أمام القضاء الأميركي.
وجرى التوصل لاتفاق بدفع مبلغ مليار وخمسمائة مليون دولار لحل كل القضايا العالقة مع ليبيا في الخارج، بالكامل. على أن تُسقط كل القضايا المرفوعة ضد ليبيا، بعد دفع هذا المبلغ، ويكون غير مسموح أن ترفع أي قضية ضد ليبيا في أميركا مجدداً، وإعطاء حصانة لمسؤولي الدولة الليبية، وللأصول الليبية، بحيث لا يستطيع أحد أن يجمدها.
ويقول المساعد القريب لسيف الإسلام إن «الفكرة كانت تنصب على إنشاء صندوق قيمته مليار وخمسمائة مليون دولار، لكن بعد ذلك أصرَّ القائد (القذافي) وقال: لا... فبالإضافة إلى تعويض ما يسمى بضحايا الإرهاب الليبي، يجب أن يُعوَّض الليبيون الذين هم ضحايا الغارة الأميركية على ليبيا عام 1986. وعلى هذا أضيف للصندوق مبلغ 300 مليون دولار كتعويض للجانب الليبي عن غارة 1986، وبالتالي أصبح المبلغ الإجمالي لصندوق التعويضات الشامل، ملياراً و800 مليون دولار».
وتغطي مخصصات الصندوق الجديدة، مبلغ المليوني دولار لكل ضحية من ضحايا لوكربي التي لم تكن ليبيا قد سددتها بعد، كما يغطي جميع القضايا الأخرى. ويضيف مساعد نجل القذافي: «صدر بالتالي قرار رئاسي من الرئيس بوش، في ذلك الوقت، باعتماد هذه الاتفاقية، ثم صدر قانون من الكونغرس باعتمادها أيضاً». ويوضح أن «الخزانة الليبية لم تدفع مليماً واحداً، إنما جرى تمويل الصندوق من شركات وتبرعات». ويزيد أن «قطر دفعت مبلغ 500 مليون دولار عن الدولة الليبية لإنجاز هذا الاتفاق».
وعن السبب الذي دفع القطريين إلى هذا الأمر، يوضح مساعد سيف الإسلام قائلا إن القطريين كانوا يسعون من وراء ما دفعوه لصندوق ضحايا الإيدز مع الأوروبيين، وصندوق الاتفاق الشامل مع الأميركيين، والذي بلغ إجماليه 900 مليون دولار، إلى «ترضية الأطراف الغربية وترضية الليبيين، ومن ثمَّ الحصول على مشاريع بتسهيلات كبيرة في ليبيا... كانت أعينهم على عقود الغاز. وكذلك كان لديهم مشروع المصرف الليبي القطري، ومشروع استثماري كبير اسمه باب طرابلس، في طريق السكة... كل هذه الأراضي كانوا يريدون أخذها». ويضيف: «كانوا يريدون تأسيس مشروع الشركة الليبية القطرية، في منطقة جنزور... وإقامة إنشاءات عقارية أيضا. وكان هناك شركة اسمها فرنكس، كندية، تملك مع المؤسسة الليبية للاستثمار مجموعة حقول في منطقة حوض غدامس النفطي. وكان القطريون يريدون شراء هذه الأصول»، بحسب معلومات المسؤول الليبي السابق الذي عمل لفترة طويلة إلى جانب نجل القذافي.
وفيما يخص خلفية عدم التفاهم بين القطريين والليبيين، في ذلك الوقت، على كل هذه المشروعات والخطط الاستثمارية، يقول مساعد سيف الإسلام: «طبعاً البيروقراطية والإجراءات الإدارية الليبية، ثم إن القطريين كانوا يريدون الشيء الذي قيمته دولار، بسنت. وأنا أتذكر تقريباً في صيف 2010 جاء الشيخ حمد بن جاسم إلى طرابلس، والتقى بسيف الإسلام. وكان الدكتور البغدادي المحمودي موجوداً، وكان عبد الله السنوسي موجوداً، وكذلك كان شكري غانم حاضراً. كان الشيخ حمد منزعجاً، وقال: أنتم - ما معناه - ضحكتم علينا، ونحن أعطيناكم أموالاً، وأنتم لم تفوا بتعهداتكم».
ويتذكر المصدر ذاته تلك الأيام، قائلاً إن الفنيين الليبيين، مثل الدكتور شكري غانم، قالوا للقطريين أنتم تريدون، مثلاً، قطعة الأرض المعروضة بـ300 مليون، بعشرة ملايين فقط... لا. لن نعطيها لكم. فخرج الشيخ حمد، وكان غاضباً، وأرسل رسالة لسيف الإسلام، وعبَّر له فيها عن أنه، أي الشيخ حمد، أصبح في حِلٍّ من كل الالتزامات مع ليبيا. ويضيف: «هذه كانت بداية المشكلة مع قطر في ذلك الصيف». ويؤكد أن سيف الإسلام كان متفهماً لهواجس الخبراء الليبيين من محاولات القطريين.
ويبدو أن قطر كانت تسعى للدخول إلى ليبيا من أي منفذ. وكانت شهيتها مفتوحة للاستثمار في الغاز الليبي الذي يصفه تقي الدين بأنه من أجود أنواع الغاز في العالم. ويقول تقي الدين، متذكراً تلك الأيام التي سبقت 2011: «جاء حمد بن جاسم خلال عشاء عند السنوسي، في ليبيا، بحضور سيف الإسلام، وغانم، وزير النفط، والمحمودي، وأنا، وابن السنوسي، الذي توفي فيما بعد في الحرب». ويروي أن «سيف سأل الشيخ حمد، خلال العشاء، عن مشروعات سياحية يمكن أن يقوم بها القطريون على الشواطئ الليبية، إلا أن الشيخ حمد رد قائلاً: هذا بعدين... لكن كيف نتعاون سوياً، قطر وليبيا، في مجال البترول والغاز؟».
وفي المقابل، لاحظ تقي الدين أن بعض الليبيين، مثل الوزير غانم، لم يكن لديهم ميل لنشاط القطريين المزمع في الغاز والنفط في ليبيا. ويقول إنه فوجئ بعد ذلك بأن الدوحة كان لديها علم بتفاصيل اتفاقيات ليبية بشأن الغاز، مع أطراف في أوروبا. وفي جلسة أخرى على العشاء في فندق في لندن، التقى تقي الدين مع سيف الإسلام، وتحدثا طويلاً عن محاولة قطر الدخول في صفقات الغاز الليبي، وهو ما ترتب عليه إلغاء عقود كانت تسمح لقطر بالاستفادة من هذه الاستثمارات في ليبيا. ويقول: «هذا كان أساس مشكلة قطر مع ليبيا ودعمها للشراذم المسلحة وتمويلها للمتطرفين».
ومن جانبه، كان مساعد سيف الإسلام القذافي وصديقه الشخصي قد تعامل قبل ذلك مع القطريين من خلال لجنة كان عضواً فيها، وكانت مختصة بإعادة المقرحي من سجنه في اسكوتلندا إلى طرابلس. ويقول: «حين أصيب المقرحي بالسرطان، شُكلت لجنة برئاسة مدير المخابرات حينذاك، موسى كوسا، وكان معنا فيها الدكتور إبراهيم الشريف، وهو طبيب ليبي، وعبد العاطي العبيدي، وزير الخارجية السابق، والمستشار عزام الديب، من إدارة القضايا الليبية. وتوجهنا إلى بريطانيا وبدأنا في التفاوض، للإفراج عن المقرحي، إما عن طريق اتفاقية قضائية لنقله لليبيا أو بإفراج صحي، وفقا لما يتيحه القانون الاسكوتلندي في مثل هذه الحالة».
ويضيف: «وفي إطار مراكز الضغط (اللوبي) التقيت أنا وكوسا مع الشيخ حمد، في لندن، في مكان مجاور لفندق دورشستر... وكانت (...) موجودة، وتقوم بتدوين محضر الاجتماع... وتكلمنا معه بأننا نريد مساعدة القطريين لدى الاسكوتلنديين والبريطانيين، فاقترح الشيخ حمد، لكي نكسب الإنجليز، ويساعدوننا، أن ندخل مع القطريين لشراء أسهم في مصرف (...) بريطاني، من أجل حلحلة الأمور. وكانت تلك الأسهم مطروحة للبيع في ذلك الوقت».
ووفقاً لمساعد سيف القذافي، وعد الشيخ حمد الليبيين بأنه بعد أن يتم الانتهاء من صفقة أسهم المصرف البريطاني، ستقوم قطر بدعوة الوزير الأول الاسكوتلندي (رئيس الوزراء) ألكس ساموند، لزيارة الدوحة، وأنهم سيتحدثون معه، في قطر، حول موضوع الإفراج عن المقرحي. ثم قال الشيخ حمد أيضاً إنه سيصدر تعليماته لخالد العطية، وكان وزير دولة في وزارة الخارجية القطرية، لكي يزور المقرحي. ويضيف: «بالفعل رتبت للعطية، وذهب لزيارة المقرحي... كان هذا أول لقاء لي مع الشيخ حمد... لقد طلبنا من القطريين مساعدتنا في إخراج المقرحي، فأدخلونا في البزنس».
وبعد كل تلك العلاقات القطرية - الليبية الطيبة، بدأت أحداث ما يعرف بـ«الربيع العربي» في اجتياح المنطقة انطلاقاً من تونس. وحين بدأت المظاهرات في مصر، شعر القذافي بالغضب مما عده تحاملاً من جانب قطر وقناة «الجزيرة» على الرئيس المصري حسني مبارك... فاتصل بأمير قطر (حمد بن خليفة)، وقال له: لماذا أنتم متحاملون على حسني مبارك وعلى مصر. ويضيف مساعد نجل القذافي، الذي كان شاهداً على القصة: «كان القائد (القذافي) منزعجاً جداً من الخط الذي تبنته قناة الجزيرة وقطر في هذا الموضوع... ووبخ الأمير القطري، خلال المكالمة، وتضمن الاتصال كلاماً قاسياً جداً وجهه له القذافي... وبعد تنحي مبارك، تحدث أحد أبناء أمير قطر مع سيف الإسلام، وقال له: جهزوا أنفسكم... أنتم الهدف المقبل».
ويقول مساعد سيف الإسلام إنه بعد ما دار بين نجل القذافي ونجل الشيخ حمد، تكلم سيف مع مدير كبير في قناة «الجزيرة» في ذلك الوقت، وسأله عما إذا كانت القناة تعمل على موضوع يهدف إلى شحن الشارع الليبي وإثارته ضد نظام القذافي. ويضيف موضحاً أن المدير في «الجزيرة» نفى ذلك لسيف الإسلام و«لكن كانت هناك تعليمات... والتعليمات هي التي فرضت نفسها في النهاية».
ويتابع قائلاً: «بمجرد تفجّر الأحداث في ليبيا، انطلاقاً من بنغازي، في فبراير (شباط) 2011، بدأت قنوات تلفزيونية حملة ممنهجة لشيطنة النظام في ليبيا... وأخذت تروّج أقاويل لا أساس لها من الصحة، كالتضخيم لأعداد قتلى تلك الأحداث. وأن النظام قصف أحياء مدنية بالطائرات، وأنه تم اغتصاب آلاف النساء، وأن طرابلس تعج بالمرتزقة. وبعد ذلك زعمت أن معمر القذافي وعائلته لديهم حسابات بمئات المليارات من الدولارات في الخارج. كل هذه كانت أكاذيب. فبعد مرور سبع سنوات لم يعثر أي كان من أجهزة مخابرات ودول على أي من تلك الحسابات المزعومة». ويضيف أن هذه الحسابات كانت تخص المؤسسة الليبية للاستثمار، وشركة الاستثمارات الخارجية، ومصرف ليبيا المركزي.
ويقول قادة من النظام السابق، وآخرون من الزعماء الحاليين بالمنطقة الشرقية، بمن فيهم الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر، إن تدخل قطر في ليبيا ما زال مستمراً حتى هذه اللحظة. ويوضح مساعد سيف الإسلام أن الدوحة «ما زالت تدعم الإسلاميين، وتمول مؤسسات إعلامية ليبية موجودة حتى في القاهرة»، في إشارة إلى مؤسسة «الوسط»، مشيرا إلى أنه «ثبت» أن من يقوم بتمويلها هي رئاسة الأركان القطرية... ويضيف: «أنا أتفهم أن تقوم دولة بتمويل قناة أو جريدة، عن طريق وزارة إعلام أو وزارة ثقافة، لكن أن تقوم رئاسة الأركان القطرية بتمويل مؤسسة بعينها، فهذه بدعة جديدة في الإعلام».
ووفق وثائق تعود إلى عامي 2013 و2014، فإن تحويل الأموال إلى هذه المؤسسة الليبية، جرى عن طريق شركة قطرية تسمى (...). وشارك في أحد الاجتماعات القطرية، بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 2013. والمخصصة للتمويل، كل من مساعد رئيس الأركان القطري للشؤون المالية، والمدير التنفيذي للشركة. وبلغت قيمة تمويل الموازنة في تلك السنة، نحو 8.8 مليون دولار. وتُبيِّن صور لتحويلات مصرفية للمؤسسة الإعلامية، تدفق التمويل القطري، حيث بلغ في شهر واحد، هو يوليو (تموز) من عام 2014، أكثر من 100 ألف دولار أميركي.
ولا تتبع «مؤسسة الوسط» الإسلاميين المتطرفين المرتبطين بقطر. ومعروف أن رئيسها، محمود شمام، وزير الإعلام الليبي السابق، محسوب على الخط المدني في ليبيا. لكن مساعد سيف الإسلام يقول إن الدوحة تريد أن يكون لديها ورقة أخرى ليست من الإسلاميين، لتنفذ أجندتها بالمنطقة. من جهته، يعلّق شمام على هذا الموضوع قائلاً إن هذا التمويل القطري حصل في البداية فقط، وضمن تمويل قطر لتلفزيون قناة «ليبيا الأحرار» وتمويل الثورة الليبية بشكل عام، مشيرا إلى أن علاقة مؤسسة «الوسط» مع التمويل القطري «توقفت... الوسط الآن ليست لها علاقة».



تسونامي الذكاء الاصطناعي يجرف ملايين إلى البطالة

«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
TT

تسونامي الذكاء الاصطناعي يجرف ملايين إلى البطالة

«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)
«الذكاء الاصطناعي في العالم المادي» على شاشة أمام مشاركين بمؤتمر لعرض التطورات في تكنولوجيا القيادة الذاتية بكاليفورنيا في 11 ديسمبر 2025 (رويترز)

لم يكن عام 2025 سعيداً على اللبنانية حامدة الشاكر، وهي مدققة ومحررة لغوية، إذ انتهت مسيرتها المهنية قبل أن ينتهي العام. الشاكر، التي لامس عمرها الستين، لم يسبق لها تجربة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي أو التحدث مع «تشات جي بي تي»، كما يفعل الكثيرون، ولم تدرك أن هذه الأدوات التي غزت أجهزة الجوال والكمبيوتر باتت تؤدي عملها بسرعة وكفاءة مذهلتين.

لقد شكّل هذا التحول في المهن «تسونامي» جرفها مع ملايين الموظفين حول العالم نحو البطالة، في ظاهرة لا تستثني أحداً وتضرب قطاعات متعددة. لكن تأثيرها يكون أشد على الموظفين الذين تجاوزوا سن الخمسين، ولم يواكبوا سرعة التغيير التكنولوجي. فوفقاً لموقع «allaboutai»، تسبب اعتماد الذكاء الاصطناعي حتى الآن في فقدان نحو 14 مليون موظف لأعمالهم حول العالم، و«الحبل على الجرار»؛ إذ هناك توقعات بزوال 92 مليون وظيفة في العالم خلال السنوات الخمس المقبلة.

في جوهره، الذكاء الاصطناعي هو قدرة الأنظمة الحاسوبية على محاكاة التفكير البشري، واتخاذ القرارات، وتنفيذ المهام المعقدة، بدءاً من التخطيط وصولاً إلى التطبيق العملي، بخاصة في المجالات النظرية والتحريرية.

صدمة ومستقبل غامض

هذا الواقع لم تكن الشاكر على علم به، ما تسبب لها بصدمة تلتها صدمة أخرى خلال 2025 الذي شهد أوسع انتشار لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. كانت الصدمة الأولى حين تلقت اتصالاً من قسم الموارد البشرية يخبرها بتخفيض راتبها بنسبة 50 في المائة بسبب «صعوبات مالية تواجهها الشركة». وبعد أقل من خمسة أشهر، جاءتها الثانية عبر اتصال آخر يبلغها بقرار الاستغناء عنها، من دون أن تفهم السبب.

لكن وفق رواية الشاكر، نقلاً عن مسؤول قسمها، لم تكن وحيدة في ذلك؛ إذ فقد نصف الفريق وظائفهم نتيجة تأثير الذكاء الاصطناعي على عقود العملاء، أي الشركات التي راحت تستعين بالذكاء الاصطناعي لصياغة أخبارها وبياناتها وتقاريرها، مجاناً أو مقابل اشتراك شهري زهيد، مقارنة بالمبالغ التي كانت تتكبدها للتعاقد مع وكالات متخصصة في مجال العلاقات العامة والدعاية.

وفي هذا السياق، تشير تحليلات اقتصادية، نشرتها «رويترز»، إلى أن الاشتراك السنوي في أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة – حتى على مستوى المؤسسات – لا يتجاوز في كثير من الحالات تكلفة راتب موظف واحد لشهور محدودة. وهذا يجعل القرار، من منظور إداري بحت، خياراً «موفراً» وسهل التبرير مالياً.

وهكذا، تصبح الشاكر وزملاؤها رقماً إضافياً في معادلة باردة: شركات تزيد أرباحها وتخفض تكلفة الإنتاج، مقابل اتساع رقعة العاملين الذين يُدفعون خارج السوق، ليس لأنهم أقل كفاءة، بل لأن الخوارزميات باتت أقل كلفة من البشر.

القطاعات الأكثر تأثراً

قصة الشاكر وزملائها ليست حالات فردية؛ بل هي جزء من ظاهرة عالمية متنامية، شملت موظفين وعمالاً في قطاعات متعددة. وتشير تقارير متخصصة إلى أن الوظائف القائمة على المهام الروتينية أو المعالجة المتكررة للبيانات هي الأكثر عرضة للاستبدال، وذلك مع التوسع في استخدام أدوات الأتمتة والذكاء الاصطناعي التوليدي. وهنا نظرة على أبرز تلك القطاعات:

خدمات الزبائن ومراكز الاتصالات: تُعد في مقدمة القطاعات المهددة. فأنظمة المحادثة الذكية وتحليل النصوص والصوت باتت قادرة على التعامل مع استفسارات المستخدمين بكفاءة عالية، وفقاً لموقع TechRT.

البيانات والدعم الإداري: يبرز هذا القطاع بين الأكثر تأثراً. فمهام مثل إدخال البيانات وتصنيف الملفات وأعمال السكرتارية تُستبدل بأدوات أتمتة متقدمة، حسب منصة Complete AI Training.

التجزئة وسلاسل التوريد: تُظهر تقارير Pleeq Software وninjatech.blog أن الدفع الذاتي، والمستودعات الذكية، وأتمتة المخزون، أسهمت في تقليل الحاجة إلى موظفي الصندوق (الكاشير) والعمال التقليديين في المخازن.

الصناعة والإنتاج: عزّز انتشار الروبوتات الاصطناعية وتقنيات التحكم الآلي من تأثير الذكاء الاصطناعي على وظائف العمالة اليدوية، حسب موقع All About AI.

المحاسبة والعمليات المالية: وظائفها البسيطة تسجل تراجعاً في الطلب، وذلك نتيجة اعتماد الشركات على برمجيات مالية ذكية قادرة على تنفيذ مهام مسك الدفاتر (bookkeeping) والعمليات الروتينية، حسب Complete AI Training.

صناعة المحتوى والإعلام: لم تكن هذه الصناعة بمنأى عن التحولات؛ إذ بات الذكاء الاصطناعي قادراً على كتابة المحتوى وتلخيصه وإعادة صياغته، مما يهدد عدداً من المهام الكتابية البسيطة.

ولا يدري كثير من الموظفين الذين فقدوا أعمالهم أنهم ضحايا «الثورة الصناعية الرابعة»، التي كان كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي ومديره حينها، نبّه إلى نتائجها قبل حدوثها بقوله، أمام «القمة العالمية للحكومات» في دبي عام 2016، إن «العالم يقف على حافة ثورة تكنولوجية من شأنها أن تحدث تغييراً جذرياً في أنماط الحياة التي نعيشها والعمل الذي نؤديه والطريقة التي نتعامل بها بعضنا مع بعض. وبسبب عظم حجم هذه الثورة ونطاقها وتعقيداتها، فإن التغييرات التي سترافقها لم ترَ البشرية مثيلاً لها من قبل. نحن لا نعرف حتى الآن كيف ستكون تلك التغييرات، لكن شيئاً واحداً واضحاً لنا الآن: يجب أن يكون تجاوبنا نحن (مهما كنا في القطاع الخاص والعام والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني) معها متكاملاً وشاملاً».

متطلبات السوق والمهارات البشرية

وما توقعه شواب تحقق بشكل كبير، خصوصاً في الأشهر الأخيرة، مع تزايد تبني الشركات حول العالم لأدوات الذكاء الاصطناعي، ولم تعد الخبرة وحدها كافية للبقاء ضمن سوق العمل التنافسي. الوظائف التقليدية تتغير بسرعة، والمهارات البشرية المطلوبة أصبحت أكثر تخصصاً وتعقيداً؛ إذ لم يعد التركيز منصباً فقط على الأداء الفردي، بل على القدرة على التعاون مع الأنظمة الذكية وتحويل المعلومات إلى قيمة مضافة.

في هذا السياق، يبرز دور الخبراء المهنيين الذين يفهمون كيفية دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل اليومي دون التضحية بجودة النتائج أو العمق التحليلي، وفق ما يوضحه مزيد حجاز، رئيس تحرير وكالة «نحو الحوار للدعاية والإعلان» في الرياض.

ويؤكد حجاز لـ«الشرق الأوسط» أن «الذكاء الاصطناعي أصبح جزءاً أساسياً من العمل اليومي من ناحية السرعة والكمية، بينما تبقى المراجعة والتحرير والتحليل مرتبطة بالكامل بالإنسان لضمان الجودة».

ويضيف حجاز أن «القطاع يحتاج اليوم إلى مهارات جديدة، ومن يتخلف عنها يكن خارج السرب. أبرزها استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحليل، وقراءة البيانات، والتحليل التنبؤي، وتحويل المعلومات إلى سردية مشوّقة. الدمج بين مهارات الإنسان وأدوات الذكاء الاصطناعي هو ما يضمن التفوق».

من جانبه، يشدد فراس بركات، خبير الاتصالات الاستراتيجية في السعودية، على أن الذكاء الاصطناعي «يمثل نقطة تحول محورية في أسواق العمل، تعزز الكفاءة وتعيد تشكيل طبيعة الوظائف والمهارات المطلوبة».

ويقول بركات لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أنه تسبب في فقدان وظائف تقليدية كالمهام الروتينية، لكنه، في المقابل، محرك ضخم لتوليد فرص عمل جديدة في مجالات متقدمة مثل تحليل البيانات، والأمن السيبراني، وإدارة الأنظمة الذكية، وهندسة الحلول الرقمية، ووظائف لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة».

تكرار التاريخ

إلا أن حسن يحيى، الخبير التكنولوجي المقيم في الولايات المتحدة، يقدم رأياً مستنداً إلى التاريخ، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليست المرة الأولى التي يقف فيها العالم مذهولاً أمام التطورات التقنية. يتكرر الخطاب نفسه حول فقدان الوظائف مع كل ابتكار ضخم»، لافتاً إلى أنه في عام 1959، عندما أدخلت «جنرال موتورز» الروبوت الاصطناعي «يونيمايت»، برزت موجة كبيرة تحذر من خطورته على الوظائف.

ويشير يحيى إلى أن «الذكاء الاصطناعي بدأ يؤثر على ملايين الوظائف، وهناك توقعات للمنتدى الاقتصادي العالمي بزوال 92 مليون وظيفة خلال السنوات الخمس المقبلة. لكن في المقابل، سيولد أكثر من 170 مليون وظيفة جديدة، ما يعني تحولاً جذرياً في بنية العمل، لا بطالة جماعية».

ومن هنا، يقول يحيى: «من المنطق أن فقدان الوظائف من دون تعويضها لا يخدم الشركات ولا الاقتصادات، ما يجعل توليد وظائف جديدة أمراً حتمياً. لكن ذلك يتطلب تعلم كيفية العمل مع الذكاء الاصطناعي؛ لأن تجاهل هذا التحول قد يترك كثيرين خارج سوق العمل المتغير».

توفير التكلفة وتعظيم الأرباح

ما يتعرّض له الموظفون لا يمكن فصله عن معادلة اقتصادية باتت تتكرر في آلاف الشركات حول العالم. فبدلاً من الاحتفاظ بموظفين ذوي خبرة، وما يصاحب ذلك من رواتب وتأمينات وحقوق نهاية خدمة، تتجه مؤسسات كثيرة إلى الاستغناء عن كوادرها لمصلحة الذكاء الاصطناعي.

وهذا ما يؤكده تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)؛ إذ يفيد بأن 41 في المائة من الشركات العالمية تخطط لتقليص قواها العاملة بحلول عام 2030 نتيجة اعتمادها المتزايد على الذكاء الاصطناعي والأتمتة.

وهنا يتحدث حجاز عن تأثير تبني الذكاء الاصطناعي على علاقة الشركات مع العملاء، فيقول إن «استخدام الذكاء الاصطناعي أسهم في تسريع العمل وتحسين جودته بشكل ملحوظ. انتقلنا من مرحلة سرعة الحصول على المعلومة إلى مرحلة (المعلومة في ومضة)، أي تحليلها وصياغتها لحظياً، مع قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم سيناريوهات متعددة للمحتوى، وتحليل اتجاهات الجمهور». ويستشهد بدراسة لـDeloitte تفيد بأن دمج الذكاء الاصطناعي في العلاقات العامة أدى إلى خفض زمن إنتاج المحتوى بنسبة 25-35 في المائة وتحسين دقته.

سوق بمليارات الدولارات

وهنا تتوزع المكاسب على جهتين، رجال الأعمال وشركاتهم وكذلك الشركات المنتجة للذكاء الاصطناعي التي تحقق عائدات مالية ضخمة، تتناقض مع واقع آلاف الموظفين. ففي منتصف عام 2025، حسب تقرير لـ«رويترز»، وصلت الإيرادات السنوية لشركة OpenAI، المطوّرة لنموذج ChatGPT، إلى نحو 10 مليارات دولار بنهاية النصف الأول من العام، متجهة نحو هدف يتجاوز 12.7 مليار دولار بحلول نهاية العام، مدفوعة بالطلب المتسارع على خدماتها وبرمجياتها الذكية.

ولا يقتصر هذا النمو المالي على OpenAI وحدها؛ إذ أظهر تقرير لـ«فوربس» أن شركات تقنية عالمية أخرى تمتلك وحدات ذكاء اصطناعي تُسهم في رفع إيراداتها السنوية بمليارات الدولارات، ما جعل الذكاء الاصطناعي أحد أهم مصادر الربح للشركات الكبرى في قطاع التكنولوجيا، حتى عندما يستغني بعضها عن موظفين بهدف تحسين كفاءة التكلفة التشغيلية.

اللاعبون الرئيسيون

وبناء على ما تقدم، يطرح سؤال جوهري هو: من هم اللاعبون الرئيسيون في هذا المجال؟ ويجيب الذكاء الاصطناعي نفسه بالتالي: شركة OpenAI، الأشهر عالمياً بفضل ChatGPT، رائدة في النماذج اللغوية الضخمة، ولديها شراكة استراتيجية مع Microsoft.

تليها Google DeepMind، التي طورت نماذج قوية مثل Gemini وAlphaGo، وتعد رائدة في الذكاء الاصطناعي العلمي والطب والبحث.

وMicrosoft نفسها أصبحت قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، مستثمرة مليارات الدولارات في OpenAI، ودمجت تقنيات الذكاء الاصطناعي في Windows وOffice (Copilot) وAzure AI.

في المقابل، تعمل NVIDIA على تطوير الرقاقات والمعالجات الأساسية للذكاء الاصطناعي، بينما تقدم Meta (Facebook) نماذج مفتوحة مثل LLaMA. وكذلك تعد Amazon (AWS) رائدة في الذكاء الاصطناعي السحابي، فيما تبرز Anthropic كمنافس قوي في مجال نماذج اللغة.

أما بالنسبة إلى حجم سوق الذكاء الاصطناعي فتفيد تقديرات حديثة بأنه بلغ في عام 2025 نحو 747.9 مليار دولار، مع توقعات بنموه ليصل إلى 2.74 تريليون دولار بحلول عام 2032، وفق موقع AffMaven.

القلق من التداعيات

هذا التباين الصارخ بين عائدات بمليارات الدولارات تحققها شركات الذكاء الاصطناعي، والخطر المتصاعد الذي يهدد ملايين الموظفين الذين يجدون أنفسهم بلا عمل أو في وظائف هشّة، يطرح سؤالاً أخلاقياً واقتصادياً مركزياً: لماذا تستفيد الشركات من التكنولوجيا لتقليل التكلفة الإنتاجية وتعظيم أرباحها، بينما تظل مسؤوليتها الاجتماعية تجاه الموظفين المستغنى عنهم غائبة أو مؤجلة في كثير من الأحيان؟

فهذا التوفير، كما يحذر خبراء اقتصاد، يتم غالباً دون تحمل الشركات لمسؤولياتها الاجتماعية، ولا يُقابل بإعادة تأهيل حقيقية للموظفين المسرّحين، ولا بتوليد فرص بديلة لهم، مما يسهم في تعميق أزمة البطالة عالمياً بدلاً من معالجتها.

إسلام الشافعي، الخبير الاقتصادي المقيم في نيويورك، يستهل حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالإشارة إلى تصريح أدلى به رئيس الاحتياطي الفيدرالي (الأميركي) جيروم باول، في 20 ديسمبر (كانون الأول) وتضمن تحذيراً من «موجة الاستغناء عن الموظفين بسبب الذكاء الاصطناعي، أو توقف شركات عن الإعلان عن وظائف للسبب نفسه».

مخاوف من احتمال تحول هذه الآلات إلى متخذة قرار بدلاً من أن تكون مجرد مساعد للإنسان (أ.ب)

ثم يقدم الشافعي رأياً مغايراً، لكنه يحمل تحذيرات عميقة. ويقول: «حتى هذه اللحظة، الرعب من الذكاء الاصطناعي هو رعب وقائي أو مسبق؛ إذ لم يبلغ مرحلة يحل بها محل الإنسان تماماً. ما هو حاصل الآن هو استعانة به، لكن لا يمكن الثقة به بشكل كامل». ويضيف: «صحيح أنه قد يؤدي إلى انخفاض عدد العمال، حيث يمكن لعمل كان يتطلب 5 موظفين أن ينجزه موظف واحد مع الذكاء الاصطناعي. هذا هو الخطر الحقيقي»، مشيراً إلى أن منظمة العمل الدولية لديها تحفظات كبيرة بشأن السلامة وقدرة الآلة على اتخاذ القرار. ومع ذلك، هناك أعمال لم يهددها الذكاء الاصطناعي، حتى الآن، مثل الحرف اليدوية (السباك، الكهربائي، النجار، الخياط)، وستبقى لفترة طويلة تعتمد على القدرة البشرية والإبداع البشري».

كسر الاحتكارات

وفي هذا السياق يركز يحيى على كسر ثلاثة احتكارات رئيسية لمواجهة هذه التحولات:

احتكار الشهادات الجامعية في التوظيف: شركات كبرى مثل «غوغل» و«ديل» أسقطت شرط الشهادات الجامعية، لتركز على المهارات المكتسبة.

الاحتكار التقني: الذكاء الاصطناعي منح الأفراد قدرة أكبر على تنفيذ الأفكار من دون الحاجة إلى فرق كبيرة.

الاحتكار اللغوي: للمرة الأولى، أصبحت التكنولوجيا غير مرتبطة بلغة واحدة، ما يسمح للمستخدم بالتفاعل مع الذكاء الاصطناعي بلغته الأم، ويفتح المجال لملايين الأشخاص للمشاركة في الاقتصاد الرقمي.

والاقتصاد الرقمي استمد من الثورة الرقمية التي غدت جزءاً رئيسياً من الاقتصاد العالمي، وتُظهر البيانات حجماً هائلاً يعكس تأثير التكنولوجيا والتحوّل الرقمي على الإنتاج والنمو؛ إذ من المتوقع أن يتجاوز حجم الاقتصاد الرقمي العالمي في عام 2025 نحو 24 تريليون دولار، ما يعادل نحو 21 في المائة من حجم الاقتصاد العالمي، مع استمرار النمو بوتيرة أسرع من الاقتصاد التقليدي.

اضمحلال الرأسمالية

أما الشافعي فيذهب بعيداً في تحليله، بخاصة خلال حديثه عن الجوانب القانونية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية والدول المتقدمة التي تعتمد في مداخيلها على الضرائب التي تحصّل بمعظمها من الموظفين، ويقول: في حال فقدان الموظفين لوظائفهم مقابل الذكاء الاصطناعي الذي يعد أصحاب الأعمال المستفيد الأكبر منه، لن يبقى هناك وعاء ضريبي كافٍ للحكومات لتمويل خدماتها، مما قد يؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات بسبب الفقر العام. في المقابل، قد تكون الدول التي تعتمد على نموذج التكافل والتعاون، حيث تكون الدولة هي المنتج، أكثر قدرة على مواجهة هذا التحدي.

ويشير الشافعي إلى أن «رجال الأعمال الذين كانوا يبنون مصانعهم في شرق آسيا للاستفادة من رخص الأيدي العاملة، قد يعودون إلى أوطانهم ليعتمدوا على الروبوتات في إنتاج سلعهم».

قلق أممي

ولما كانت مسألة خسارة الوظائف تأخذ بعداً عالمياً، فإنها بدأت تلقى صدى داخل أروقة الأمم المتحدة، وبخاصة في مقرها الرئيسي في نيويورك.

وهذا ما يؤكده الشافعي، الذي يمارس عمله من ذاك المقر الأممي، ويقول: «إن هناك قلقاً شديداً في الأمم المتحدة تجاه ثورة الذكاء الاصطناعي، لكن يؤخذ عليها أنها أصيبت بمرض التغاضي والحالة النفسية التي تصيب المضاربين عندما تكون هناك فقاعة اقتصادية، وهو محاولة النظر إلى المكاسب والتغاضي عن حجم الخسائر».

ويلفت إلى أن النقاش في الأمم المتحدة يدور حول أحد جانبي الذكاء الاصطناعي، أي الإيجابيات، إذ يسرع 80 في المائة من أهداف التنمية المستدامة (التي اعتمدتها الأمم المتحدة)، ويدعم 27 في المائة من مجالاتها، ويساعد في الأمن السيبراني. لكن الجانب الآخر، أي السلبيات، فإنهم لم ينظروا إليها بشكل واسع بعد، مثل الهاكرز (المخترقين) الذين قد يستغلون الذكاء الاصطناعي في عمليات الاحتيال الإلكتروني التي تغزو الكوكب.

ويؤكد الشافعي أن «المجتمع أصبح الآن مصاباً بمرض التعامي نتيجة هذه الفقاعة التكنولوجية، ويبحث عن المبررات، ويتغاضى عن السلبيات». وينبغي أن تكون هناك قوانين تنظم هذه البيئة؛ إذ أظهرت دراسات الأمم المتحدة أن 85 في المائة من الدول تفتقر إلى البيئة القانونية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي. لكن بعض الأصوات، وفي مقدمتها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تحذر بقوة من ترْك مستقبل البشرية للخوارزميات. وسبق له أن حذر في مجلس الأمن وغيره، من عسكرة الذكاء الاصطناعي. والسؤال هنا: إذا لم يكن الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، فهل كانت ستدعمه الدول؟ هناك مخاوف من أن يتحول إلى سباق وقيود أمنية جديدة تفرضها الحكومات على مواطنيها، بحيث يكون هو الرقيب وأن يتحول إلى آلة لعذاب المواطنين. يختتم الشافعي بأن أكثر المجالات التي ينطلق فيها الذكاء الاصطناعي هي المجالات العسكرية والأمنية وتقنيات التعرف على الوجه والتتبع، محذراً من احتمال تحول هذه الآلات إلى متخذة قرار بدلاً من أن تكون مجرد مساعد، وربما تقضي على الحياة على سطح الأرض.

تهديد أم فرصة؟

ومن هنا، فإن المخاوف من الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند حدود فقدان الوظائف أو إعادة تشكيل سوق العمل، بل تمتد إلى مستويات أكثر خطورة تمسّ جوهر الأمن الإنساني ذاته والشفافية، وبخاصة في مجال المعلومات.

وهنا يؤكد حجاز أن «الذكاء الاصطناعي يفرض مسؤولية أكبر لضمان الدقة والشفافية. نعتمد منهجاً واضحاً يشمل جودة المعلومات وموثوقيتها، والشفافية في الاستخدام، ونلتزم بالإفصاح عن دوره في عملياتنا».

لكن هل الذكاء الاصطناعي تهديد أم فرصة؟ يجيب حجاز: «رغم أن هذا السؤال بات هاجساً، فإن التجارب الحديثة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي تطور حتمي يجب استثماره. فكما واجه العالم تحفظات مشابهة عند ظهور الحاسوب ثم الإنترنت، يتكرر المشهد اليوم، لكنه سرعان ما يتحول إلى عنصر تمكين بدل التهديد».

ويلفت إلى أن كثيراً من الدول، بينها المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، أصبح التكيف مع الحداثة جزءاً من الثقافة المهنية فيها. لكن من المهم الإشارة إلى أن 90 في المائة من العاملين في القطاع عالمياً، وفق دراسة من Cornell ArXiv، يرون أن الذكاء الاصطناعي قد يؤثر على موثوقية المعلومات ويزيد الحاجة للتحقق. كما يتوقع 59 في المائة من الجمهور الأميركي انخفاض عدد الصحافيين. في المقابل، تؤكد Muck Rack أن 75 في المائة من محترفي الإعلام والعلاقات العامة يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحسين الإنتاجية وتحليل البيانات وتطوير المحتوى، «ما يعني أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل المهنة، لا استبدالها»، طبقاً لحجاز.

القيمة الإنسانية

ويؤكد أن «الإبداع هو القيمة الإنسانية التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي استبدالها تحت أي ظرف. في (حوار)، نحرص على تحفيز المبادرات الفردية وتشجيع الشغف المهني، وهذا يتسق مع (رؤية السعودية 2030) التي وضعت الإنسان في قلب عملية التحول». ويضيف أن التقنية تعزز الإبداع ولا تلغيه، والإنسان يظل مصدر القيمة الأساسية.

ليس بديلاً

والإبداع البشري لا يزال ضرورياً، حى الآن، وفق ما يؤكده أستاذ الترجمة الدكتور محمد خير ندمان لـ«الشرق الأوسط». ويتحدث عن تجربته قائلاً: «من تجربتي في مجال الترجمة والكتابة أستطيع القول إن أدوات الذكاء الصناعي أصبحت توفر حوالي ٦٠%؜ من الوقت على الأقل، وهي تدعم عمل المترجم والكاتب وتعززه، لكنها -حتى الآن- ليست بديلاً عن العنصر البشري بشكل كامل». ويضيف: «أحياناً يرتكب الذكاء الصناعي أخطاء (قاتلة)، ومهمة العنصر البشري أن يدقق ما ينتجه الذكاء الصناعي ويصحح ما يرتكبه من أخطاء. حتى عند البحث عن معلومات، يعطي الذكاء الصناعي أحياناً معلومات خاطئة تماماً. ويشير ندمان، وهو سوري، إلى أنه سأل الذكاء الصناعي مرة عن نفسه فـ"جعلني كاتباً وشاعراً تركياً!!!».

من جهته، يقول بركات، إن «مستقبل سوق العمل لن يُقاس بعدد الوظائف التي تختفي، بل بقدرة الأفراد والمؤسسات على تطوير المهارات وتبني ثقافة التعلم المستمر. التحدي الأكبر يتمثل في مواكبة التحولات السريعة من خلال الاستثمار في التعليم، وإعادة التأهيل المهني، وتمكين الشباب من المهارات الرقمية».

الخبز والخباز

لكن الدكتور م. عبدالهادي، رئيس قسم علم الأمراض (Pathology) في أحد مستشفيات الولايات المتحدة، يرى أن «تسونامي» الذكاء الاصطناعي «لن يستمر طويلاً إذا وُضعت لوائح تنظيمية مناسبة له». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليس كل من يقرأ معلومات طبية عبر الإنترنت أو يجمعها باستخدام الذكاء الاصطناعي يصبح طبيباً، ولا كل من ينقل أخباراً يصبح صحافياً، ولا كل من يقرأ عن محرك سيارة يصبح ميكانيكياً. على سبيل المثال، حتى لو جمعت معلومات واسعة حول القانون بمساعدة الذكاء الاصطناعي، فلن تُقبل في المحكمة كمحامٍ»، مشيراً إلى الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساعد الأشخاص على طرح الأسئلة الصحيحة لمتخصصيهم، وجعل الإجراءات أكثر فعالية، مع تعزيز مصداقية الخبراء وتقليل فرص الاحتيال أو التدخل غير المهني.

ويستعين الدكتور عبدالهادي بالمثل القائل «أعطِ خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه»، ليؤكد أن «الخبرة الحقيقية يجب أن تبقى في يد المختصين، فالتدريب المهني والتراخيص لا يمكن ولا ينبغي منحها للهواة، حتى لو كانوا مثقفين ومطلعين بفضل الذكاء الاصطناعي». ويختتم قائلاً: «نصف المعلومة قد يضر أكثر مما ينفع عند التطبيق، والأدلة الحقيقية تظهر في النتائج».

محاولة أخيرة؟

حامدة الشاكر لا تعد نفسها من الشباب، وهي تعيش في بلد (لبنان) يعاني من أزمة مالية كبرى ولا تقاعد فيه للعاملين في القطاع الخاص، وكانت تظن أن وظيفتها في شركة لها بُعد إقليمي تشكل لها ضمانة طويلة الأمد، لكن جاء من يهدد لقمة عيشها من حيث لا تحتسب.

وبعد فقدانها عملها، حاولت اللحاق بالركب المتسارع. أنشأت حساباً على «لينكدإن» وسجلت في منصات توظيف، وبخاصة الخليجية مثل «بيت.كوم»، وتتابع دورات مجانية على الإنترنت لتعلم أساسيات الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحرير، وأرسلت عشرات النسخ من سيرتها الذاتية. لكن الردود كانت قليلة، وغالباً آلية. وتوضح أن «الإعلانات تطلب مهارات لم تكن مطلوبة عندما بدأت مسيرتي. يريدون شخصاً يكتب، ويحلل بيانات، ويدير أدوات ذكاء اصطناعي، ومختص في حسابات (السوشيال ميديا)، ويعمل بثلاثة أضعاف السرعة».

قصتها تعكس معضلة جيل كامل وجد نفسه خارج السوق، لا بسبب ضعف الكفاءة، بل لأن قواعد اللعبة تغيّرت فجأة. وتختم بمزيج من السخرية والحسرة قائلة: «قبل نحو مائتي عام عندما جاءت الثورة الصناعية وحلت الآلة وخط الإنتاج محل الحرفيين، صدر النداء الشهير: يا عمال العالم اتحدوا... فهل يأتي الآن من ينادي: يا موظفي العالم اتحدوا؟».


ترمب... صديق روسيا «اللدود» وصانع «عسلها المر»

ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
TT

ترمب... صديق روسيا «اللدود» وصانع «عسلها المر»

ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)
ترمب وبوتين في ألاسكا... 15 أبريل 2025 (أ.ب)

لا شك أن العام الأول من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان حافلاً بأحداث متسارعة أربك بعضها العالم. ودفع إلى إعادة ترتيب أولويات أطراف كثيرة بينها روسيا، التي راهنت بقوة على أن انتصار الرئيس الجمهوري في المعركة الانتخابية يمنحها فرصة ذهبية قد لا تتكرر كثيراً، لتكريس واقع جديد في الصراع المصيري الذي تخوضه منذ 2022.

منذ اليوم الأول، لم يخف الكرملين ارتياحه لرحيل الرئيس جو بايدن وفريقه من البيت الأبيض، ليس فقط بسبب العداوة التقليدية التي يكنها للديمقراطيين، والتيار الليبرالي عموماً الذي يرفع شعارات «هدامة» تهدد فلسفة الحكم المحافظ في روسيا، ولكن لأن الرئيس الجديد – القديم، كان يعلن صراحة، في كل مناسبة، عزمه على التقارب سريعاً مع روسيا، موسكو، وقدرته على إيجاد حلول فعالة للمشكلات الكبرى القائمة.

مع ذلك، لم يرغب الكرملين في رفع سقف توقعاته كثيراً، وراقب بحذر خطوات ترمب الأولى وتشكيل فريقه الرئاسي، ثم تحركاته مع حلفاء أوروبيين، وحيال الملف الأوكراني الأهم بالنسبة إلى روسيا. وللحذر الروسي ما يبرره، ورغم تطابق المواقف حول أن تلك «حرب بايدن» وحول النظرة السلبية لـ«الدور الأوروبي في تأجيج الصراع»، لكن موسكو كانت تدرك أن ترمب قد يخذلها مثلما فعل خلال ولايته الأولى عندما فرض أوسع رزم عقوبات ضد الكرملين رغم أنه كان يردد على الملأ أن «بوتين صديق رائع».

العنصر الثاني الذي برر حذر الكرملين تجاه رئاسة ترمب، كان بسبب اندفاعة الأخير الحماسية لـ«فرض السلام في 24 ساعة». وهو أمر تدرك موسكو جيداً وكما أثبتت التجربة لاحقاً أنه مستحيل، وأن حجم التعقيدات وتشابك المواقف سوف يقوضان أي جهد متسرع لفرض تسوية هشة.

دونالد ترمب وفلاديمير بوتين يتصافحان خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماعهما للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا أغسطس الماضي (رويترز)

محاولات السلام... وتقدم ميداني

لذلك اختار الكرملين تكتيكاً ناجحاً بالإفادة من خبرته السابقة مع ترمب. فهو من جانب امتنع تماماً عن استفزاز واشنطن، أو توجيه اللوم لها، حتى في أوقات صعبة مثل الموقف تجاه حرب غزة، أو الهجوم على الحليف الإيراني. لكنه في الوقت ذاته سار خطوات لتعزيز تحالفاته مع كوريا الشمالية والصين وإيران وغيرها من البلدان التي ساعدت روسيا في تقليص تداعيات العزلة والعقوبات.

في ملف أوكرانيا، أعلن التزامه دعم جهود ترمب، واستند إلى تفهم الإدارة الأميركية للمطالب الروسية خلافاً للموقف مع أوروبا، وهو أمر برز بوضوح خلال القمة الوحيدة التي جمعت الرئيسين ترمب وبوتين في ألاسكا أغسطس (آب) 2025، إذ تبنى الرئيس الأميركي عملياً كل شروط نظيره الروسي، منطلقاً من ضرورة معالجة «الأسباب الجذرية للأزمة».

وتراجع ترمب بذلك عن الحلول المؤقتة مثل الهدنة أو تجميد القتال، بعدما كان هذا هاجسه في الأشهر الأولى لولايته، كما أنه أخذ على عاتقه مهمة صعبة هي الضغط على الأوروبيين والأوكرانيين، لحملهم على تقديم تنازلات مؤلمة. وقد تجلت نتائج القمة في مسودة الخطة الأميركية للسلام التي كادت (في صياغتها الأولى) تكون نسخة حرفية من شروط بوتين، ورؤيته التي قدمها في جولة مفاوضات إسطنبول قبل قمة ألاسكا بشهرين.

وخلال عام حافظ الكرملين على مواقف متشددة رغم أنه لم يغلق باب الحوار مع واشنطن في أي لحظة، وقد برز ذلك خلال جولات مفاوضات مكوكية أجراها مبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف الذي زار موسكو ست مرات. وشكلت كل زيارة منعطفاً مهماً خفف من غضب ترمب أحياناً، وحديثه عن «خيبة أمل» بسبب مماطلة بوتين وتشدده.

وقادت جولات ويتكوف إلى استئناف المفاوضات المباشرة مع أوكرانيا ثم ترتيب القمة الروسية الأميركية، وفي بعض الحالات دفعت لإجراء مكالمة هاتفية حاسمة بين ترمب وبوتين في توقيت حساس، مثلما حدث في نوفمبر (تشرين الثاني)، عشية لقاء مهم لترمب مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، كان يفترض أن يوافق خلاله على رزمة مساعدات عسكرية ضخمة، لكن المكالمة هدأت الموقف وسرعان ما دفعت نحو طرح مبادرة السلام التي تناقش حالياً.

ميدانياً، استغل الكرملين هذا العام بشكل مفيد للغاية. وبينما اتجهت أنظار العالم إلى جهود «صانع السلام» في فرض تسوية محتملة، كانت القوات الروسية تتقدم سريعاً في جنوب وشرق أوكرانيا لفرض أمر واقع جديد لا يمكن تجاهله عند رسم الحدود المستقبلية لأوكرانيا.

ترمب برفقة قادة أوروبيين لبحث حرب أوكرانيا في البيت الأبيض 18 أغسطس الماضي (رويترز)

عقود مجزية... ومكافأة لبوتين

بالتوازي مع نقاشات التسوية المؤجلة، عززت الاتصالات الروسية الأميركية مجالات إحياء العلاقات الثنائية بشكل أسرع من المتوقع. ومع استئناف عمل قنوات الاتصال على المستويات المختلفة التي كانت مقطوعة بين الجانبين، انطلق حوار تفصيلي حول إعادة تشغيل العلاقات وإغلاق ملفات صعبة، بينها مصادرة ممتلكات دبلوماسية وتسيير الرحلات الجوية وتبادل للسجناء. لكن الأهم تمثل في فتح آفاق لعلاقات تجارية مهمة، وقد تحدث كيريل ديمتريف رئيس صندوق الاستثمار المباشر والمقرب من بوتين جداً لدرجة أنه غدا رفيقه في اللقاءات مع المسؤولين الأميركيين، عن عقود مجزية واستثمارات مشتركة بعيدة المدى في قطاعات حيوية عدة بينها قطاع الطاقة والمعادن النادرة. صحيح أن هذه الاستثمارات مرتبطة بإغلاق ملف أوكرانيا لكن المقدمات تبدو إيجابية جداً للطرفين. واللافت هنا، أن بعض تلك الاتفاقات الأولية مرتبط تماماً بملف التسوية، إذ حصل ترمب على وعود باستثمارات مهمة للغاية وواسعة النطاق، في قطاع المعادن النادرة في مناطق دونباس، بعد أن تعترف واشنطن بالسيادة الروسية عليها.

ولم تتأخر المكافأة الأميركية طويلاً، إذ جاءت الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي بمراجعة استراتيجية الأمن القومي وإلغاء وصف روسيا بأنها «تهديد مباشر» لتؤشر إلى مستوى التحول الجاري رغم أن الحرب في أوكرانيا لم تتوقف ومسار التسوية ما زال شاقاً.

وقد أظهرت الخطوة الأميركية درجة التباعد بين واشنطن والعواصم الأوروبية في التعامل مع سياسات الكرملين، وهو أمر يعول عليه الكرملين كثيراً ويعد واحداً من أهم إنجازات العلاقة الروسية مع ترمب.

وقد برز هذا التباعد ليس فقط في نقاشات التسوية الأوكرانية بل وفي التعامل مع ملف الأمن في أوروبا بشكل عام. ويكفي القول إن واشنطن تجاهلت عملياً تفاقم القلق الأوروبي بعد سلسلة من انتهاكات أجواء البلدان الأوروبية بالمسيّرات الروسية. وغاب رد الفعل الموحد لحلف شمال الأطلسي، وبينما وجهت بعض بلدانه مثل فرنسا وبريطانيا عناصر من سلاح الجو لتعزيز حماية حدود أوروبا مع روسيا، لم يظهر تحرك قوي للحلف الذي يضم نحو 100 ألف عسكري أميركي منتشرين في أوروبا. وبدلاً من ذلك رأى ترمب أنه لا داعي لتحريك قوات الحلف بسبب «عدم ظهور تهديد روسي متعمد».

ولاحقاً، بعد طرح خطة ترمب للتسوية تحدث قادة بلدان أوروبية مثل لاتفيا وبولندا صراحة عن عدم مبالاة ترمب بأمن القارة وأنه يمنح بوتين مكافآت على سياساته.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ وقائد كوريا الشمالية كيم جونغ أون في بكين (أرشيفية - د.ب.أ)

شهر عسل مر

لكن في المقابل، لا يبدو شهر العسل بين بوتين وترمب وردياً تماماً كما يظهر للوهلة الأولى. والأهمية الكبرى التي أولاها الكرملين لعلاقته مع الرئيس الأميركي عكست أولوياته بسبب انخراطه الكامل في الملف الأوكراني، لكن مجريات العام عكست خسائر بعيدة المدى لروسيا بسبب سياسات ترمب، بدأت مقدماتها تلوح وتتضح شيئاً فشيئاً.

وتراجع حضور روسيا في ملفات إقليمية مهمة للغاية، ومثلاً لم تدع موسكو إلى كل الاجتماعات التمهيدية ولا النقاشات التي قادت لخطة التسوية في غزة، وتم تجاهلها تماماً ليس فقط بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، بل بصفتها شريكاً لسنوات طويلة في قيادة «رباعي» الشرق الأوسط.

أيضاً تم تجاهل العروض الروسية الكثيرة للوساطة في ملف إيران النووي، ولم تنجح موسكو في لعب دور لحماية حليفها الإيراني، أو حتى للمشاركة في النقاشات الجارية حول مستقبل وآليات التعامل الغربي معه.

لكن الأهم من ذلك برز في ملفات لها أهمية خاصة عند الكرملين، وقد عكست مستوى تراجع حضور روسيا وتأثيرها حتى في مناطق نفوذها الحيوي التقليدي.

ومع تزايد التغلغل الأميركي في آسيا الوسطى وتعزيز تحالفات واشنطن مع بلدان ظلت تقليدياً تحوم في فلك موسكو، جاء اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان برعاية ترمب ليقضي على ما تبقى من نفوذ روسيا في هذا الملف. ولا يقتصر الأمر على عدم دعوة موسكو أصلاً للنقاشات التي قادت إلى إبرام اتفاق سلام في واشنطن، بل وتجاوز ذلك إلى إعلان الاتفاق على إنشاء «منطقة عبور» عبر أرمينيا تربط أذربيجان بجيب نخجوان التابع لها غرباً، على أن يُسمى «طريق ترمب للسلام والازدهار الدوليين».

وبموجب ذلك الاتفاق، تحظى الولايات المتحدة بحقوق تطوير الممر المعروف كذلك بـ«ممر زنغزور»، ما يعني ظهور وجود أميركي مباشر في منطقة جنوب القوقاز للمرة الأولى في التاريخ، ما يشكل تهديداً جدياً لمصالح كل من روسيا وإيران.

أيضاً، جاءت خطوة ترمب بإعلان استئناف التجارب النووية المجمدة منذ عقود، لتضع موسكو أمام استحقاق جدي وجديد قد يفضي إلى تأجيج سباق التسلح في العالم ويثقل كاهل الموازنة الروسية التي تعاني أصلاً من تضخم كبير جداً في بنود الإنفاق العسكري.

ومع البعد الاقتصادي للموضوع، فهو من جانب آخر يضيف مخاطر جدية نظراً لضعف آليات الرقابة والحد من التسلح وزيادة أعداد البلدان المرشحة للانضمام إلى النادي النووي، ما يفتح باباً كما يقول خبراء لـ«فوضى نووية غير محسوبة العواقب».

يقابل هذا أن موسكو وواشنطن لم تنجحا أصلاً في الاتفاق على العودة إلى اتفاقات الحد من التسلح في مستوياتها المختلفة، مثل معاهدة الحد من نشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة في أوروبا وتمديد معاهدة ستارت لتقليص الأسلحة الاستراتيجية وغيرها من الاتفاقات التي تم تقويضها خلال السنوات الماضية.

ولم تحصل موسكو التي أطلقت قبل شهرين مبادرة لتمديد العمل باتفاقية «ستارت الثانية» التي ينتهي مفعولها في فبراير (شباط) المقبل، على أي رد من واشنطن. ما دل على أن الانخراط النشط في الملف الأوكراني لم ينعكس فعلياً على عودة التنسيق الروسي الاميركي في قضايا مهمة للغاية، مثل ملفات الأمن الاستراتيجي في العالم.


تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
TT

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)

تبرز العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بوصفها واحدةً من أكثر العلاقات تعقيداً وتقلباً. فعلى الرغم من التحالف في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإن البلدين يحرصان على إدارة هذه العلاقة وتسييرها من منظور براغماتي قائم على المصالح.

وبشكل عام، تشعر أنقرة بالارتياح مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بعد مضي عام من ولايته الثانية، التي شهدت ما يشبه «المراجعات» في كثير من القضايا الشائكة والملفات الحرجة المزمنة في العلاقات بين البلدين.

يعود ذلك إلى التصريحات المتكررة لترمب عن صداقته مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، و«إعجابه بذكائه» في كثير من القضايا، وفي مقدمتها تغيير النظام في سوريا.

هناك فرق جوهري ملحوظ بين إدارة ترمب وإدارة سلفه جو بايدن؛ إذ لا يبدي الأول أي حساسية تجاه أوجه القصور في الديمقراطية في تركيا، بعكس بايدن، الذي وصل إلى حد وصف إردوغان بـ«الديكتاتور»، وامتنع عن استضافته في البيت الأبيض على مدى 4 سنوات.

براغماتية ونهج حذر

لفتت إلى ذلك أستاذة العلوم السياسية التركية، دنيز تانسي، عادَّة أن الطرفين «يحاولان إيجاد أرضية مشتركة أوثق، وأن الولايات المتحدة تتصرف ببراغماتية في هذه المرحلة».

نأت واشنطن بنفسها عن اعتقال رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو والاحتجاجات التي أعقبته (حزب الشعب الجمهوري - إكس)

وقدَّم مدير مركز الاقتصاد والسياسة الخارجية التركي، سنان أولغن، اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أبرز منافسي إردوغان على حكم تركيا، منذ 19 مارس (آذار) الماضي، وإحالته إلى المحاكمة بشبهات فساد وإغراقه بكثير من القضايا، وتجاهل الاحتجاجات الشعبية على ذلك من جانب واشنطن، مثالاً واضحاً على التغاضي عن وضع الديمقراطية في تركيا.

وقال: «إن هذا فرق كبير عن الفترة السابقة، على الأقل نرى أن النهج على أعلى المستويات أصبح أكثر إيجابية... التفاؤل الحذر هو الإطار الذي وضعته قنصل تركيا العام السابقة في لوس أنجليس، غولرو غيزر، للعلاقات التركية - الأميركية في ولاية ترمب الثانية، لافتة إلى أن العلاقات وصلت إلى أدنى مستوياتها خلال فترة بايدن، وأن الديمقراطية، والتحول الديمقراطي، ليسا ضمن أجندة ترمب السياسية، وأنها غائبة حتى في بلاده، ومن الصعب حصر هذا الأمر في علاقته بتركيا أو غيرها من الدول».

كانت قضية اعتقال طالبة الدكتوراه التركية، روميسا أوزتورك، في الولايات المتحدة في 25 مارس بتهمة المشاركة في أنشطة لدعم حركة «حماس» الفلسطينية، وامتناع أنقرة عن مناقشة القضية علناً، مثالاً ثانياً على محاولة تجنب الإضرار بالديناميكية الإيجابية التي بدأت مع ترمب في ولايته الثانية.

مراجعة الملفات العالقة

وعد ترمب بحل قضية حصول تركيا على مقاتلات «إف - 16»، والعودة إلى برنامج إنتاج وتطوير مقاتلات «إف - 35»، الذي أُخرجت منه في أواخر ولايته الأولى بعد حصولها على منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس - 400»، صيف عام 2019، وقيامه في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بفرض عقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية التركي بموجب قانون مكافحة خصوم تركيا بالعقوبات (كاتسا).

فرض ترمب في 2020 عقوبات على تركيا بموجب قانون «كاتسا» (موقع الصناعات العسكرية التركية)

ومؤخراً، قال السفير الأميركي لدى تركيا المبعوث الخاص إلى سوريا، توماس برّاك، إنه سيتم حل الملفات الخلافية في العلاقات مع تركيا خلال فترة تتراوح بين 3 و4 أشهر، لكنه أبقى مسألة رفع عقوبات «كاتسا» وعودة تركيا إلى برنامج «إف - 35» رهن التخلص من منظومة «إس - 400»، وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة لتركيا؛ بسبب شروط الصفقة الموقَّعة مع روسيا عام 2017.

وفجَّرت زيارة إردوغان الأولى للبيت الأبيض، منذ 6 سنوات، التي أجراها في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، انتقادات حادة من جانب المعارضة التركية؛ بسبب تصريحات أدلى بها براك عشية لقاء ترمب وإردوغان، قال فيها إن الأزمات التي ظلت عالقة لسنوات في العلاقات التركية - الأميركية، مثل حصول تركيا على منظومة «إس - 400» ومقاتلات «إف - 35» و«إف - 16»، تجب معالجتها من منظور «الشرعية»، وإن ترمب قال إنه سئم هذا، قائلاً: «فلنتخذ خطوةً جريئةً في علاقاتنا ونمنحه (إردوغان) ما يحتاج إليه».

السفير الأميركي لدى تركيا توماس برّاك (أ.ب)

وأضاف أنه عندما سأل ترمب عمّا يحتاج إليه إردوغان، أجاب بأنها «الشرعية»، وأن إردوغان شخص ذكي للغاية، والمسألة ليست الحدود مع سوريا (في إشارة إلى قلق تركيا من وجود مقاتلين أكراد على حدودها الجنوبية تدعمهم واشنطن)، أو منظومة «إس - 400»، أو طائرات «إف - 16»، المسألة هي الشرعية.

انتقادات من المعارضة

على خلفية هذه التصريحات، اتهم زعيم المعارضة التركية، رئيس حزب «الشعب الجمهوري» إردوغان بأنه «حوَّل تركيا من حليف استراتيجي لأميركا إلى عميل ثري يملأ جيوب ترمب بشراء 225 طائرة (بوينغ)، وتوقيع صفقة الغاز المسال وخفض الرسوم الجمركية على البضائع الأميركية، وتوقيع اتفاقية للطاقة النووية للأغراض المدنية دون الحصول على أي مقابل، إلا البحث عن شرعية في غياب حكم ديمقراطي في تركيا».

ترمب وإردوغان شهدا توقيع اتفاقية في مجال الطاقة النووية لأغراض مدنية 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

بدوره، عدّ رئيس حزب «النصر» القومي المعارض، أوميت أوزداغ، تصريح برّاك حول «الشرعية» إهانةً للأمة التركية، ولإردوغان، ورأى أن إشارة ترمب بإصبعه إلى إردوغان خلال لقائهما بالبيت الأبيض، قائلاً: «هذا الرجل يعرف الانتخابات المزورة أكثر من أي شخص آخر»، لم تكن من قبيل الصدفة وإنما لإثارة الجدل في تركيا وعلى الصعيد الدولي.

وانتقد أوزداغ تذكير ترمب مرة أخرى بقضية اعتقال القس الأميركي، أندرو برونسون، التي تسبب في أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا عام 2018، خلال ولايته الأولى، عادّاً أنه انعدام للياقة الدبلوماسية؛ لأن الرأي العام التركي والعالمي يعلم أن قضية برونسون طُرحت مع رسالة مهينة لإردوغان من جانب ترمب.

جانب من مباحثات إردوغان وترمب بالبيت الأبيض في 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

وطالب رئيس حزب «الوطن» التركي ذو التوجه اليساري، دوغو برينتشيك، بطرد برّاك من أنقرة.

حاول براك إصلاح الأمر قائلاً، في تصريحات لوسائل إعلام تركية، لاحقاً، إن رئيسنا (ترمب) يثمّن عالياً جهود تركيا سواء لمصلحة أميركا أو في إطار «ناتو»، وإنه «يضع في مفهوم الشرعية معنى الاحترام».

بدوره، عدّ إردوغان موقف المعارضة تعبيراً عن «خيبة الأمل» ودليلاً على النجاح الكبير للزيارة.

ملفات دولية وإقليمية

على الرغم مما يبدو أنه حراك فعال على خط العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وتنسيق في كثير من الملفات الدولية والإقليمية، مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، والأمن الأوروبي، والطاقة والقضايا المتعلقة بـ«ناتو»، إلى جانب الإشادة الأميركية بالدور التركي في سوريا، والتنسيق الفعال بشأن سوريا ومكافحة الإرهاب، يبدو أن الملفات الأساسية، وفي مقدمتها الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب (الكردية) التي تقود «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لا تزال تراوح مكانها، بدافع من غياب الثقة المتبادلة حسب رؤية الخبراء، رغم التصريحات التي تشير إلى توجه أميركي لتحسين الوضع في الولاية الثانية لترمب عنها في الولاية الأولى.

تدريب مشترك بين القوات الأميركية و«قسد» في شمال شرقي سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)

في الملف السوري، أحد أهم الملفات الإقليمية التي شهدت تنسيقاً أميركياً - تركياً ملحوظاً في العام الأول من ولاية ترمب الثانية، دعت «وثيقة مشروع 2025»، التي تمثل جزءاً من رؤية ترمب للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط، إلى إعادة التفكير في السياسة الأميركية تجاه الأكراد في المنطقة، عادة أن دعمهم قد يهدد المصالح الأميركية والإقليمية ويتعارض مع علاقتها بالحلفاء، مثل تركيا.

ولفتت الأكاديمية التركية، دنيز تانسي، إلى سعي ترمب وإدارته لمنع الصدام بين تركيا وإسرائيل في سوريا، وهو ما انعكس خلال لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض؛ إذ طالبه بحل مشكلاته مع تركيا، مبدياً استعداده للعمل على ذلك بحكم الصداقة التي تربطه بإردوغان.

إردوغان شارك باجتماع حول غزة دعا إليه ترمب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

أما على صعيد القضية الفلسطينية، فإن رؤية ترمب للدور التركي قائمة على تقدير التأثير الفعال لتركيا على «حماس» لصالح إسرائيل، لكنه لم يتمكن حتى الآن من كسر حدة موقف نتنياهو ورفضه مشاركة تركيا في قوة دولية مزمع نشرها في غزة، للسبب ذاته، وهو علاقة تركيا بـ«حماس»، ويشكل ذلك نقطة أخرى لاختبار تغير وجه العلاقات التركية - الأميركية في ظل ترمب.

في التحليل النهائي، تظل العلاقات التركية - الأميركية معقدة ومرهونة بالتفاهمات والصفقات البراغماتية في إطار تعاون تكتيكي في مجالات مثل الأمن والاقتصاد والتجارة ومكافحة الإرهاب، لكنها ستبقى فاقدة للشراكة الاستراتيجية الراسخة؛ بسبب التباينات في الرؤى حول القضايا الإقليمية.