يوميات الود والخصام (4): حَمَلَة أسرار نظام القذافي في مرمى الخصوم داخلياً وخارجياً

بينهم وزراء سابقون ورؤساء أجهزة أمنية ومصرفيون

سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
TT

يوميات الود والخصام (4): حَمَلَة أسرار نظام القذافي في مرمى الخصوم داخلياً وخارجياً

سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)

عاش حَمَلَة أسرار نظام معمر القذافي، منذ سقوط حكمه، في مرمى نيران الخصوم داخلياً وخارجياً. بين هؤلاء وزراء سابقون، ورؤساء أجهزة أمنية، ومصرفيون كبار. وبعد صمت مضى عليه أكثر من سبع سنوات، بدأ بعض الشهود، من جنسيات مختلفة، ممن ارتبطوا بليبيا وبزعماء عبر العالم، وبعضهم من أنصار القذافي، في الخروج إلى النور، وهو أمر يبدو مقلقاً لأطراف عدة في داخل ليبيا وخارجها، نظراً إلى كمية الأسرار التي تريد هذه الأطراف أن تظل في الظلام.
ويقول زياد تقي الدين، رجل الأعمال اللبناني، الذي شارك في اجتماعات كان فيها بعض كبار المسؤولين القطريين والفرنسيين والليبيين، إن حجم المؤامرات التي كانت تحاك ضد طرابلس لا يمكن تخيلها. وهناك من يخشى من ظهور الحقيقة.
وفي الجانب الآخر بدأ تحرك أنصار القذافي سياسيا وقانونياً، من خلال طرق عدة، منها بحث فرص التقدم لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي يجهّز لها المبعوث الأممي، غسان سلامة، ومنها كذلك التجهيز لمقاضاة من يُعتقد أنهم كانوا وراء مقتل القذافي، ونجله المعتصم، ووزير دفاعه أبو بكر يونس جابر، في مدينة سرت، والتشهير بنجل القذافي الآخر، سيف الإسلام، إضافة إلى التشكك في ملابسات وفاة وزير النفط الليبي السابق شكري غانم في النمسا سنة 2012. ويقول تقي الدين إن «غانم قُتل على نهر الدانوب».

لقد عثرت الشرطة النمساوية على جثة غانم (69 عاماً) في الدانوب في فيينا حيث كان يعيش في المنفى. وجرى التعامل مع القضية على أن الرجل أصيب بأزمة قلبية أثناء التريض، ما أدى إلى سقوطه في النهر وغرقه. لكن مسؤولين في النظام السابق يرجحون، اليوم، اغتياله على يد خصوم أوروبيين، خوفاً من فضح أسرار تخص تعاقدات مالية ضخمة.
وتأتي هذه الشكوك بالتزامن مع تحرك قانوني يقوم به محام لسيف الإسلام، في لندن، هو كريم خان، لتصحيح ما قال إنها معلومات مغلوطة نشرتها وسائل إعلام دولية بشأن موكله أثناء الانتفاضة المسلحة، ما أدى إلى تشويه صورته والإضرار بسمعته، وأنه لم يكن متاحاً له الرد في حينه بسبب ظروف احتجازه وتقييد حريته.
ومثلما يفكر تقي الدين، يرى شخص يُعتبر من المقربين جداً من سيف الإسلام أن الدكتور غانم قُتل، بحسب اعتقاده، على أيدي جهات فرنسية. بينما يقول قائد من المحسوبين على نظام القذافي، خلال لقاء في فيلته الفخمة في شرق القاهرة، إنه «تم البدء في فتح تحقيقات في الكثير من القضايا التي نرى أنها تسببت في إلحاق ضرر كبير بليبيا، وقادتها، وعلى رأسهم، بطبيعة الحال، القذافي ومساعدوه الذين تمت تصفيتهم داخل ليبيا، بالإضافة إلى قضية الوزير غانم».
إن حدة الفواجع التي جرت في 2011 والتي غيَّرت أولويات الكثير ممن تبقوا من زعماء النظام السابق وكهنته وحفظة أسراره، تراجعت كما يتراجع البنج من الجسد... ورغم استمرار الفوضى، إلا أن أنصار القذافي يبدو أنهم بدأوا، أخيراً، في استيعاب ما حدث، وفي التقاط الأنفاس، والتعافي من أجل العودة إلى الواجهة مرة أخرى، محلياً ودولياً. ويقول أحد شيوخ قبيلة العواقير في اجتماع في بنغازي مع ممثلي قبائل من جنوب البلاد إن «الأوان لالتقاط الأنفاس. اليوم... من السهل أن نقول إن ما جرى في السنوات الماضية، كان مؤامرة».
ويبدو أن مرور الوقت كفيل، كذلك، بإعادة تجميع شهادات ووثائق في محاولة لفهم ما حدث. لقد مرت عاصفة 2011 على المدن الليبية الكبرى، وقلبتها رأساً على عقب. ويقول تقي الدين: مهما حاول البعض إخفاء الحقيقة إلا أنها ستطاردهم، إلى أن تظهر واضحة للعيان، كالشمس. توجد محاولات لطمس تلك التفاصيل المدمرة، لكن، أعتقد أن كل شيء سينكشف. إنها مسألة وقت.
لقد اختفت الألوف من وثائق الدولة الليبية، بيد أنه ما زالت هناك ملفات مبعثرة هنا وهناك، وقادرة على إخافة الآخرين، على ما يظهر، كما يقول القيادي المحسوب على النظام السابق والذي يفضل، مثل آخرين، الاستمرار في إدارة الحياة من بين أسوار فيلته، إلى حين. وحتى بالنسبة لرجل المخابرات العسكرية القوي، عبد الله السنوسي، هناك من يخشى من خروجه من محبسه في طرابلس... فهو أحد شهود اجتماعات «كورنثيا» مع الفرنسيين، وأحد المطلعين على تفاصيل مفاوضات القطريين مع القذافي وتداعياتها (التي سيرد ذكرها بالتفصيل في الحلقة التالية). ويعد مثل هؤلاء من بين القيادات التي تملك أسراراً مخيفة لزعماء في داخل ليبيا وخارجها.
وعلى سبيل المثال توجد مكاتبات عدة بين باريس وطرابلس، بشأن قضايا مالية بمئات الملايين من الدولارات، وأخرى فيها خليط قضائي - سياسي، من بينها خطابات من محامية السنوسي، السيدة عزة المقهور، وتيري هيرزوغ، محامي الرئيس نيكولا ساركوزي، وذلك بعد دخوله قصر الإليزيه بنحو 17 شهراً. وتتطرق رسالة منها مؤرخة بيوم 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2008 إلى مفاوضات سابقة، حين كان ساركوزي وزيراً للداخلية، جرت بين الفرنسيين والليبيين، لتسوية قضية إسقاط الطائرة «يو تي إيه»، المتهم فيها السنوسي مع ليبيين آخرين.
وعلى أي حال، وبعد نحو سبع سنوات من الحبس، تمكن السنوسي أخيراً من الخروج من الحوصلة الضيقة والخانقة التي كان محشوراً فيها، في سجن الهضبة، وأصبح يقيم في مكان أكثر لطفاً، في طرابلس، لكن تحت سيطرة الميليشيات أيضاً. ومعه رئيس الوزراء السابق البغدادي المحمودي، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية أبو زيد دوردة، إضافة إلى آخرين. وكان قد حكم عليهم بالإعدام، مثل سيف الإسلام، قبل نحو ثلاث سنوات.
كما أن أسماء شخصيات مثل السنوسي، والمحمودي، ودوردة، أصبحت أكثر حضوراً في جلسات تجري في الخفاء، في فيلات وشقق بالقاهرة، وتونس، بين قادة من النظام السابق وأطراف سياسية بعضها ليبي، وبعضها من دول كبرى، منها من يقوم بالتنقيب عما يمكن أن يزعج به خصومه في مواسم الانتخابات، في هذه العاصمة أو تلك. وأصبح ذِكر سيف الإسلام أمراً عاديا، في مثل هذه اللقاءات، عندما يتعلق الأمر بالمستقبل.
وقد استفاد المحبوسون من زعماء النظام السابق من عفو أصدره البرلمان، إلا أن معظمهم لا يزالون محتجزين في السجون حيث لا تخضع الميليشيات لأي سلطة. وحتى بالنسبة إلى سيف الإسلام فإن إطلاق سراحه، العام الماضي، بناء على قرار العفو، لم يقترن به نشاط سياسي علني بسبب مخاوف أمنية على حياته، بحسب ما يقول قريبون منه. لكن مجرد استمرار احتمال خروج كل هذه القيادات من الأسر ومن العزلة، يمثل كابوساً لأطراف كثيرة.
ويقول الرجل الذي يعيش بين جدران فيلته في شرق العاصمة المصرية إنه، رغم ذلك، يتواصل مع زملاء له من قادة النظام السابق. وكان في الماضي ضابطاً كبيراً في الشرطة العسكرية. بينما كان ضيفه الجديد مسؤولاً عن الحدود البرية في بلاده. ويشير الضابط وقد بدأ أكثر حيوية مما كان عليه قبل سنتين إلى أنه، في عواصم أخرى في منطقة الشرق الأوسط، هناك من ينتظر لكي يدلي بدلوه، ويروي ما يقول إنها «حقائق مروعة عن اختلاط السياسة بغسل الأموال، بشن الحروب، مثل الحرب على ليبيا».
وفي الجانب الشرقي من البحر المتوسط، تأتي شهادة تقي الدين، لتفسر إلى حد كبير سبب الفاجعة التي حلت بليبيا، حيث يتحدث بمرارة عن «تحالف فرنسي - قطري، منذ البداية، لإسقاط نظام القذافي»، وأنه «جرى استخدام كل الوسائل لتحقيق هذا الغرض».
ويبلغ عدد قيادات النظام السابق من المسجونين في مدينة طرابلس حتى الآن، أكثر من عشرين. والمشكلة أن معظم هؤلاء كانوا شهود عيان على تفاصيل جرت في غرف مغلقة مع شخصيات ما زال بعضها في السلطة أو في مجال الأعمال في بلدان حول العالم، سواء في فرنسا، أو قطر، أو الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو غيرها.
والمعضلة بالنسبة لكثيرين ممن كانوا يرغبون في زرع الشقاق والخلافات بين قيادات النظام السابق، حتى وهم في السجون، تكمن في أن معظم هذه المحاولات باءت بالفشل حتى الآن. وفي خطوة أخيرة، تعبّر عن نفاد صبر بعض قادة المجلس الرئاسي الحاكم في طرابلس، جرى استدعاء اثنين من كبار المسؤولين المسجونين، أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى مكتب قيادي في هذا المجلس. وهما المحمودي ودوردة. ويقول مصدر شارك في اللقاء إنه «تم استبعاد السنوسي (عن اللقاء)... أعتقد أنها كانت محاولة لشق الصف بينهم حتى وهم في السجن».
وبحسب المعلومات المتوافرة، تمت النقاش مع المحمودي ودوردة حول مستقبل ليبيا ومستقبل سيف الإسلام، ثم أعيدا إلى محبسهما الذي تشرف عليه ميليشيات موالية للمجلس الرئاسي المدعوم من الأمم المتحدة. ويضيف المصدر: «شربا القهوة، وأجابا عن الأسئلة، وأبديا نوعاً من التحدي». وعلى أي حال لم يكن السنوسي عضواً في مجلس قيادة الثورة التي جاءت بالقذافي كحاكم لليبيا في 1969. ولم يكن من بين رجال الحرس القديم ممن كانوا يرفضون فكرة المصالحة مع خصوم القذافي. ويقول صديق لسيف الإسلام القذافي: «بالعكس، كان السنوسي مع سيف، ومع برنامجه...».
ومن بين الوقائع الطريفة التي يحرص البعض على إبقاء تفاصيلها طي الكتمان، تلك التي تخص الأسباب التي دفعت مسؤولين غربيين إلى زيارة ليبيا منذ شهر أغسطس (آب) عام 2000. رغم أن ليبيا كانت حتى ذلك الوقت متهمة بدعم الإرهاب، وتخضع لعقوبات وحصار دولي. في ذلك الصيف جاء إلى طرابلس وزراء ومسؤولون من فرنسا وألمانيا وفنلندا وغيرها. وتوجد صورة شهيرة لسيف الإسلام مع وزير الخارجية الألماني، يوشكا فيشر، تعود لشهر سبتمبر (أيلول) قبل 17 سنة. لقد بدأت ليبيا حينذاك في التوسط للإفراج عن 21 من الرهائن الغربيين لدى جماعة أبو سياف التي تأسست في مطلع تسعينات القرن الماضي. وكانت الجماعة المتشددة تسعى إلى إنشاء «دولة إسلامية»، بحسب وصفها، في جنوب الفلبين.
هذه الوساطة كانت بمثابة أول ظهور لمؤسسة القذافي. وكان صديق سيف الإسلام طرفاً أساسيا في المفاوضات التي جرت مع جماعة أبو سياف. ويقول: «نعم... هذا كان أول ظهور لمؤسسة القذافي. تفاوضنا نحن نيابة عن الأوروبيين. كان لدينا سفير في مانيلا، هو رجب الزروق. فذهبتُ إليه، وأمضينا ستة أشهر بين مانيلا، ومعقل أبو سياف في غابات هولو في جزيرة مندناو جنوب الفلبين. وأتينا بالرهائن إلى ليبيا، على دفعتين... دفعة تم الاحتفال بها في منطقة السرايا الحمراء في طرابلس، بينما تم الاحتفال بالدفعة الثانية في باب العزيزية بالعاصمة».
وكانت الوفود الغربية التي حضرت للعاصمة الليبية، تخشى حتى عهد قريب من أن يقترن اسمها بليبيا أو القذافي. وقتها اختتم مساعد سيف كلمته أمام تلك الوفود، قائلاً إن سبب الإفراج عن الرهائن من غابات هولو، هو «اسم معمر القذافي». ويضيف: «كانت هذه الواقعة سببا في خروج ليبيا من عزلتها... لقد كانت خطوة مهمة».
حينذاك تولى صالح عبد السلام موقع المدير التنفيذي لمؤسسة القذافي. واستمر حتى عام 2007، حيث كان شاهداً، مع آخرين، على الكثير من الوقائع. وبعد تركه لها، واصل التعاطي مع ملفات كثيرة داخل الدولة الليبية، كان بعضها يدور بعيداً عن الأضواء. وما زال عبد السلام يتحدث عن المؤسسة ككيان قابل للاستمرار في المستقبل. وبعض قادة النظام السابق لديهم رؤية أوسع، بيد أن هذا لا يمحو التصورات المريرة عن الماضي، ففي يوم من أيام أغسطس الحارة عام 2009، قال دبلوماسي أميركي في ليبيا لسيف الإسلام: مستقبلك السياسي انتهى!
وجرى هذا حين أظهر نجل القذافي حفاوة بالغة لدى وصوله إلى طرابلس على متن طائرة خاصة بصحبة عبد الباسط المقرحي، الذي توفي في 2012 كان المقرحي مسجوناً في اسكوتلندا، في قضية لوكربي الشهيرة. وتسلمته ليبيا تحت بند الإفراج الصحي في 2009. وكان صديق سيف الإسلام في ذلك الوقت ضمن الفريق المفاوض لاستعادة المقرحي. ويقول: «كان طلب الأميركيين والإنجليز بأن يكون استقبال المقرحي عاديا دون استقبال رسمي من الدولة الليبية».
ومن جانبه كان سيف يعتبر قضية المقرحي قضيته الشخصية. وكان تدخُّل مؤسسة القذافي في استعادته، من المحطات اللافتة في مسيرة نجل القذافي. ومع ذلك كان يوجد حرص على تنفيذ التعهدات مع واشنطن ولندن، بشأن عدم تنظيم استقبال رسمي للمقرحي. ويقول أحد الشهود، من قبيلة المقارحة، ممن كان في مطار طرابلس: «أذكر أن الاستقبال الذي جرى، لم يكن رسمياً، بل كان شعبيا من أبناء القبيلة». بيد أن صديف سيف يعلّق قائلاً: «المشكلة أن الأميركيين والإنجليز اعتبروا ما جرى من حفل لاستقبال المقرحي عملاً عدائياً ومستفزاً لهم».
وبعد عودة سيف بالمقرحي، وعقب مشهد هبوطهما سوياً من الطائرة، زار دبلوماسي أميركي نجل القذافي في باب العزيزية بطرابلس، وتحدثا أولاً في القضايا الثنائية والتعاون بين البلدين. وكان صديق سيف موجوداً. ويقول: «مع نهاية الاجتماع، طلب الدبلوماسي من مرافقته بالسفارة الأميركية، مغادرة المكان، لأنه يرغب في الحديث مع سيف منفرداً. وطلب مني سيف الإسلام البقاء». ويتابع: «مما قاله هذا الدبلوماسي: هل فقدت عقلك يا سيف؟ كررها مرات عدة. وتابع الدبلوماسي حديثه مجدداً قائلاً: هل من المعقول أن تعود رفقة عبد الباسط المقرحي في نفس الطائرة؟ إنه عمل استفزازي! وهو عمل غير مقبول بالمطلق، ولن نغفره لك... إن مستقبلك السياسي قد انتهى». وهنا رد عليه سيف، بحسب الرواية نفسها، قائلاً: «أنتم ترونه متهماً، ونحن نراه بريئاً».
إن تفاصيل العلاقات المرتبكة بين الغرب وطرابلس، وتداخل بعض الأطراف العربية، وعلى رأسها قطر، كثيرة ومتشعبة، وتتضمن، في بعض الأحيان «أعمالاً لم تكن أبدا مقبولة، ممن كنا نظن أنهم أصدقاء لنا... الأمور برمتها تحتاج إلى إعادة ترتيب»، كما يقول قادة من النظام السابق، في إطار مناقشات جارية لفهم ما حدث في 2011 وما بعدها. لكن حتى لو خرج القادة السابقون من السجون، سوف تنتظرهم ملاحقات في مطارات العالم، فالمحكمة الجنائية الدولية ما زالت تحتفظ بملفات استدعاء لعدد من هؤلاء بمن فيهم سيف الإسلام، ورئيس جهاز الأمن الداخلي، التهامي خالد.
ومع بداية الانتفاضة، وبينما كان العالم يتابع تحركات الدول بشأن الأحداث في ليبيا، كانت الاجتماعات داخل قرية «المغرب العربي (مجمع سكني)» في طرابلس، تمتد حتى الساعات الأولى من الفجر، في محاولة لمعرفة ما سيحدث غداً، بينما كان بعض الدبلوماسيين يقومون بحزم حقائبهم استعداداً للرحيل، وهم يتابعون ما تبثه قناة «الجزيرة» عن تقدم المنتفضين في بنغازي. كانت الأمور بالنسبة إلى كثير من الدبلوماسيين ورؤساء الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا، قد حسمت. وأن كل شيء قد انتهى.
ومن بين الملابسات الأخرى التي يجري جمع معلومات حولها، من جانب كبار قادة النظام السابق، تلك التي تخص ضربة موجعة جاءت من أحد كبار المصرفيين في البنك المركزي الليبي (تتحفظ «الشرق الأوسط» عن نشر اسمه) في مطلع 2011. وكان قد طلب من الحكومة الليبية، وقتها، السفر إلى الخارج بحجة العمل على ترتيب أمر الأرصدة الليبية حول العالم، والبالغة مئات المليارات من الدولارات، إلا أنه، وبمجرد وصوله إلى دول شرق أوسطية، التقى بمسؤول في الخزانة الأميركية، ومنحه جميع الحسابات الخاصة بأرصدة بلاده، ما سهل لدول كبرى عملية تجميد هذه الأرصدة في وقت مبكر.
وتدرس قيادات من النظام السابق احتمال ضلوع أحد زعماء جماعة «الإخوان» المرتبط بقطر، بترتيب هروب هذا المصرفي في أول أيام التمرد على القذافي. وبحسب تحقيقات مبدئية، فقد جرى رصد تقارب سريع له مع الزعيم الإخواني المشار إليه، رغم أن هذا المصرفي لم يكن من جماعة «الإخوان». ويقول أحد المصادر الأمنية: «الغريب أن هذا المصرفي كان ممن دعوا إلى قمع الانتفاضة حين انطلقت يوم 17 فبراير (شباط) في بنغازي... كان معنا في المدينة، وهي تشهد بداية الاضطرابات، واتصل بعبد الله السنوسي في طرابلس، ودعاه إلى استخدام الشدة ضد المتظاهرين قائلاً إنهم لا يأتون إلا بالقوة... ثم فوجئنا بأنه أول من قفز من المركب».
ومن المعروف أن تجميد أي أموال، لأي دولة أو حتى أشخاص، يحتاج إلى وقت طويل من جمع المعلومات والتحريات والوثائق، إلا أن المصرفي الليبي «تطوع واختصر الطريق»، بحسب مصدر من النظام السابق، بعد قراره القفز من السفينة الليبية يوم 19 فبراير 2011. ويضيف هذا المصدر أن المصرفي التقى يوم 20 من الشهر نفسه بالمسؤول الأميركي و«أعطاه كل أرقام الحسابات الليبية والشفرات الخاصة بها». ويبدو أنه بناء على هذه المعلومات، صدر القرار الدولي بتجميد الأرصدة الليبية في الخارج يوم 27 فبراير، أي بعد عشرة أيام من انطلاق الانتفاضة المسلحة من مركزها في بنغازي. وأدى هذا الأمر إلى توجيه ضربة قاصمة لظهر القذافي في طرابلس، مع حلول شهر مارس (آذار) والشهور التالية. ويقول صديق سيف الإسلام والذي كان في طرابلس آنذاك: «بدأت مشكلة في دفع المرتبات، ولم يكن هناك أموال لشراء الوقود، وبدأت التداعيات تؤثر على الجميع».


رسالة من محامية رئيس المخابرات العسكرية الليبي السابق عبد الله السنوسي السيدة عزة المقهور إلى تيري هيرزوغ محامي الرئيس نيكولا ساركوزي في 2008 بشأن تسوية قضية إسقاط طائرة «يو تي إيه» («الشرق الأوسط»)



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.