«الشرق الأوسط» في ترشيحات الأوسكار 2: سباق أفضل فيلم أجنبي في ميزان دقيق

ليس بينها ما هو كامل أو مثالي

«الإهانة» (لبنان)
«الإهانة» (لبنان)
TT

«الشرق الأوسط» في ترشيحات الأوسكار 2: سباق أفضل فيلم أجنبي في ميزان دقيق

«الإهانة» (لبنان)
«الإهانة» (لبنان)

في الثاني عشر من الشهر الماضي، وقبل أيام من إعلان ترشيحات الأوسكار، نشرت مجلة «ذا هوليوود ريبورتر» مقالاً عن فيلم زياد الدويري «الإهانة»، تحت عنوان «كيف نجا فيل «الإهانة» الذي يمثل لبنان للأوسكار من المقاطعة».
ويستند هذا المقال إلى حديث أجراه كاتبه (أليكس رتمان) مع المخرج زياد الدويري الذي أورد فيه كيف استقبل الفيلم بحفاوة وبجائزة من مهرجان فنيسيا قبل أن يعود المخرج إلى وطنه ليلقى القبض عليه وليشهد تعرض فيلمه لأصوات المنع.
هي قصص حقيقية وليست خيالية وليس هناك أي مغالاة تذكر في تصريحات المخرج الذي بات اليوم أقرب مخرج عربي يقرع باب الأوسكار. فقد واجه اتهامات بالتطبيع والتصوير في بلد عدو («الهجوم»)، ووجّه برغبة البعض بمنعه علماً بأنّه يحمل واحدة من أهم القضايا الاجتماعية المسكوت عنها في كيان العلاقات اللبنانية بين طوائفها وجنسياتها المختلفة.
لكن المقال المذكور إن خلا من الادعاء، إلّا أنّه، ونتائج الترشيحات لم تكن قد أُعلنت بعد، كان جزءاً من حملة المخرج لترويج الفيلم. ما يعيبها هو اشتغاله على توليفة الاضطهاد بسبب موقف سياسي. وهذا يبيع كمّاً مطلوباً من التأييد بين القراء وجلّهم من السينمائيين والعديد جداً منهم من المقترعين لهذه الجائزة الأكبر عالمياً.
- «تكتيك»
عندما أعلنت الترشيحات الرسمية ورد فيلم «الإهانة» كأحد خمسة أفلام أجنبية ستتنافس على الوصول إلى خط النهاية بينما لم يجر ترشيحه لجوائز الغولدن غلوبس (الثانية في الأهمية داخل هوليوود وإحدى الجوائز السينمائية الأشهر حول العالم، لكن ليس لأنّ المخرج قصّـر في اتصالاته وحملاته الترويجية، بل لأنّ عدد أعضاء الجمعية لا يزيد عن تسعين فرد منقسمين إلى كانتونات ألمانية وإيطالية ولاتينية، ما يجعل من السهل على كل جماعة، أن تميل لانتخاب الفيلم المنتمي إلى فئتها، بينما الأوسكار هو محفل من أكثر من 6000 عضو لا غلبة فيه لفريق على آخر.
حسب أحد أعضاء «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» حاول الدويري اللعب على موضوع الهجوم الذي تعرض إليه الفيلم في وطنه. يقول العضو الأوروبي: «لم يرضني ذلك منه. وجدته استجداءً للأصوات ومحاولة لكسبها عبر إظهار المخرج لنفسه ولفيلمه بأنه ضحية».
قبل يومين نشرت المجلة المنافسة لمجلة «ذا هوليوود ريبورتر» (كلاهما أهم المجلات العالمية المعنية بصناعة السينما ووسائل الترفيه الأخرى) وهي مجلة «فاراياتي»، مقالاً ورد فيه ذكر فيلم «الإهانة» مع تصريح آخر لمخرجه قال فيه: «... لكنّنا تعرضنا لهجوم شديد. لبنان بلد منقسم ونحن وجهنا بقطيعة جزء من اللبنانيين». بذلك ما زال المخرج اللبناني الذي كان انطلق قبل 30 سنة تماماً بفيلم استقبل جيداً بعنوان «بيروت الغربية»، يلتزم الصدق لكن، في الوقت ذاته، يستخدم المنع والتجاذب (اللذان لم يستمرا إلّا لأيام معدودة) لتمييز عمله.
- لكن «الإهانة» له ما يميّزه بحد ذاته وبعيداً عن التكنيك المستخدم أكثر من مرّة.
هذا التمايز ليس مرده أنّه الفيلم العربي الوحيد في المسابقة، (علينا القبول بأنّ غالبية الأعضاء لا تكترث لوطن الفيلم أصلاً وإلّا لما كان الفيلم وصل إلى الترشيحات)، ولا أنّه الفيلم الوحيد الذي يطرح وضعاً سياسياً، بل الفيلم الوحيد بين الخمسة المرشحة الذي يسرد حكايته بشكل غير أوروبي غير قائم على لمسات سينما المؤلف وليس معنياً بتشخيص فني عال.
هو أسلوب هوليوودي بالكامل: حكاية رجلين أحدهما فلسطيني مسلم والآخر لبناني مسيحي. كلاهما مهاجر (الأول من فلسطين طبعاً والثاني من منطقة السعديات الجنوبية)، والضغينة بينهما لازمة تبعاً لمرجعية كل منهما وتجربته المرّة. لا خسارة فلسطين سببها ذلك الفلسطيني (كامل الباشا) ولا خسارة المسيحي لمنطقته سببها كونه مسيحياً فقط. كل ما تنجح السياسة في مزجه في توليفتها مستفيدة من الظروف الدولية الشائكة خلق القضايا التي سقط ضحيتها هذان الرجلان اللذان يمثلان قطاعين عريضين من الشعب اللبناني والشعب القاطن في لبنان.
السرد متحرك وسريع، والخلاف ينتقل بعد حين وجيز من بداية الفيلم إلى المحكمة (العنوان المستخدم عربياً للفيلم هو «القضية 23»، وبذلك يتحوّل الفيلم إلى دراما محاكمات (كما «حكم في نوربيرغ» لستانلي كرامر، 1961 ولو بصورة مصغّـرة إنتاجاً وكقضية عالمية) وهو نوع جاذب وتقليدي في أعمال هوليوود السينمائية والتلفزيونية («آيرونسايد» خلال الستينات والسبعينات).
هوليوودية التأثر في «الإهانة» تتبدّى من خلال المعالجة الكلية وتصميم المشاهد من حيث موقع ووظيفة الكاميرا ومن حيث أن السرد سوف لن يعبّر عن وجهة نظر فرد واحد (وهذا حسن) كما من خلال تقديم مشهد يلتقي فيه رئيس الجمهورية اللبنانية (في الفيلم وليس في الواقع) بالطرفين المتنازعين فإذا باللبناني (كما أداه جيداً جداً عادل كرم)، يصرخ في وجه الرئيس، ليس عرضاً بل لمعظم المشهد. إنه خيال هوليوودي اعتدناه في أفلام أميركية تصوّر لنا أنّ ذلك ممكناً والمخرج يستعيره علماً بأنّه غير قابل للتصديق وبالتالي لا يلتحم مع باقي الحبكة الواقعية للعمل.
- رجل في محنة امرأة
‫الأفلام الأربعة الأخرى المنافسة لهذا الفيلم هي «امرأة بديعة» (A Fantastic Woman) و«الميدان» (The Square) و«بلا حب» (Loveless) و«عن الجسد والروح» (On Body and Soul). «امرأة بديعة» و«عن الجسد والروح» من عروض مسابقة مهرجان برلين في العام الماضي، والفيلمان الباقيان تنافسا على السعفة الذهبية في «كان» (العام ذاته). وبينما فاز «الميدان» بسعفة «كان» الذهبية حصد «عن الجسد والروح» دب برلين الذهبي.‬
«امرأة بديعة» هو فيلم تشيلي - ألماني مشترك، حققه سيباستيان ليليو حول مغنية أسمها مارينا (دانييلا فيغا)، لم تصل إلى تحقيق مكانة ملموسة، تعيش وضعاً حرجاً بعد موت عشيقها الثري والمتزوج والأكبر سناً. لقد قضى مصاباً بنوبة قلبية، لكن هناك أكثر من طرف سيتدخل ليشهد أنّ مارينا لها يد مباشرة في موته طمعاً في ثروته. ليس هناك من دلائل أو قرائن لذلك تتحول الشبهة إلى ممارسة قدر كبير من الإهانة الشخصية القائمة على شعور فوقي (طبقي) كما ثقافي (ارستقراطية ضد امرأة تعمل نادلة ومغنية).
ما يزيد المسألة صعوبة أنّ مارينا لم تولد أنثى بل كانت ولداً تحوّل إلى امرأة. وعائلة الرجل لا تستطيع قبول أنّ رب تلك العائلة كان على علاقة مع متحوّل جنسي، ليس دفاعاً عن سمعته بل عن سمعة العائلة.
ليس بالفيلم النيّـر. المخرج ليليو كان قد قدّم أفضل منه قبل ثلاثة أعوام بعنوان «غلوريا» وإن اشتغل هنا، كما هناك، على معضلة المرأة والفوارق الطبقية. هنا لديه حياكة تقليدية لمشكلة هي في الوقت نفسه مثيرة كقضية وغير مثيرة كفيلم. المشاهد يتوقع ما سيحدث، كونه السبيل الوحيد الذي يستطيع التكهن به وهذا السبيل هو ما يعتمده المخرج بدوره. فنياً، هو عمل يستحق حضوره في هذه الترشيحات، كما في المسابقات والمناسبات التي خاضها، لكنّ الحديث عنه كرابح حتمي في أوسكار الفيلم الأجنبي غير ممكن.
هذا الوضع مشابه لفيلم المجرية إلديكو إندييدي «عن الجسد والروح». إنه الفيلم الذي فاز بجائزة مهرجان برلين الأولى، وهو عن لقاء بين رجل (بيد معاقة)، يعمل مدير حسابات في مسلخ للبقر ومراقبة صحية تعيش وحيدة. يسبق هذا اللقاء، كما يكشف الفيلم لاحقاً، أنّ كل منهما كان يرى الحلم ذاته الذي يراه الآخر. نحن في البداية لا نعرف ما وجه العلاقة، لكن عندما يحال الاثنان إلى طبيبة نفسية تتضح المسألة ولو أنّ الطبيبة لا تستطيع توفير سبب علمي لها. إخراج للسينمائية العائدة بعد سنوات من الغياب مع تصميم نافذ للقطاتها ما يبلور عملاً متأنياً ومرتباً في الشكل ومستساغاً في الأسلوب.
التفاصيل على قدر من الإثارة. يبدأ الفيلم بمشهد لغزالين (ذكر وأنثى) فوق ثلوج منطقة جبلية في المجر. على أنّ الأحداث (البشرية) تقع في بودابست ذاتها. المشرف المالي على مسلخ كبير أندريه (غيزا مورشاني)، يلتقي مع المرأة ماريا (ألكسندرا بوربلي) التي دخلت العمل للتو كمشرفة على نوعية المواشي المذبوحة (هناك مشاهد لأبقار مسكينة يُدلف بها إلى القتل ثم كيف تُسلخ وترفع ويُـقطع رأسها)، وعندما تقع جريمة قتل وتُنتدب طبيبة نفسية لمقابلة العاملين لعلها تستطيع أن تحلّل شخصياتهم، تكتشف أنّ أندريه وماريا يسردان أمامها، كل على نحو منفصل، الحلم ذاته، ما يفسر سبب لجوء الفيلم إلى مشاهد الغزالين في البرية، لكنّه لا يفسّر كيف أنّ ذلك ممكناً.
كفيلم سيباستيان ليليو، هناك حالة مثيرة للاهتمام، لكن هذه الحالة تبقى مثيرة ما دام أنّ المشاهد مستعد لقبولها على غرابتها. حال يطرح الأسئلة حول عدم احتمالها ضمن التأسيس الواقعي للفيلم (لو كانت الفكرة في فيلم خيالي - علمي أو تشويقي ما، لتمتعت بهامش أعرض من القبول)، تبرز الثقوب الدرامية في الكتابة وما ينقذ الفيلم هو التصميم المسبق للكيفية التي ستلتقط بها المخرجة يوميات الحياة هذه، وتصاميم المشاهد، بحيث لا توجد لقطة في غير مكانها.
- مخرج منفرد
«الميدان»، هو، كما يقولون، «حيوان» مختلف تماماً. فيلم السويدي روبن أوستلاند يستثمر في الوضع السوريالي ويوسع من دائرة رسمها قبله مواطنه روي أندرسون في أفلامه. كوميديا بخطين يشكلان طريقين منفصلين يطرحان معطيات اجتماعية متشابهة وساخرة: الخط الأول يعتمد على شخصية كريستيان (كليس بانغ) الذي يحاول استعادة محفظته وهاتفه. الثاني هو المتحف المسمى بـ«الميدان» حيث يتسبب غيابه، لجانب ظروف أخرى، في فوضى عارمة. لكن ما يحدث على الشاشة ليس حكاية (أو حكايتين) بقدر ما هو تلاطم ملاحـظات نقدية ساخرة وحادة حول الحياة الأسروية والاجتماعية والثقافية كاشفاً عن نسبة عالية من الأنانية يسقط خلالها كريستيان ضحية مواقف عدائية من المحيطين به كما من الإعلام والمؤسسة التي تطالبه بأكثر مما هو قادر على فعله. لا يعفي المخرج روبِن أوستلاند بطله من المسؤولية. تصرفاته ليست منطقية في كثير من الأحيان. بل نراه يمارس فوقية (يعاني منها بدوره) على شخص اتهمه بسرقته ولم يعتذر منه عندما أدرك أنّه بريء من التهمة.
بدوره ليس الفيلم الكامل ولا المثالي وهي الصفة الجامعة بين كل هذه الأفلام ولو أنّ الفيلم الخامس بين هذه المجموعة هو أقرب إلى التكامل من سواه. إنّه الفيلم الروسي في الأساس، الفرنسي - الألماني بالمشاركة التمويلية «بلا حب» لمخرجه أندريه زفيغنتسيف. إنّه الفيلم الوحيد بين هذه الأفلام، المرشح أيضاً للجائزة نفسها في مناسبة دولية أخرى هي «البافتا». والوحيد، بين هذه الأفلام الذي يصرّ على رفع سقف التوقعات الفنية وينجزها أيضاً. يعمل المخرج منفرداً خارج سرب المؤسسات الروسية التقليدية أو الكبرى، ما يجعله سينمائياً مستقلاً في بلاده، لكن ما هو أهم هو معالجته الروحية لمشاريعه. أفلامه لا تخيب أمل المشاهدين في فيلم يتناول دوماً البعد الإنساني للمشكلة القائمة.
يبدأ الفيلم بالصبي أليكسي (ماتفي نوفيكوف) الذي يخرج مع أترابه من المدرسة وقت الانصراف وينطلق مشياً للعودة إلى البيت. طريقه تمرّ بغابة وبحيرة قبل أن تنتهي عند المبنى حيث يعيش ووالديه. الأب (أليكسي روزين) موظف في مؤسسة والزوجة (ماريانا سبيفاك) تملك صالون تجميل. وهما على بعد يسير من انفصالهما رسمياً بعدما اكتشف كل منهما أنّ الآخر لم يعد النصف الذي يشتهيه. لكن خناقة عاصفة بينهما يسمعها الصبي باكياً قبل أن يترك البيت ويختفي.
بعد هذا التقديم الذكي للشخصيات ومكامن المشاكل العاصفة، تكتشف الأم اختفاء ابنهما ويهب الأب ليكون حاضراً في هذه المعضلة. لكن على عكس أفلام كثيرة سابقة (غالبها أميركي)، لا يوظف الفيلم مشاهده لكي يؤدي هذا الحدث بالزوجين إلى مصالحة مدركين خطأهما تحت وقع المأساة، بل سيستمر في تصوير النزاع القائم بينهما وينتقل، لاحقاً، إلى فصل كامل يضطر فيه كل منهما للعيش مع شريك حياته الجديد بعد سنوات من اختفاء ابنهما من دون أن يعثرا عليه.
يتحدث المخرج هنا عن زواج متصدّع ينهار أمامنا والمخرج لا يخفي إدانته للمرأة أكثر من الرجل في هذا الوضع لكنّه يشغل نفسه بدراسة التأطير المناسب للمشهد واستخدام عناصر الصورة لتدلي بشهادتها فيما يعرضه، عوض دفع المشاهد لتبني وجهة نظره هو.
- نظرة أخيرة
ما يجعل سباق أفضل فيلم أجنبي، حالة دقيقة وصعبة هذا العام، حقيقة أولى بأنّ معظمها متساو في القيمة الفنية من حيث عدم تكاملها. حتى «بلا حب» يرج قليلاً في نصفه الثاني وهو بالتأكيد ليس أفضل أفلام مخرجه. بالتالي، لا يوجد ذلك الفيلم الذي يقود المجموعة ويضم الاحتمال الأول للفوز كما في معظم السنوات السابقة.
ليست هناك مزايا دامغة تدفع بأحد هذه الأفلام إلى المقدمة. الطرح الترفيهي للوضع السياسي في «الإهانة»، عامل مساعد لكن الهوية الوطنية للمشكلة لا تعني الكثير. «الميدان» فيلم ساخر على غرار الفيلم الألماني المتنافس في العام الماضي (المثرثر وذي الطينة التلفزيونية) «توني إردمان»، لكنّه محدود القدرة على نيل الإعجاب. «عن الروح والجسد» هو الفيلم الوحيد بينها لمخرجة أنثى، لكنّ ذلك ليس كافياً. أمّا «امرأة بديعة» فيملك موضوعاً يثير اهتمام الغرب، لكنّه ليس فيلماً جيداً بما يكفي.
بالتالي، تقف كل هذه الأفلام عند خط واحد. ربما يتقدّمها قليلاً «بلا حب»، لكنّ «الإهانة» و«امرأة بديعة» أقرب للفهم وتأسيس العلاقة العاطفية مع موضوعيهما منه. لكن إذا ما كان شرط هذه الجائزة الأول هو التكامل الفني فإنّ «بلا حب» هو من يستحقها أكثر من سواه.


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)