بدءاً من الساعة الثالثة عصراً يتوافد مجموعة من هواة الصيد إلى كوبري المناسترلي الأثري، أو كما يسميه عابروه على مدار اليوم «كوبري الخشب». كلٌّ يبحث عن بضع ساعات من الصفاء النفسي، فضلاً عن حصيلة من الأسماك مختلفة الأنواع والأحجام، يعودون بها إلى منازلهم، ليتشاركوا وأبنائهم في وليمة طازجة.
من بين هؤلاء عم محمود، رجل يتمتع بقامة فارعة، وخفة ظل تجعل المكان يضج بالضحك بين لحظة وأخرى، يأتي وسط تهليل زملائه من الصيادين، يضع كرسيه، وحقيبته على أرضية الكوبري، ويبدأ في فرد قصبته (صنارته)، والوقوف في مكانه الذي اعتاده تحت قبة الكوبري، حين انتهى من وضع «الطُّعم» في الصنارة، التفت قائلاً: «لا بدّ أن تغطي (العرابيد) السن بالكامل، السمك هنا ذكي جداً، يقترب من الصنارة بحذر، وإذا شعر بها يهرب، فتعود إلى بيتك وكأنك يا أبو زيد ما غزيت».
شعر «عم محمود» بالألفة معي، فقد انتحلت صفة صياد عمداً، اشتريت صنارة وأدوات صيد، حتى أشعر بالاندماج مع هذا الجو، ولا أكون غريباً على العائلة. أنصت إليه وهو يتحدث، وأحسّ كأنّه شخصية مستدعاة من زمن الأربعينات والخمسينات، عالم أفلام الأبيض والأسود، طريقته في الكلام تشبه إلى حد بعيد أبطال تلك الأيام وهم يتناقشون، أو يسعون لحل مشكلة ما وهم يستقلّون مراكبهم، مبحرين في رحلة على باب الله.
أشار «عم محمود» إلى الأشجار المحيطة بالكوبري، والمراكب الراسية بالقرب منه، وقال: «أحب هذا المكان لهدوئه، أعمل في تجارة الرخام، ولديّ ورشة لتقطيعه في منطقة (شق الثعبان)، جنوب القاهرة، وعندما أنتهي من عملي، أو يصيبني الملل، أحمل حقيبتي، قاصداً هذه البقعة من النيل، لأتمتع بالسكينة بعيداً عن غبار الرخام، والغرانيت، وضجيج المناشير، وأدوات مسحه وصنفرته».
يقع كوبرى المناسترلي بين متحف أم كلثوم في منطقة منيل الروضة، ومقياس النيل، وقد صُمم وأنشئ بطريقة غير تقليدية، لا تسمح بمرور السيارات، فهو مخصص للمشاة فقط، تعلوه قبة مرتفعة لأمتار عدّة، محمولة على أعمدة خشبية، أمّا مساحته فتصل إلى نحو 30 متراً تقريباً، وتغري أسواره القريبة من سطح النهر، هواة الصيد بالتوافد إليه من أنحاء القاهرة.
تملك مصر سواحل صالحة لصيد الأسماك، على جانبي نهر النيل الذي يبلغ طوله داخل أراضيها نحو 1520 كيلومتراً، بخلاف السواحل المشرفة على البحرين المتوسط وتبلغ 995 كم، والأحمر 1941 كم، كما تملك أيضاً عدداً من البحيرات في الأقاليم.
ألقى «عم متولي» صنارته في المياه، وراح يتأمل الأضواء المنبعثة من قصر المناسترلي على يساره، تحدث عن بداية علاقته بالصيد، كان له 3 أخوال يصطحبونه بين آن وآخر في رحلاتهم قرب بلدتهم، وعلى أيديهم أدمن حب البحر، كانوا كلّما اصطاد أحدهم سمكة، يعطيها له كي يضعها في «خُرج» من القماش «الدَّمُّور»، يقول: «كنّا نقضي ساعات طويلة من النهار حتى قرب حلول الظلام، عندها يحملون حصيلة ما جاد به الله عليهم، ويعودون إلى بيت عائلتنا، وهناك تبدأ نساؤهم في تنظيف السمك، وإعداده ليكون وجبة يلتفّ حولها كل أبناء العائلة».
في تقرير للحكومة المصرية أصدرته في أبريل (نيسان) الماضي، ذكرت أنّ الإنتاج الكلي للبلاد من الأسماك يبلغ مليون و640 ألف طن، منها مليون و200 ألف طن من إنتاج الاستزراع السمكي، وأوضحت أن إجمالي إنتاج نهر النيل والترع والمصارف من الأسماك يصل إلى 400 ألف طن، في حين تستورد مصر 300 ألف طن من الخارج لتلبية الاحتياجات، لكنّ «عم متولي»، أحد المولعين بالصيد حين سألته عن هذا الولع قال: «أحب أكل السمك الذي أصطاده فقط، لا أشتريه أبداً، خصوصاً بعد انتشار المزارع وما يدور حولها من كثير من اللغط». وتابع: «أبحث عن المتعة، جزء منها أن أحصد بصنارتي كمية لا بأس منها، لكن الصيد في النيل لم يعد مثلما كان، بسبب الامتناع عن إلقاء الزريعة فيه كل عام، والتي كانت سبباً في اغتنائه بكميات هائلة من البلطي والقراميط والقرقار، وكلاب البحر، لكنّني رغم ذلك لا أعود خالي الوفاض».
بالقرب منه كان يقف مجموعة من الرجال متفاوتي الأعمار، كان أحدهم (وليد) يسأل عن بعض «العرابيد»، بعد أن نفد مخزونه منها، وقف بعد أن طوى صنارته، وراح يحكي عن جولاته في شواطئ المدن القريبة من بلدته العياط جنوب مصر، فهو يعمل جزاراً في دكان والده، ومعه إخوته الكبار، وأحد أعمامه، جميعهم يعشقون صيد الأسماك، ويخرجون في رحلات للاستمتاع به.
قال «وليد» إنّه لا يذهب إلى شاطئ معين إلا بعد أن يستقصي عنه، ويعرف أن تعبه وركوبه دراجته النارية إليه لن يضيع هباء، وأنّ الحظ سيحالفه ويصطاد كميات لا بأس بها من الأسماك، يعود بها إلى عروسه التي تم زفافه إليها منذ فترة قليلة.
أمّا «عم محفوظ»، الذي يعمل محاسباً لدى إحدى شركات القطاع الخاص، راح يتحدث عن كثير من الأسرار حول اختيار حجم الصنارة، ومدى مناسبته للشواطئ التي يذهب إليها هواة الصيد، إذ قال إنها يجب أن تكون صغيرة لتناسب الشواطئ النيلية، ويكون الحدّاف، وهو قطعة من الرصاص توضع في نهاية الخيط، بعيداً عن الصنارة حتى لا يحتك بالسمكة عندما تقترب. وفيما يخص شواطئ البحر، أشار محفوظ إلى أنّ السن يمكن أن يكون أكبر قليلاً، ويفضل أن يشتري الصياد خيطاً من النوع المطاطي، وفي حالة تعثر السن في حجر أو بعض الأعشاب النيلية، نصح شخصاً كان يقف إلى جواره بأن يستعمل يده في سحب النايلون حتى لا تنكسر القصبة.
وتحدث «محمود» عن مواسم الصيد مشيراً إلى أنّها تبدأ مع اعتدال الجو، فهو يؤثر بالطبع على غزارة حصيلة الأسماك، فدرجة حرارة الماء من العوامل المؤثرة في مواعيد الصيد بنهر النيل، ففي حال اعتدال درجة المياه يكون ذلك أفضل، ولكن أكثر الأوقات مثالية، من وجهة نظره، تبدأ من شهر أبريل (نيسان) حتى نوفمبر (تشرين الثاني)، وتشهد هذه الشهور رواجاً كبيراً في عمليات بيع لوازم الصيد وأدواته.
متعة التأمل في صفحة النيل
https://aawsat.com/home/article/1116936/%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84
متعة التأمل في صفحة النيل
{صيد العصاري... يا سمك}
كوبري المناسترلي الأثري على النيل... استراحة لهواة صيد السمك («الشرق الأوسط»)
- القاهرة: حمدي عابدين
- القاهرة: حمدي عابدين
متعة التأمل في صفحة النيل
كوبري المناسترلي الأثري على النيل... استراحة لهواة صيد السمك («الشرق الأوسط»)
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

