كشف حساب «الجونة» في طبعته الأولى

أموال الأخوين «ساويرس» ليست هي تميمة النجاح

المخرج تامر عاشور يحتفل بفوز فيلمه الأول «فوتوكوبي»... والمخرج اللبناني زياد الدويري يحمل جائزة النجمة الفضية (أ.ف.ب)
المخرج تامر عاشور يحتفل بفوز فيلمه الأول «فوتوكوبي»... والمخرج اللبناني زياد الدويري يحمل جائزة النجمة الفضية (أ.ف.ب)
TT

كشف حساب «الجونة» في طبعته الأولى

المخرج تامر عاشور يحتفل بفوز فيلمه الأول «فوتوكوبي»... والمخرج اللبناني زياد الدويري يحمل جائزة النجمة الفضية (أ.ف.ب)
المخرج تامر عاشور يحتفل بفوز فيلمه الأول «فوتوكوبي»... والمخرج اللبناني زياد الدويري يحمل جائزة النجمة الفضية (أ.ف.ب)

نعم استطاع مهرجان الجونة السينمائي أن يحقق النجاح في نسخته الأولى، بينما كان هناك من يراهن على أن الفشل لا محالة يترقب المهرجان الوليد، متحججاً بأن الأموال لا تحقق وحدها أي إنجاز، وهذا حقيقي، الفلوس ليست هي الطريق المضمون، ولكن كيفية إنفاقها لتحقيق الهدف هو أول الطريق.
هناك إرادة وعقلية تنظيمية أمسكت المنظومة برمتها، وعلى أرض الواقع شاهدنا حقاً مهرجاناً به أفلام وندوات ومحاضرات وجمهور، وليس فقط الضيوف، ولكن لاحظت أن هناك من يقطع التذكرة بين الجمهور العادي ولديه شغف وعنده أسئلة، وذلك من خلال خمس قاعات شهدت فعاليات المهرجان، نعم العدد لا يقارن بالمهرجانات الكبرى، ولكن فقط عليك أن تعرف أنه قبل بضعة أشهر كانت هناك قاعة عرض واحدة فقط لا غير في الجونة، وأتصور أن هناك خطة لمضاعفة العدد، خاصة مع ترقب عودة السياحة إلى معدلها الطبيعي خلال العام المقبل، وبهذا يُصبح إنشاء دار عرض هدفاً له أيضاً بعده الاقتصادي، لأن دور العرض لا تنشأ من أجل المهرجانات فقط.
«أنا هنا في الجنة»، هكذا استمعنا إلى أكثر من ضيف بمهرجان الجونة في طبعته الأولى، وهو يشيد بالمهرجان والمدينة الساحرة بهذا الوصف، ولا أتصورها تدخل في نطاق المجاملة، فهي حقا تملك الكثير من السحر.
الجونة بالمناسبة ليست مدينة بالمعني العلمي الجغرافي مثل «كان»، أو «فينسيا» ولكنها أقرب إلى منتجع داخل مدينة الغردقة، أنشأه المهندس سميح ساويرس، قبل نحو 20 عاما، كان يراهن على المستقبل القريب، وتعددت فنادقها وأسواقها، وكانت بالفعل هي المقصد الرئيسي لكثير من السياح خاصة القادمين من ألمانيا، ومثل كل الأماكن السياحية في مصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 تراجعت اقتصاديا بسبب تضاؤل إقبال السياح، إلا أنها رغم كل شيء كانت تقاوم من أجل البقاء.
استطاع المهرجان أن يقفز الحدود ليحمل اسمها إلى بلاد الدنيا كلها، ومن المؤكد هناك انطباعا إيجابيا حققه المهرجان لدي ضيوفه القادمين من كل أنحاء المعمورة، وسوف يلعب دوره في تهيئة المناخ للعودة مجددا إلى البؤرة، وهى مكانة تستحقها الغردقة وكل المحافظات السياحية المصرية التي عانت كثيرا في السنوات الأخيرة، مثل «الأقصر»، و«أسوان»، و«شرم الشيخ» وغيرها.
مساء الجمعة انتهت الرحلة الممتعة مع الفن السابع بكل أطيافه، إلا أن السؤال هو... هل انتهى المهرجان بلحظة إعلان النتيجة النهائية، وهي كالعادة تتباين فيها الآراء؟ الحقيقة أن المهرجان أي مهرجان، لا يمكن اعتبار أن لحظة النهاية هي فقط عند مغادرة الموقع، والعودة للوطن، هناك لحظات مراجعة لما تم تقديمه فعلا، وهو ما ستفعله إدارة المهرجان قريبا، وربما لا يعلم الكثيرون أن المهرجان وضع في خطته أن كل يوم في الصباح الباكر يجتمع الفريق كله، ويبدأ الجميع في مراجعة ما تم، وهم لديهم الشجاعة لمواجهة أي خطأ وتلافيه.
قبل أن أكمل... دعونا أولا نتوقف أمام أهم نتائج لجنة التحكيم التي انتهت إليها للجان الثلاثة، الأولى الروائي الطويل، والثانية الوثائقي الطويل، والثالثة القصير بشقيه الروائي والتسجيلي.
الفيلم الروائي الفائز بالجائزة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل «أم مخيفة» وهي جائزة نجمة الجونة و50 ألف دولار، والجائزة الفضية 25 ألف دولار لفيلم «القضية 23»، المثير للجدل ولقد حرص مخرجه اللبناني زياد الدويري، على التأكيد بأنه لن يثنيه شيء عن مواصلة الجدل، والجائزة البرونزية «أرثيما»، وقدرها 15 ألف دولار، بينما الفيلم المصري «فوتوكوبي» أول إخراج لتامر عاشور، حصل على جائزة أفضل فيلم عربي، وقدرها 20 ألف دولار، وأفضل ممثل بطل فيلم «زاما» دانيال جيمينيز كاتشو، بينما أفضل ممثلة نادية كوندا بطلة فيلم «وليلي» لفوزي بن سعيدي، المخرج المغربي.
وطبعا سنلاحظ أن جائزة أفضل فيلم عربي تُثير الجدل، فإذا كان «فوتوكوبي» أفضل فيلم عربي، كما أشارت لجنة التحكيم، وحيث إن فيلم «القضية 23» عربي أيضا، وحصل على الفضية وقدرها 25 ألف دولار، معني ذلك أن «فوتوكوبي» أفضل من «القضية 23»، في تقدير اللجنة، فكيف يستقيم الأمر، ويحصل الفيلم الأفضل على جائزة أقل ماديا، بـ5 آلاف دولار أميركي، كما أن المنطق يُفضي أن هناك ازدواجية في المعايير، تم تطبيقها في المهرجان، والمفروض حتى لا يحدث ذلك، هو أن تصبح لدى المهرجان لجنة مستقلة للفيلم العربي فقط، في كل المجالات الثلاثة وأعني بها الروائي الطويل والتسجيلي الطويل وأيضاً القصير بشقيه تسجيلي وروائي، وفي هذه الحالة لا تناقض، لأننا بصدد لجنة تحكيم أخرى، وكل لجنة تتحمل فقط النتائج، فإذا اختارت لجنة تحكيم الفيلم العربي فيلما يحظى بلقب الأفضل، وخرج بلا جائزة من المسابقة العامة التي منحت فيلما عربيا آخر الجائزة، فلا تناقض في هذه الحالة لأننا بصدد لجنة أخرى.
أتمنى أن يدرس القائمون على المهرجان هذا الاقتراح، والذي يصب لصالح لجان التحكيم كلها، من الممكن في العام المقبل أن تستقل لجنة تحكيم أخرى بقرارها بعيدا عن تلك اللجان العامة، ومن الممكن أن تزداد أيضاً مساحة السينما العربية.
ونُكمل قائمة الجوائز، لدينا أيضا جائزة الفيلم الوثائقي الطويل، حصل على الذهبية «لست عبداً لك» وقدرها 30 ألف دولار، وفيلم «بارود ومجد»، الجائزة الفضية 15 ألف دولار، وفيلم «لدي صورة»، أفضل فيلم عربي، وقدرها 10 دولارات، وحصل فيلم «سفرة» على جائزة خاصة، وأيضاً جائزة الجمهور الأولي لبعده الإنساني، والتي تتوافق مع شعار المهرجان، «سينما من أجل الإنسانية»، بينما في مسابقة الفيلم القصير كانت الجائزة لفيلم «عنب الذنب»، والجائزة قدرها 15 ألف دولار، والفضية «لا لا بالالاي لاي» وقدرها 7 آلاف دولار، و500 دولار، وأفضل فيلم عربي «القفشة» 5 آلاف دولار.
نعم كانت رحلة المهرجان شاقة، وهو مثل كل التجارب السابقة، عاش في لحظات زمنية متباينة، كان الحرص على النجاح هو الطريق، ومن أفضل الأفكار التي طُبقت في المهرجان، المحاضرات السينمائية والتي كانت آخرها ما قدمه المخرج العالمي «أوليفر ستون»، والذي شارك بعدها في الحفل الختامي، كما أن لقاء الفنان العالمي فوريست ويتكر منح الجلسة مذاقاً آخر في ضرورة أن يضع السينمائي أمامه هدفا عالميا، وهو ما يطبقه ويتكرر مع دولة جنوب السودان.
وكان من المحاضرات المهمة أيضاً، ما قدمه كل من محمود حميدة، والمخرج أسامة فوزي، حيث جمع بينهما ثلاثة أفلام «بحب السيما»، و«عفاريت الأسفلت»، و«جنة الشياطين»، فكان لا بد من إلقاء الضوء عليها.
هل من الممكن أن نختصر حالة مهرجان الجونة إلى مجرد أموال ترصد من الشقيقين ساويرس (نجيب وسميح)، ولهذا تُفتح أمامهما كل الأبواب المغلقة؟ إنها الصورة الذهنية التي رسختها السينما، عن رجل الأعمال الذي ينفق ببذخ لتحقيق أهدافه، بينما الحقيقة تؤكد أن لا شيء يرصد دون خطة ومردود، تسبقها دراسة جدوى، إنها في جانب كبير منها تظلم الحقيقة، لم يُنكر الشقيقان أبدا الجانب التسويقي السياحي للمهرجان في بعده العام، فهو بالطبع يسعى لذلك، والمبلغ المرصود للمهرجان، هو كما ذكر سميح ساويرس الذي يشكل مع شقيقه نجيب الضلع العميق الاستراتيجي للمهرجان، حيث أكد في حوار صحافي أن الميزانية نحو 50 مليون جنيه (3 ملايين دولار)، وتوجد قطعا مهرجانات عربية وخليجية تجاوزت هذا الرقم، ولكنه مصريا يعتبر هو الأضخم، خاصة وأن مهرجان القاهرة السينمائي، بعد كل المساعدات التي يحصل عليها لا يتجاوز 10 ملايين جنيه، وهو ما يزيد قليلا عن نصف مليون دولار.
لا يعلم الكثيرون أن نجيب ساويرس كان في أكثر من دورة داعما رئيسيا لمهرجان القاهرة السينمائي، وحرص على تحقيق ذلك، ولكنه لم يواصل الدعم في كل الدورات وذلك لخلاف يحدث بين الحين والآخر مع القائمين على المهرجان، إلا أنه هذه المرة أكد لرئيسة مهرجان القاهرة ماجدة واصف أنه على استعداد لتقديم دعم مادي لمهرجان القاهرة.
وهو بهذا القرار يضع نهاية لسؤال عقيم يردده البعض، وهو هل مهرجان الجونة سيصبح بديلا لمهرجان القاهرة، خاصة وأن الجونة يتوجه جغرافيا مثل القاهرة للعالم كله؟ وهو بهذا يلعب في مساحة تتوافق مع القاهرة، إلا أن هذا لا يعني أن يكون بديلا له، ولكنه فقط يقف بجواره والاثنان يحملان اسم مصر للعالم.
«الجونة» في نسخته الأولى نجح في لفت انتباه العالم بجدارته بالوجود على الخريطة، وهو يحمل قوة دفع تدفعه خطوات للأمام في الدورة المقبلة، لا شك أن المدير الفني انتشال التميمي لعب دورا جوهريا في رسم ملامحه، فإذا كانت الفنانة بشرى هي صاحبة البذرة الأولى في إقامته، فإن انتشال لعب دورا محوريا في انتقاء الأفلام والتظاهرات الموازية، وليس الأمر مرتبطا بصفقات تدفع ولكن انتقاء الأفلام، وحرصه على البعدين العالمي والعربي، في اختيار ضيوفه، كما أن نجيب ساويرس مؤسس المهرجان لم يلتفت أبدا إلى تلك الأقاويل المتعلقة بأنه عراقي الجنسية، فمن قال إن مدير المهرجان يجب أن يكون بالضرورة مصريا، ولا حتى عربيا، ولكن هو صاحب خبرة في المهرجانات تربو على ربع قرن من الزمان.
المهرجان سوف يستمر في نفس التوقيت العام المقبل، النصف الثاني من سبتمبر (أيلول) 2018، وأظن أن فريق العمل بدأ منذ تلك اللحظة في الإعداد للدورة الثانية.


مقالات ذات صلة

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)