تستحوذ ممارسات «الإفراط في تقديم المعالجة الطبية للمرضى»، أو «المعالجة المُفرطة» Overtreatment على اهتمام غير مسبوق في الأوساط الطبية. وهي اليوم من المواضيع الطبية الساخنة التي تدور حولها الكثير من المناقشات العلمية والأخلاقية والاقتصادية، وذلك لأسباب شتى ذات أهمية بالغة للأوساط الطبية وأوساط المرضى. وإضافة إلى التسبب بالهدر المادي للإمكانيات العلاجية والتشخيصية المُكلفة ماديا والتي يصعب توفيرها طوال الوقت بالمستشفيات، هناك الهدر للطاقات البشرية المتخصصة عبر إشغالها غير المبرر في المشاركة بمعالجة جوانب ليست ذات أهمية في تخفيف آلام ومعاناة المرضى وليست ذات أهمية ثابتة في تحسين مستقبل حياتهم الصحي.
وهذان الجانبان، أي سوء استخدام الموارد المادية والبشرية وعدم الاستفادة منهما في معالجة منْ يستحقون المعالجة، ليسا هما الأهم، بل هو تعريض المرضى لأنواع من الفحوصات والمعالجات الدوائية والتدخلية والجراحية التي لا يحتاجون إليها والتي أيضاً قد تتسبب لهم بالضرر، ذلك أن أي إفراط يُرافقه دائماً تفريط. وضمن عدد السادس من سبتمبر (أيلول) الحالي لـ«مجلة بلوز وان» Journal PLOS ONE الطبية عرض الباحثون من كلية الطب بجامعة جون هوبكنز الأميركية نتائج دراستهم حول تقصي آراء الأطباء في الولايات المتحدة حول ممارسات الإفراط في تقديم المعالجة الطبية للمرضى.
وقال الباحثون في مقدمة الدراسة إن «الإفراط في تقديم المعالجة الطبية للمرضى هو سبب في حصول ضرر وهدر للرعاية الطبية، وهو أمر يُمكن الوقاية منه ومنع وقوعه. ولا يُعرف سوى القليل عن وجهات نظر الأطباء حول هذه المشكلة. ولقد أجرينا دراسة مسح استقصائية بين أكثر من 2100 طبيب من أعضاء الجمعية الطبية الأميركية AMA، لمعرفة وجهات نظرهم حول مدى انتشار هذه المشكلة وأسباب حصولها والآثار المترتبة عليها والحلول المحتملة الفائدة للتغلب عليها، ووجهات النظر المتعلقة بمدى ارتباط زيادة أرباح الأطباء بتقديم المعالجات المفرطة للمرضى».
وأفادت نتائج الدراسة بأن الأطباء المشمولين في الدراسة يعتقدون أن ما بين نحو 20 إلى 30 في المائة من مجمل المعالجات الطبية المُقدمة للمرضى هي غير ضرورية. وتفصيلاً في توزيع النسبة المئوية لأنواع المعالجات غير الضرورية: 22 في المائة من الأدوية الموصوفة للمرضى و25 في المائة من الفحوصات و12 في المائة من الإجراءات العلاجية هي كلها غير ضرورية لمساعدة المرضى وتخفيف معاناتهم المرضية.
وعلق البروفسور مارتن ماكاري، الباحث الرئيسي في الدراسة وأستاذ الجراحة والسياسات الصحية في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز، بالقول إن «الرعاية الطبية غير الضرورية هي السبب الرئيسي وراء ارتفاع أقساط التأمين الصحي التي تؤثر على كل أميركي». ووفق ما تؤكده الأكاديمية القومية للطب في الولايات المتحدة NAM: «تمثل الرعاية الطبية غير الضرورية أكبر جزء من الهدر في موارد وتكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وتؤدي إلى إنفاق نحو 210 مليارات دولار إضافية في كل عام». وهو ما أكدته الجمعية الطبية الأميركية منذ عام 2010 بأن تقديم الخدمات الطبية غير الضرورية يستهلك نحو ثُلث ميزانية الرعاية الصحية، وطالبت في حينه إعطاء هذه المشكلة مزيداً من الاهتمام.
واعترف الباحثون أن تقييم الملاءمة الإكلينيكية للجدوى والضرورة في معالجة المرضى هو أمر يصعب إجراؤه بدقه، والطبيب هو في نهاية الأمر من يُواجه المشكلة المرضية لدى المريض وعليه إجراء كل ما يلزم للوصول إلى التشخيص الدقيق لحالته المرضية وتقديم المعالجات اللازمة لذلك وتحمل المسؤولية في تلك الأمور.
ومن ضمن مجموعة من الأسباب المحتملة التي تم عرضها على الأطباء المشمولين في الدراسة، كان السبب الرئيسي والأكثر شيوعاً في لجوء الأطباء إلى تقديم معالجات غير ضرورية للمرضى هو «الخوف من سوء الممارسة» Malpractice Fear، أي خوف الأطباء أن يتم توجيه اللوم إليهم بالتقصير في معالجة المرضى أو عدم إجراء فحوصات طبية ضرورية لهم، وبلغت نسبة هذا السبب 85 في المائة في إجابات الأطباء. وكان «ضغط وطلب المريض» هو السبب الرئيسي الثاني بنسبة 60 في المائة. و«صعوبة الوصول إلى الملف الطبي للمريض» لمعرفة المعلومات السابقة عنه وعن الفحوصات التي سبق له إجراؤها والأدوية التي يتناولها أو تناولها والإجراءات العلاجية السابقة، هو السبب الرئيسي الثالث بنسبة 38 في المائة.
ومن بين مجموعات الحلول للأطباء، كانت الاقتراحات الثلاثة الرئيسية هي: أولاً، الاهتمام بتدريب الأطباء على معايير واضحة لتقييم مدى ضرورة وملاءمة الفحص أو المعالجة لحالة المريض. وثانياً، تسهيل الوصول إلى الملف الطبي للمريض بكل المعلومات السابقة المتعلقة بحالته الصحية. وثالثاً، زيادة وتكثيف تطبيق إرشادات المعالجة لأنواع شتى من الأمراض التي تصدرها الهيئات الطبية المعتمدة.
ورغم اعتقاد البعض من خارج الوسط الطبي أن منفعة الطبيب المادية هي السبب الرئيسي في تقديم بعض الأطباء خدمات علاجية غير ضرورية، فإن 17 في المائة فقط من الأطباء المشمولين في الدراسة ذكروا أن ذلك قد يكون أحد الأسباب بالفعل، وفي الوقت نفسه أكد أكثر من 70 في المائة منهم أن احتمالات تقديم الطبيب لمعالجات غير ضرورية ترتفع حينما تكون ثمة منفعة مباشرة له من ذلك، كما أكد غالبيتهم أن إزالة هذا الأمر تُقلل من احتمالات حصول ذلك الهدر غير الضروري. وتحديداً، كان الأطباء الأكثر خبرة والأطول مدة في ممارسة العمل الطبي هم أكثر اعتقاداً بأن بعض الأطباء يُقدمون خدمات علاجية غير ضرورية بغية جني مزيد من الربح المادي.
وهذا الجانب بالذات يحتاج إلى إجراء مزيد من الدراسات حول تقييمه، وهو ما علق عليه البروفسور دانيال بورتمان، أستاذ الطب الباطني في جامعة جون هوبكنز والمشارك في إعداد الدراسة، بقوله: «وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى إجراء قياس موضوعي للممارسات المهدرة بحيث يمكن لمقدمي الخدمات العلاجية أن يروا أين يمكنهم تحسينها». ولذا أضاف البروفسور ماكاري قائلاً: «معظم الأطباء يفعلون الشيء الصحيح ويحاولون القيام بذلك دائماً، ومع ذلك أصبحت اليوم مشكلة الإفراط في المعالجة مشكلة مستوطنة في بعض مجالات الطب، والاستراتيجية الواعدة في حل هذه المشكلة تعتمد على تركيز الأطباء على جانب الملاءمة» أي مدى ملاءمة المعالجات المُقدمة لحالة المريض واحتياجاته الصحية.
* استشاري باطنية وقلب - مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]