من قلب العاصمة الكينية نيروبي، تنطلق أحداث الفيلم الوثائقي «كيف تبني مكتبة» راصداً على مدار عدة سنوات مراحل تحول مكتبة جرى تأسيسها على يد الاستعمار لتكون رمزاً لحلم جديد، ومتتبعاً في رحلته مسيرة سيدتين تعملان على تحويل المكان من شاهد على الماضي إلى مساحة للحوار والحرية والمعرفة.
لا يكتفي الفيلم، الذي بدأ رحلته مع المهرجانات، في النسخة الماضية من مهرجان «صندانس»، وطاف عدة مهرجانات سينمائية عالمية، كان أحدثها المشاركة بمسابقة «الأفلام الوثائقية» في النسخة الثامنة من مهرجان «الجونة السينمائي»، بتتبع عملية الترميم في المكتبة، بل يغوص فيما هو أعمق عبر تقديم إعادة لترتيب العلاقة بين السلطة والمجتمع.
مكتبة ماكميلان التذكارية التي بُنيت في زمن الاستعمار البريطاني تُعاد ولادتها على يد جيلٍ جديد يرى فيها مرآة لهويته وحقّه في إعادة كتابة تاريخه. بين رفوف الكتب المتهالكة وغبار الزمن، يطلّ الحلم برفقة السيدتان برحلة توثيقية متميزة تمزج بين السياسة والفن، والماضي بالحاضر، وهو من إخراج الثنائي؛ الكينية مايا ليكو، وزوجها الأسترالي كريستوفر كينغ، ويمثل الفيلم ثاني تعاون بينهما بعد تجربتهما سوياً في فيلم «الرسالة».

وخضعت كينيا للاحتلال البريطاني قرابة 70 عاماً، وتعرضت خلال الفترة الاستعمارية (1895 - 1963) لـ«ارتكاب أعمال عنف شنيعة وغير مبررة»، بحسب وصف الملك تشارلز خلال زيارته في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.
وتقول المخرجة مايا ليكو، لـ«الشرق الأوسط»، إنّ بداية الفيلم تعود إلى عام 2017، حين دُعيت مع زوجها إلى مكتبة قديمة في وسط نيروبي بدعوة من سيدتين تعملان هناك، إحداهما ناشرة والأخرى كاتبة، لافتة إلى أنّ «الفكرة في البداية كانت بسيطة، مجرد زيارة لمكانٍ تاريخي، لكن حين دخلنا المبنى وشاهدنا الكتب المتآكلة والرفوف المهجورة، شعرنا بأنّ وراء هذه الجدران قصة أكبر من الترميم، بل قصة عن بلدٍ يريد أن يتصالح مع ماضيه».
وأضافت مايا أنّ تجربة العمل على الفيلم لم تكن سهلة، لأنهما كانا يصوّران بمواردهما الخاصة ويوازنان بين الحياة العائلية والعمل الفني، خصوصاً بعد أن أصبحا والدين لطفلين صغيرين، مشيرة إلى أنّ الصعوبة كانت تكمن في الحفاظ على الحماس والاتساق وسط هذا الزمن الطويل، لكنهما شعرا في كل مرة يعودان فيها إلى المكتبة بأنّ العمل يستحق كل التعب، لأنّها ترى فيه جزءاً من هويتها الخاصة كامرأة وفنانة أفريقية.

وأكدت مايا أن التعامل مع البيروقراطية الحكومية كان من أصعب الأمور التي واجتهما حيث تم تعطيل عملية التصوير أو التطوير أحياناً، وأنّهما أرادا أن يظهر الفيلم واقع هؤلاء الذين يحاولون التغيير، في ظل أنظمة لا تسهّل التغيير أبداً، لكنهما في الوقت نفسه لم يرغبا في تقديم خطابٍ يتهم أو يدين، بل أرادا فتح حوار حول معنى العمل العام وكيف يمكن أن يتحقق التغيير بطريقة بنّاءة.
وقالت مايا إن «مرحلة المونتاج استغرقت وقتاً طويلاً امتد لأكثر من عام ونصف عام، وأنّهما استعانا بالمونتير الكوبي ريكاردو أكوستا الذي ساعدهما في صياغة البناء السردي النهائي»، لافتة إلى أنّهما «خلال 8 سنوات كانا يصوران ويحرران بالتوازي، ويعرضان المشاهد على بعض الجهات الممولة في محاولات متكررة للحصول على دعم لاستكمال المشروع».
من جهته، قال المخرج كريستوفر كينغ إنّ مجموع اللقطات التي تم تصويرها تجاوز 600 ساعة نظراً إلى طبيعة الفيلم، مشيراً إلى أن هذا النوع من الأفلام يعتمد على الصبر والمراقبة، لأنّ كل لحظة عابرة قد تكشف جوهر الحكاية.

وأوضح كريستوفر أنّه منذ انتقاله إلى كينيا عام 2007 كان مفتوناً بالحركة الفكرية في البلاد، وبالأسئلة التي يطرحها المثقفون والكتّاب حول معنى أن تكون أفريقياً في عالمٍ سريع التغيّر، مشيراً إلى «هذه الخلفية جعلته يقترب من شخصيات الفيلم بعينٍ محبة ومتعاطفة، لأنه رأى في نضالهم من أجل إصلاح مكتبة قديمة انعكاساً لنضال أوسع من أجل العدالة الثقافية والاجتماعية».
وأضاف كريستوفر أنّ «الفريق اضطر إلى التعامل بحذر مع بعض المسؤولين والسياسيين الذين ظهروا في الفيلم، وأنهما سعيا إلى أن يكون العمل صادقاً دون أن يعرّض أحداً للخطر، لأنّ هدفهما لم يكن الصدام بل الفهم»، مشيراً إلى «أنهما استشارا شخصيات عدة شاركت في المشروع قبل المونتاج النهائي للتأكد من أنّ الصورة المنقولة منصفة وشفافة».

وقالت مايا ليكو إنّ عملهما المشترك كزوجين ومخرجين يحمل تحديات كثيرة، لكنه في الوقت نفسه يمنحهما انسجاماً يصعب تحقيقه بين أي شريكين مهنيين آخرين، لافتة إلى أنّهما حين يختلفان في الرأي الفني يلجآن إلى شخص ثالث ــ أحياناً المونتير ــ ليكون الحكم بينهما. وتابعت ضاحكة: «لدينا في البيت طفلان صغيران، لكن في الحقيقة كل أفلامنا هي أطفالنا أيضاً».
وقال كريستوفر إنّ العمل مع الزوجة ليس كما يتخيله البعض مصدر توتر، بل هو شراكة عميقة، لأنّ صناعة الفيلم الوثائقي صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى من تشاركه الشغف والمسؤولية، مشيراً إلى أنه بحكم خبرته في التصوير والمونتاج، وبحكم خلفية مايا الموسيقية، فإنّ كل واحدٍ منهما يُكمل الآخر، فهي تتولى الصوت والموسيقى، وهو يتولى الكاميرا، ثم يجلسان معاً لكتابة الإيقاع البصري والموسيقي للعمل.

واختتم كريستوفر كينغ بالحديث عن مشروعهما الجديد، قائلاً إنّهما يصوّران حالياً فيلماً عن شابة كينية تخوض تجربة الترشح لمنصب المحافظ في منطقة ساحلية محافظة، حيث تتقاطع السياسة بالدين والثقافة، موضحاً أن الفيلم الجديد يواصل الاهتمام نفسه الذي حمله فيلمهما «كيف تبني مكتبة»، عبر تتبع الأفراد الذين يحاولون تغيير أنظمة راسخة في مجتمعٍ يضع أمامهم عقبات لا تنتهي، معبراً عن أمله في أن تظل الكاميرا وسيلتهما لفهم العالم وتغييره في آن واحد.





