«ظلال في الداخل»... وقفة مع الحياة لمجتمع يستحق

بالحبر والألوان المائية يرسم أنطوان مطر حشوداً صامتة

يقدّم لوحاته تكريماً لمجتمع يستحق (الشرق الأوسط)
يقدّم لوحاته تكريماً لمجتمع يستحق (الشرق الأوسط)
TT

«ظلال في الداخل»... وقفة مع الحياة لمجتمع يستحق

يقدّم لوحاته تكريماً لمجتمع يستحق (الشرق الأوسط)
يقدّم لوحاته تكريماً لمجتمع يستحق (الشرق الأوسط)

في أفق واسع لا تحدّه حدود، يترجم الرسام أنطوان مطر مشاعر مجتمع بأكمله في معرضه «ظلال في الداخل»، مختصراً فيه تراكمات تجارب وخبرات أكاديمية وتشكيلية.

وفي غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة البيروتية، تتوزّع لوحاته المؤلَّفة من أطفال ونساء ورجال يدورون في فلك الماضي والحاضر. يغادرون ويصلون، ويجتمعون في هدوء وسكينة. جالسين أو واقفين، يتكاتفون في التعبير عن يومياتهم، مُقدّمين فصولاً من حياة تزخر بأصداء اللحظات. فكما يتلقّفون انتصاراتهم جماعياً، كذلك يفعلون مع خساراتهم، لتصبح كلّ لوحة من لوحات المعرض وعاء لمشاعر إنسانية وتكوينية.

اختار مطر عناوين أعماله من ذاكرة خياله؛ ومنها تستشفّ وصفاً دقيقاً لحالات إنسانية يُسجّلها بحبر ريشته حيناً، وبـ«الأكريليك» وتقنية «الميكسد ميديا» حيناً آخر، مُسهماً، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»، في «تحريرها من المحدودية».

الفنان أنطوان مطر أمام إحدى لوحات معرضه «ظلال في الداخل» (الشرق الأوسط)

الحشود حاضرة في جميع لوحات أنطوان مطر، ومعها تغيب الفردية التي تُهيمن على معارض فنّية أخرى. يصوغها في إطار مشترك، فتبدو كتلة مترابطة ومتماسكة في آن. يقول: «هذا المعرض محطة مع الحياة ومكوّناتها البشرية. موضوعاته لا تتقيّد بالمشاهدات، وإنما تولد من خليط الإبداع والخيال. كلّ لوحة تحمل في مضمونها انطباعات كوّنتُها من تجاربي. فالمجتمع هو المحرّك الأساسي في حياتنا، ومن دونه تبدو فارغة وجامدة، ولذلك رغبت في تكريمه على طريقتي».

تشعر وأنت تتأمّل لوحات مطر كأنك تلتقي بناسها. يلقون عليك التحية أحياناً بنظرات فارغة، كما في لوحة «حجاب الصمت»، وأحياناً أخرى يديرون لك ظهورهم متأهّبين للمغادرة، كما في لوحة «قصص لا تنتهي»، فتجول في عالم يغرق بالصمت والكتمان. وفي لوحة «سيمفونية ذات عجلتين»، تبدو الشخصيات ودودة، تقود دراجتها الهوائية في ماراثون مجهول المسار. أما في لوحة «خطوط المرور» التي رسمها على خلفية بنفسجية، فتظهر ثائرة بهدوء.

مادتا الحبر والألوان المائية تسود معظم أعماله (الشرق الأوسط)

ويشرح الفنان التشكيلي اختياره لتقنيات متعدّدة: «لا أخطّط للألوان التي أرغب في استخدامها. أحمل ريشتي وأتبع خياراتها لأدوّن أفكاري. استخدمت تقنيات تتراوح بين الأكريليك والحبر والألوان المائية والميكسد ميديا، فجاءت متنوّعة بلا ملل أو رتابة».

ويشير مطر إلى أنّ خلفيته الثقافية تُسهم في خلق مساحات شاسعة لا تحدّها قيود، ويضيف: «سبق أن استخدمت في معارض أخرى تقنيات مختلفة، منها الزيت، لكنني في (ظلال في الداخل) غصتُ في أعماق هذه الثقافة وتراكم تجاربي الأكاديمية والفنّية». وعما إذا كان يرى معرضه محطة مختلفة في مشواره، يوضح: «هي بلا شكّ محطة لا تشبه غيرها، أروي فيها قصص مجتمع بالأبيض والأسود، وأحياناً أكتبها على سطور لوحة بريشة تلقائية يسودها الأحمر أو بخلفية زرقاء. أما ميلي إلى الحبر في معظم لوحاتي، فلأنه مادة قوية وثابتة، تُولّد نوعاً من التحدّي بيني وبينها، خصوصاً أنّ الخطأ معها غير مسموح».

يُحاكي في لوحاته حشود مجتمعات متنوّعة (الشرق الأوسط)

يتمتّع أنطوان مطر بمشوار أكاديمي حافل؛ فهو أستاذ في كلية الفنون بجامعة الروح القدس في الكسليك، وعضو في جمعية الرسامين والنحاتين اللبنانيين. أسَّس «بيت الفنون» في منطقة أدما، وأقام أكثر من 30 معرضاً بين لبنان والخارج. كما مارس تعليم الرسم في معهد الحكمة ومدرسة الموضة الأشهر في بيروت، «إس مود».

مشاعر الفرح والحزن، كما الهدوء والسكينة، تطبع مجتمعات أنطوان مطر في لوحاته، التي تمثّل حصاد سنوات من العمل، بدءاً من عام 2014 ووصولاً إلى لحظة 2025.

في لوحة «أصداء الأشباح»، ينقلك أنطوان مطر إلى عالم ملوّن بامتياز. يصوّر مجموعة من النساء ينشغلن بالدرس والمطالعة، يظهرن أنيقات وجادّات، يتطلَّعن إلى المستقبل بنظرة حالمة؛ كل ذلك على خلفية خضراء تُحاكي الطبيعة. وفي لوحة «جمعة النفوس»، المُقدَّمة بالتقنية عينها، تبدو النساء أكثر انشغالاً وحركة. ويكمل المشوار في لوحة «مكان الالتقاء»، مُقدّماً نموذج مجتمع مختَلط ينظر إلى العلا، ذاك الذي يبدو على تماس معه. أما في لوحة «أصداء الحشد»، فيأخذنا إلى مشهدية تعبق بجمالية تداخل الأحمر والبنفسجي والأسود، بريشة تتّسم بالعبثية.


مقالات ذات صلة

حضور مصري لافت يعرض جماليات الخط العربي في اليابان

يوميات الشرق مشاركة مصرية لافتة في معرض «النقطة والخط» في اليابان (الشرق الأوسط)

حضور مصري لافت يعرض جماليات الخط العربي في اليابان

يستطيع زائر المعرض الاستمتاع بمشاهدة 138 قطعة، منها 22 لوحة فنية أصلية، إضافة إلى صور فوتوغرافية.

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق ماجدة شعبان في معرضها «بيروت عُدتُ إليك»... (الشرق الأوسط)

معرض «بيروت عدتُ إليك»... عندما يصبح الحنين إلى الوطن حاجة ملحّة

سبق أن عبّرت ماجدة شعبان عن أحاسيسها خلال الحرب الأخيرة التي شهدها لبنان. يومها، تأثرت بمشهد طائرة تابعة لـ«طيران الشرق الأوسط» تشق طريقها بين دخان القذائف.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق تأثيرها هائل في الذوق (سوذبيز)

سِحر ماري أنطوانيت في قلب لندن

سيُفتَتح أول معرض في المملكة المتحدة مخصّص لحياة الملكة الفرنسية ماري أنطوانيت، في متحف «فيكتوريا وألبرت» بجنوب كنسينغتون في لندن.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق عمل زينة وريّا بدران يتجاوز الجماليات البصرية ليلامس مشاعر المرضى (المُلحقة الإعلامية)

8 فنانين يُعيدون تشكيل المشهد الاستشفائي في بيروت

يتقاطع الفنّ مع الطبّ، من موقع الضرورة، مثل نافذة ضوء في قلب التجربة، وصوت داخلي يقول للمريض بهدوء: «لستَ وحدك».

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق لقطة للواقعة التي صوّرتها كاميرات المراقبة بالمتحف

شاهد... سائح يُحطّم كرسي «فان غوخ» أثناء التقاط صورة تذكارية

حطم سائح كرسي الرسام الهولندي فينسنت فان غوخ بمتحف بالازو مافي للفنون في فيرونا بإيطاليا، أثناء التقاطه صورة تذكارية خلال جلوسه عليه.

«الشرق الأوسط» (روما)

مطاعم مصرية تثير تفاعلاً لدعمها إيران بـ«الحمام المشوي» و«صاروخ الكشري»

صورة دعائية نشرها مطعم «أبو طارق» لطبق الكشري على هيئة صاروخ إيراني (صفحة مطعم أبو طارق على فيسبوك قبل حذف المنشور)
صورة دعائية نشرها مطعم «أبو طارق» لطبق الكشري على هيئة صاروخ إيراني (صفحة مطعم أبو طارق على فيسبوك قبل حذف المنشور)
TT

مطاعم مصرية تثير تفاعلاً لدعمها إيران بـ«الحمام المشوي» و«صاروخ الكشري»

صورة دعائية نشرها مطعم «أبو طارق» لطبق الكشري على هيئة صاروخ إيراني (صفحة مطعم أبو طارق على فيسبوك قبل حذف المنشور)
صورة دعائية نشرها مطعم «أبو طارق» لطبق الكشري على هيئة صاروخ إيراني (صفحة مطعم أبو طارق على فيسبوك قبل حذف المنشور)

أثارت مطاعم مصرية موجة من التفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي، بعد تقديمها دعاية رمزية تحمل دلالات سياسية، فُسّرت على نطاق واسع على أنها رسالة تضامن مع إيران في ظل حربها مع إسرائيل، وهو ما استدعى تعرض هذه المطاعم لانتقادات لاذعة من صفحات إسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الساعات الماضية، منشورات تسويقية، كان أبرزها لمطعم «أبو طارق»، الذي يُعد أشهر المطاعم التي تتخصص في الوجبة المصرية الشعبية الأولى «الكشري»، والذي روّج لمكونات الطبق التقليدي على هيئة صاروخ يستعد للانطلاق، بصورة عبر صفحته على «فيسبوك»، معلّقاً عليها: «قريباً في الأسواق».

وبينما حذفت صفحة المطعم المنشور بعد ساعات قليلة من نشره، إلا أن مستخدمي «السوشيال ميديا» التقطوه لينتشر على آلاف من الحسابات سريعاً، بين تثمين للفكرة وتهكم عليها.

في الوقت نفسه، أثارت الصورة أيضاً غضباً في إسرائيل، حيث أعاد الصحافي الإسرائيلي، روعي كايس، الذي يعمل في الهيئة العامة للبث الإسرائيلي، الموجهة للإسرائيليين والجمهور العربي، نشر الصورة على منصة «إكس»، معلّقاً عليها: «يبدو أن مطعم أبو طارق... الكشري المحبوب في القاهرة قد دخل الحرب بين إسرائيل وإيران».

وهو أيضاً ما تفاعل معه مغردّون في مصر وإسرائيل، مع إبراز زيارة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، لمطعم «أبو طارق» قبل أشهر قليلة، وإثنائه على الطبق بعد تناوله، قائلاً إنه «وجبة لذيذة وشهية».

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يتناول الكشري في مطعم «أبو طارق» (مطعم أبو طارق)

وكان ثاني المطاعم التي استلهمت الدعاية المستمدة من روح الحرب الدائرة، هو مطعم «قصر الكبابجي»، وهو أحد أشهر المطاعم المصرية المتخصصة في المشويات والأطعمة الشرقية، فقد نشر على صفحته على «فيسبوك» صورة متداولة بين وكالات الأنباء لاشتعال النيران في بنايات تل أبيب نتيجة استهدافها بصاروخ إيراني، بينما تتصاعد الأدخنة في خلفيتها، معلقاً على الصورة: «تراجع قصر الكبابجي للمركز الثاني في مسابقة أجمل دخان يخرج من شواية في العالم».

وهو المنشور الذي انتشر أيضاً بشكل سريع، وحاز آلاف التفاعلات، وتداوله مئات الآلاف من مستخدمي «فيسبوك»، و«إكس».

وجاء مطعم «حاتي أحمد ندا»، المتخصص في المشاوي، كثالث المطاعم التي دخلت على خط تلك الدعاية، إذ نشر مقطع فيديو قصيراً «ريلز» على صفحته بموقع «فيسبوك»، يمزج فيه بين مشاهد سقوط الصواريخ الإيرانية على إسرائيل وصور الأطباق التي يقدمها، بينما تختلط أدخنة الصواريخ مع أدخنة شواء «الحمام» المشوي و«الكفتة» والدجاج.

المقطع المصور لم يمر مرور الكرام، ففيما نال مئات التفاعلات والتعليقات، تداولته أيضاً صفحات إسرائيلية، وسط حالة من الغضب. وهو ما أشار إليه المطعم في منشور قائلاً إن الفيديو الخاص به «وصل إلى داخل الكيان نفسه وأغضبهم جداً لدرجة أنهم نظموا حملة لتشويهنا على غوغل».

وهي الكلمات التي بدورها وجدت تفاعلاً وتضامناً مع المطعم، بل دفعت منافسه «قصر الكبابجي» إلى أن يدعمه بمنشور يحث فيه متابعيه على دعم الصفحة المتعرضة للهجوم.

ووجّه مطعم أحمد ندا الشكر للمصريين على دعمه، معلناً أن إدارة «غوغل» أغلقت موقعه الجغرافي على خرائطها (اللوكيشن)، وأن صفحاته تتعرض للهجوم ويتم تعطيلها.

يعلق الصحافي والباحث المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، محمد فتحي، قائلاً إن تزايد لجوء المؤسسات والحسابات الرسمية وغير الرسمية في مصر إلى «ركوب الترند» بات سمة لافتة في المشهد الرقمي، وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «الأحداث الأخيرة في المنطقة دفعت حتى مطاعم شعبية معروفة إلى دخول خط المواجهة عبر منشورات دعائية ضد إسرائيل، بهدف جذب الانتباه وزيادة المتابعين»، موضحاً أن «التفاعل مع هذه الحملات تراوح بين التأييد الكامل، والسخرية، والفضول، وهو ما يكشف عن اهتمام شعبي متصاعد بما يجري في المنطقة».

ويضيف «فتحي»: «منشورات عدد من هذه المطاعم انتشرت بشكل واسع عبر المنصات، حتى أثارت ردود فعل غاضبة من صفحات إسرائيلية، وخلقت ما يشبه مواجهة إلكترونية بين حملات مؤيدة ومعارضة». وتابع: «وصل الأمر إلى شن هجمات إلكترونية جماعية خُفضت خلالها تقييمات مطعم مصري شهير على محركات البحث، قبل أن تنطلق حملة دعم مضادة لإعادة رفع التقييم، في مشهد يُظهر إلى أي مدى يمكن أن تتحول الحملات التجارية إلى ساحات صراع رقمي».

بدوره، يبيّن محمد يسري، مدير تسويق إلكتروني لعدد من المطاعم في القاهرة، أن ما قامت به المطاعم المصرية هو نوع من «التسويق التريندي» أو ما يُعرف أيضاً بـ«التسويق القائم على الاتجاهات»، ويوضح في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه استراتيجية تسويقية تعتمد على مواكبة واغتنام أحدث الاتجاهات والأحداث، أو المواضيع الشائعة (الترندات) لدمجها في الحملات التسويقية للمنتجات أو الخدمات، والهدف الأساسي للجوء هذه المطاعم المصرية إلى هذا النوع من التسويق هو جذب الانتباه السريع والوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور الذي يتفاعل مع أحداث الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل».

ويلفت يسري إلى أن «التسويق السياسي بطبيعته معقّد، فبينما يسعى بعض المعلنين لمواكبة المزاج العام عبر رسائل ذات طابع سياسي، فإن هذه الخطوة قد تنقلب ضدهم سريعاً؛ إذ لا يمكن التنبؤ بردة الفعل، وهو ما لمسناه في حالة مطعم أحمد ندا، فالحملة التي أطلقها المطعم أثارت جدلاً كبيراً لدى الجانب الآخر، ما أدى إلى تراجع ترتيب ظهوره في نتائج محرك البحث، وهو ما يُظهر أن الاعتماد على (الترند) وحده، دون حساب الأثر طويل المدى، قد يؤدي إلى نتائج عكسية».