على سبيل المزاح، والجدّية أيضاً، يسأل مدرّب الصوت اللبناني، طوني البايع، الاتصال به بعد 10 سنوات لإجراء الحوار. وإذا كانت سرعة العصر وزمن الرقمية يبدّلان اتجاهات ويصنعان مسارات، فإنه يعترف بالحقيقة من دون إطاحة أغنيات تُحقّق مشاهدات قياسية، ونكران واقعها. في حواره مع «الشرق الأوسط» بشأن مصير الأغنية اليوم، ولِمَ بعضها عابر وفقّاعي، يُحلّل أسباباً تجعلها قصيرة العمر؛ بالكاد تَعلق.
يُسمّيها «هبّات» تلك الأغنيات التي تُظهر حالة عَصْف ثم تَهْمَد. تبدأ بزخم وتنتهي بضآلة الأثر. ويُشبّه مَشهدها بمَن يفتتح مطعماً لبيع البيتزا مثلاً، ويتهافت الزبائن عليه لتميُّز الخلطة، وبعد العام الأول؛ يُهجَر. أما مطاعم مضى على افتتاحها 30 عاماً، فلا تزال تزدحم حتى آخر مقعد. برأيه؛ «الواقع الجديد عالمي، وليس عربياً فقط. لنأخذ روائع مثل (وِذَاوِتْ يُو) لماريا كيري، أو (إتْس ناو أُورْ نِفَر) لإلفيس بريسلي... هذه لا تُولّدها أيامنا. ورغم المشاهدات القياسية لأغنيات هذا العصر، فإنها بالكاد تدوم؛ لحقيقة أنّ الجديد يتبعه جديد، والعجلة تسير بسرعة مجنونة».
![لا يُنكر واقع أغنيات العصر ولا ينسف وجودها (حساب طوني البايع على فيسبوك)](https://static.srpcdigital.com/2025-01/936990.jpeg)
يتحدّث طوني البايع عن الاستمرار الصعب... «حتى المغنّين الكبار تؤرقهم السوق لتحكُّمها في المزاج وفَرْض شروطها. طابعها التجاري يغلب الفنّي. إرضاء جيل (تيك توك) هاجس الجميع تقريباً، و(الترند) سيد المشهد. المفارقة أنّه جيلٌ يرضى بما يُقدَّم له. قلّما ينتقد أو يُصوِّب... ثقافته ضئيلة، ولم يطَّلع على القديم».
يبدو أنه يهوى التشبيه بحسٍّ مَرِح: «إن ارتأى الجيل الجديد ارتياد حفل زفاف بالشورت، لحقه الفنانون! ما وظيفة فساتين الأعراس؟ لِمَ وُجدت الأقمشة؟ ذلك يطغى في الغناء بما يفوق وَقْعه في الرسم أو المسرح مثلاً. لقراءة النصّ المسرحي، لا بدّ من أداء مُتقَن. جمال الممثلة لا يحسم المعادلة. الغناء يشهد الانجراف خلف موجة هي المُسيطرة».
يدرك أنّ ما عُرف بـ«العصر الذهبي» انطوى مع الأمس وذكرياته. لا جديد في مسألة نَعْيِه أو الترحُّم عليه... أَفَل، ولن ينفع التباكي شيئاً. مع ذلك، لا يستعجل مدرّب الصوت وخبير الفوكاليز تقييم هذا الزمن. فهو ليس متفائلاً بالمطلق، لكنه لا يُفرط في التشاؤم. يقول: «لن نفهم واقع الأغنية اليوم، فالمسألة تتطلّب عقداً أو عقدين لإجراء تقييم عادل. الغربال شغَّال». ولكن، ماذا لو أتى جيلٌ بعد 20 عاماً ورأى في غناء اليوم «زمناً جميلاً»؟ ردُّه: «لن يُصنَّف كذلك، وإنما سيُقال عن الجيّد جيّد، وعمَّن استمرَّ وأعطى إنه ترك بصمته».
![لا يستعجل مدرّبُ الصوت وخبير الفوكاليز تقييمَ هذا الزمن (حساب طوني البايع على فيسبوك)](https://static.srpcdigital.com/2025-01/936989.jpeg)
يُذكّر بأغنية «لمّا بمشي عالرصيف» للفنانة ميشكا، لتعريف «الترند»: «كانت لافتة في عصرها، وهي اليوم من أغنيات الثمانينات التي نحبّ. (الترند) ليس واقعاً جديداً، إنما جديده الخواء من الفكرة. أغنية (قومي تَنرقص يا صبية) لسامي كلارك (ترند). و(كان الزمان وكان) لفيروز. كلها درجت وتحلّت بموضوع منحها قيمة».
قراءته النقدية لا تجعله يُعلن الإصابة بخيبة. بالنسبة إليه؛ «الفنّ بخير». يعطي ماجدة الرومي مثالاً: «حين تتغيَّر، فسأعلن يأسي. حتى الآن، ثمة ما يُعوّض ويُحسَب. ثم؛ فلنكن واقعيين: أي أغنية رسخت لسيلين ديون من جديدها؟ أو لكريستينا أغيليرا؟ حتى ماريا كيري، خارج ألبومها الميلادي الذي يُعاد تذكير الجيل الشاب به عشية أعياد الميلاد كل عام، لم تقدّم مؤخراً ما يَعلق. ذلك لا ينسف التاريخ والمسيرة. كلاهما مضيء ومُكرَّس. لكنه الواقع الجديد ومزاج السوق».
لنتحدَّث عربياً؛ أيُّ الأغنيات سيُنصفه الغربال؟ والتاريخ إنْ شاء خطّ سطوره بعد عقد أو اثنين، ماذا سيدوّن؟ يجيب من دون حصر: «(يا ضلّي يا روحي) لوائل كفوري (ترند) على الدوام. (حدا عارف) لآدم، من كلمات مروان خوري وألحانه، أيضاً. ستُذكَر وإن دَرَجت عبر (تيك توك). (مغرم) لجاد نخلة، و(يا غالي عليّ) لنانسي عجرم، تدخلان ضمن صِنف يُذكَر».
ويستغرب كيفية تلقّي أُذن الإنسان الضخّ الهائل للأصوات في زمن السرعة والأجهزة. وإذ يُحزنه لَهْوُ الأطفال خارج الطبيعة وعصافيرها والأرض وكرة القدم، يرى أنّ الإشكالية تبدأ من هنا. فتَعوّدهم على الجاهز والسريع يُهوّن قبولهم بالمُتاح والسهل. يتابع: «لنكن أكثر إنصافاً، لا يُلام الفنان وحده طوال الوقت. دعونا لا ننسى مسألتَي الكلمة واللحن. معظم ما يُغنَّى اليوم من نوع (خانني وخنته/ تركني وتركته). في (من أيّا ملاك جايب هالحلا) لعازار حبيب مثلاً، قُدِّم الحبّ بعمق. بات هاجس اللحاق بـ(الترند) يحكُم الكتابة والموسيقى».
![المسألة تتطلّب عقداً أو عقدين لإجراء تقييم عادل (حساب طوني البايع على فيسبوك)](https://static.srpcdigital.com/2025-01/936988.jpeg)
لا يطلب طوني البايع من الجميع التحلّي بحنجرة أم كلثوم. برأيه؛ «في عصرها حضرت شادية أيضاً، وشكّلتا مشهدية فنّية لائقة». ويعلم أنّ محاكاة الشباب واقع لا مفرّ منه؛ لكنّ الكيفية تصنع الفارق. يذكُر تأثّر جيل السنوات الـ10 الأخيرة بطلاب «ستار أكاديمي» مثلاً، لما شكّلوه من محاكاة لامستهم. ويرى أنّ البحث عن جديد هاجس كل الأجيال، وهذا بديهي: «رونالدو وميسي قدوة الشباب ومُلْهِماهُم. السابقون اتّخذوا بيليه أو مارادونا نموذجاً. الهوية تُميّز الفنان، والمعرفة أيضاً. وإنما التشابُه يسود؛ والاستسهال. كان كاتب الأغنية يبحث ويتعمَّق. البحث اليوم غير موجود».