هي ذاتها «أرض البرتقال الحزين» التي كتب عنها الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني. هي فلسطين ذات الأحلام المكسورة والتغريبة الأزليّة، التي تستحضرها سمر حدّاد كينغ في عرضها «Gathering (تجمّع)» على مسرح «The Shed» في نيويورك.
حدّاد المولودة في الولايات المتحدة الأميركية، المتنقّلة دائماً بين أرض الأجداد والبلد الذي استضافها، لم تنسَ لغتها العربية ولا قضيّة شعبها. تتحدّث لـ«الشرق الأوسط» عن عرضها الجديد الذي «لا يذكر الوطن بالاسم، لكنه يجسّده بكل التفاصيل».
فصول الحرب
يجمع «Gathering» الرقص التعبيريّ والتمثيل وتحريك الدمى وفنّ الحكواتي ضمن عرضٍ واحد. يحكي قصة «إسراء» ذات الأحلام البسيطة؛ تريد زواجاً وأطفالاً لكنّ العدوّ ونارَه بالمرصاد. تندلع الحرب دائماً وأبداً، تعود كالمواسم العاصفة لتقتلع الأحلام.
بين نغمات سيمفونية «الفصول الأربعة» لفيفالدي، وسطور رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، تنقّلت مصمّمة الرقص الفلسطينية - الأميركية، مستلهمةً فكرتها: «شغلتني أحوال الناس خلال الحروب التي تعود إلى بلادنا كما المواسم. يعيشونها تحت المطر والثلج شتاءً، وتحت الشمس الحارقة صيفاً وهُم في العراء». وُلدت الفكرة عام 2018 لتأتي جائحة «كورونا» وتؤخّر التنفيذ. ثم اندلعت حرب غزّة لتحدّد الزاوية وتفرض نفسها على الرواية والكوريغرافيا، فتدخل ثيمات الصدمة والتشتّت والموت.
دبكة مع الجمهور
كان حضوراً مكتمل النصاب خلال الأمسيات الثلاث من 20 إلى 22 يونيو (حزيران)، وفق ما تؤكّد حدّاد. لم يكتفِ الجمهور بالتفرّج، بل شكّل جزءاً من العرض، إذ صعد بعض المشاهدين إلى الخشبة ليتولّوا تحريك الدمى بأنفسهم. واكتمل التفاعل بمشاركة الحاضرين جميعاً في حلقة الدبكة الفلسطينية على وقع الزغاريد ونغمات «يا ظريف الطول».
تحلم إسراء بزفافها فيما هي في غيبوبةٍ تسبق وفاتها. يتلاقى ذلك مع ما يحدث في غزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث تطايرت مخططات وآمال كثيرة مع تطايُر الشظايا والأشلاء في الهواء. تتابع حدّاد ما يجري هناك من خلال اتّصالاتها اليومية بالأصدقاء العالقين في القطاع. تقول: «لكن علينا أن نعمل وإلّا سنجلس عاجزين ونبكي طيلة الوقت». تضيف بواقعيّة: «أدرك تماماً أنّني لا أضع خبزاً على موائد الغزّيّين ولا أقدّم لهم الدرع الواقية من القذائف والصواريخ، لكن القصص التي نحكي تُخبر الناس هنا بأنّنا بشر، مثلنا مثلهم».
تشكّك الفنانة الفلسطينية في قدرة الفن على تغيير العالم، «لكنها بداية جيّدة بأن تلمسي قلوب البشر من خلاله، وتوقظي إنسانيّتهم، والأهمّ أن تقاومي الإلغاء الذي يتعرّض له الشعب والإرث الفلسطينيَّان». تكشف حدّاد أنه «رغم محاولات الإسكات الكثيرة، فإننا نجحنا في تقديم هذا العرض في قلب نيويورك، وهذا إنجاز بحدّ ذاته».
لا يقتصر الحضور على العرب، وقد كُتب النص بالإنجليزية عمداً كي يفهمه الأميركيون وسائر المشاهدين الأجانب. أما الموسيقى فهي مزيجٌ من «فصول» فيفالدي والنغمات الفلسطينية الفلكلورية، إضافةً إلى أغانٍ بالإنجليزية من تأليف حدّاد.
برتقالة على قبر إسراء
تحضر الرموز لتكرّس الرسالة الفلسطينية، وعلى رأسها البرتقال الذي يأخذ حيّزاً كبيراً من العرض. لهذه الفاكهة المرتبطة عضوياً بأرض فلسطين مكانة خاصة في قلب حدّاد: «كان أجدادي موزّعين بين يافا وعكّا، وأنا أتحدّر من عائلة مزارعين. مع الأسف، اندثرت أشجار الليمون الآن وانتهت مواسم القطاف». «خسرنا البرتقال»، تقول سمر، «من الفاكهة النادرة التي لا تستلزم سكّيناً من أجل تقطيعها إلى حصص فرديّة». هي ترمز إلى الفرد والجماعة في آنٍ معاً. توضح حدّاد في هذا الإطار «بصفتنا عرباً نحبّ التجمّعات وهي جزء من ثقافتنا، لكن لا يجب أن نهمل فرديّتنا وتطلّعاتنا الشخصية».
تتدحرج مئات حبّات البرتقال على الخشبة، تلاعبها أجساد الراقصين. تنبعث الرائحة في أرجاء القاعة. «هي الحدود بين الأشخاص، وهي الدموع على إسراء والورود على ضريحها»، تشرح حدّاد. يُدعى الحضور في نهاية العرض الممتدّ ساعة وربع الساعة، إلى وضع برتقالة على قبر إسراء. لكن رغم النهاية الحزينة، فإن حداد تُصرّ على أنّ البرتقال هو الأمل وانبعاث الحياة رغم الموت الكثيف.
رحلة على أجنحة الرقص
في عرض «Gathering»، لا يقتصر التنوّع على الجمهور، بل ينسحب على الراقصين الآتين من كل صوب. 13 راقصاً يملأون المسرح، وهم من جنسيات مختلفة: فلسطين، ومصر، وتركيا، وماليزيا، واليابان، وتايوان، وبريطانيا. أمضَى الفلسطينيون من بينهم الأشهر الأخيرة وهم يتدرّبون عن بُعد، وعندما اقترب موعد العرض، انتقلوا من مخيّم عسكر للاجئين في الضفّة الغربية، ومن القدس، وحيفا إلى نيويورك.
أسّست سمر حدّاد مسرح «يا سمر» للرقص عام 2005، وصمّمت منذ ذلك الحين أكثر من 30 عرضاً راقصاً. لم تحصر مشروعها بموقعٍ جغرافيّ واحد، بل أرادت له أن يكون عابراً للحدود، فتآلفَ الراقصون مع فكرة التمرين عن بُعد؛ تعلّق بالقول: «أن تكون فلسطينياً، أي أن تكون قادراً على التكيّف».
كلّما اقتضت الحاجة، ينتقل الراقصون من فلسطين إلى الولايات المتحدة. فلسطين هي روح الفرقة وعمودها الفقريّ، وخلال أولى سنوات انطلاقتها جالت بين مهرجانات الرقص في الضفّة الغربية والأردن. أما اليوم فأملُ حدّاد كبير بأن ينتقل عرض «Gathering» إلى أرضه الأصليّة، إلى قلب العواصم العربية: «إذا سمحت الأوضاع الأمنيّة وتوفّر التمويل، ستكون المحطة التالية رام الله، وبعدها القاهرة».
في الأثناء، تستمتع حدّاد بالأثر الذي تركَه العرض على الجمهور وعلى الإعلام الأميركي، وقد وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بـ«الملحميّ». أمّا بعد «Gathering» فالموعد مع عروض أخرى حول العالم، ومتابعة لأحد المشروعات الأغلى إلى قلب حدّاد؛ ورش عمل الرقص والتمثيل التي تستهدف السجناء واللاجئين.