كلنا عابرون في هذه الحياة نسير في طريق طويلة بخطوات نرسمها بعفوية مرات، وباعتباطية مرات أخرى. وحين يأتي وقت جردة الحساب لشريط حياتنا يحضر سؤال واحد في رأسنا: «لماذا؟»، وهنا ندرك أننا عانينا مرات كثيرة من غباشة بسبب أقنعة ارتديناها. ليس من باب التزييف فحسب، بل ارتكاز على سلوك منضبط، فالقدرة على التحليق بحرية أمر شائك وصعب ويستلزم الشجاعة. ولكن الفنانة التشكيلية أليدا طربيه من خلال معرضها الفني «العابر» تطلب منّا التوقف. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا طريق مفبركة أو عشوائية نسلكها. نحن وحدنا من يصنعها». معرضها «العابر» في المركز الثقافي الإسباني (سرفانتيس) المؤلف من مجموعة منحوتات برونزية وأخرى من الريزين يترجم فكرتها هذه.
في المعرض يتملّك الزائر إحساسٌ وكأنه يشاهد مراحل من حياته أيضاً. فأليدا طربيه عرفت كيف تقدم شريط حياتها ليكون نموذجاً عن حيوات كثيرين في قالب إنساني بامتياز.
وتستهل أليدا طربيه المعرض بمقدمة مكتوبة استوحتها من الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: «لا طريق لك، أيها العابر اخلق الطريق بخطواتك». عبارات أيقظت عند أليدا طربيه كمية من المشاعر والأحاسيس. ومعها طرحت مجموعة أسئلة وجدانية. تأتي إجاباتها من خلال منحوتات تستوقفك بالفعل. تذكرك بضرورة الالتفات إلى الذات. وبالتالي الالتحاق بدرب الإنسانية الواضحة والمفقودة معالمها في عالمنا اليوم.
وانطلاقاً من منحوتات تستقبل الزائر عند باب حديقة المركز، مروراً بالسلالم الحجرية، ووصولاً إلى صالة العرض، تبدأ القصة التي تستهلها أليدا من منحوتة «كامينانتي» (العابر).
وفي رحلة الزيارة هذه تظهر منحوتة «المرأة مع الحقيبة»، معلنة العودة إلى وطنها مع شنطتها المفتوحة. وعلى مقربة منها «فتاة البالونات»، و«فتاة القناع». وفي صالة العرض تنتصب منحوتة «العابر المقنع» الضخمة.
ويكمل الزائر مشواره متنقلاً بين عروستين إحداهما ترتدي الأبيض والثانية مغطّسة بالأسود. هما دلالة على خياراتنا المتحكمة بطريقنا. نفلح في اجتيازها بنجاح أحياناً، ونفشل فيها أحياناً أخرى.
وتسأل «الشرق الأوسط» أليدا طربيه اللبنانية - الفنزويلية، عمّا دفعها للقيام بهذه الوقفة مع الذات، وترد: «شعرت بضرورة التوقف لأتمكن من خلع الأقنعة. وساعدتني كلمات الشاعر ماتشادو في تنفيذ هذه الخطوة. حملت حقيبتي وعدت إلى لبنان. مواسم هجرة كثيرة عشتها، ولكن حنيني إلى بلدي غلبني. لقد رغبت في تحذير مجتمعاتنا من الإسراف بعيش حياة كاذبة. فنحن بخطر لأن الإنسانية تتسرّب منها كمياه تفلت من ثقوب منخل. إننا نخسرها بسرعة هائلة مع زحف التّطور التكنولوجي علينا. لذلك أدق ناقوس الخطر وأقول: (قفوا لاستعادة الإنسانية وإلا هلكنا)».
تشدّد أليدا طربيه في منحوتاتها على ضرورة التصالح مع النفس: «إنها نتاج تجارب شخصية مررتُ بها وتوقفت عند كل واحدة منها. تصوري أنني نفذت هذه المنحوتات بظرف ستة أشهر. كنت كمن يحمل الأثقال ويرغب في التخلص منها. وبالفعل شعرت بالراحة وتخلّصت ممّا كان يحجب عني الرؤية الواضحة».
ومن القطع الفنية اللافتة في المعرض «المتوازيان»، اللذان يشيران إلى ازدواجية هويتنا المتمثلة في أقنعة نرتدي الواحد منها تلو الآخر، في مواقف عدة.
في رحلة العودة إلى الذات تختلط موضوعات كثيرة، من بينها المطالبة بالاختلاف والنضال من أجل الحرية، كما تحضر المواجهات والتحديات، وتطل على ذكريات ومراحل حياة، وتوعي فينا أفكاراً مختلفة من آراء وعقائد ومبادئ وديمقراطيات زائلة. تتبنى أليدا نهجاً يهدف إلى التذكير بأن الديمقراطيّات والحريات مهدّدة بشدّة، إن لم ندافع عنها. وتلملم قطع «البازل» الخاصة بمشوارها لتنهي المعرض بمنحوتات «التوأم» و«الوجه» و«قبضة اليد».
وتختم أليدا طربيه لـ«الشرق الأوسط»: «بغض النظر عن الصح أو الخطأ، والحلو والمر في حياتنا، فإننا مطالبون اليوم بالالتفات إلى مصايرنا على كوكب الأرض. ولادة جديدة لأعماقنا تساهم في الغوص بذاتنا، ومعها نستطيع الوصول إلى برّ الأمان».