الرياض بقيادة سلمان... من مركز للأرستقراطية القبلية إلى وجهة للعالم المتحضر

وُلدَ فيها وحكمها... وانطلق منها ملكاً لبناء دولة المستقبل

الملك سلمان قاد الرياض عندما كان أميراً لها إلى التحول الكبير الذي طرأ على المدينة خلال أكثر من نصف قرن (دارة الملك عبد العزيز)
الملك سلمان قاد الرياض عندما كان أميراً لها إلى التحول الكبير الذي طرأ على المدينة خلال أكثر من نصف قرن (دارة الملك عبد العزيز)
TT

الرياض بقيادة سلمان... من مركز للأرستقراطية القبلية إلى وجهة للعالم المتحضر

الملك سلمان قاد الرياض عندما كان أميراً لها إلى التحول الكبير الذي طرأ على المدينة خلال أكثر من نصف قرن (دارة الملك عبد العزيز)
الملك سلمان قاد الرياض عندما كان أميراً لها إلى التحول الكبير الذي طرأ على المدينة خلال أكثر من نصف قرن (دارة الملك عبد العزيز)

كان هاجس الملك عبد العزيز عندما استقرت الأمور في بلاده وجعل الرياض عاصمة لها، أن يحولها إلى مدينة عصرية تليق ببلاده الناشئة فوقع اختياره على ابنه الأمير سلطان ليكون أميراً لمدينة الرياض وذلك عام 1946، وكان من أهم المشروعات التي أخذت الأولوية في ذلك الوقت هو إجراء أول إحصاء رسمي للمواطنين والسكان، إضافة إلى تقسيم مدينة الرياض إلى عدة مناطق، ووصلت عام 1952 إلى عشر مناطق، وقد تولى إمارة منطقة الرياض على التوالي كل من: الأمير ناصر بن عبد العزيز، والأمير سلطان بن عبد العزيز، والأمير نايف بن عبد العزيز، وفي يوم الثلاثاء 11 رجب عام 1373هـ، صدر أمر ملكي بتعيين الأمير سلمان بن عبد العزيز (حينها)، أميراً لمنطقة الرياض بالنيابة، تلاه أمر ملكي في 25 شعبان من عام 1374هـ، بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض.

العاصمة السعودية أصبحت من أكبر مدن العالم توسعاً وسرعة في النمو (الشرق الأوسط)

قاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عندما كان أميراً للرياض خلال ما يقارب من 6 عقود، التحول الذي طرأ على العاصمة التي تعد أسرع مدن العالم نمواً، حيث تحولت خلال هذه الفترة من بلدة صغيرة تحيطها الأسوار إلى مدينة عصرية وأضحت إحدى الحواضر ذات التأثير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي خلال العصر الحالي ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي.

نمو متصاعد

شهدت الرياض معدلات نمو متصاعدة في مختلف القطاعات فاقت ما هي عليه في المدن السعودية الأخرى، بعدّها العاصمة السياسية والتجارية والمالية للبلاد، وقد تداخلت عوامل عديدة في زيادة القدرات المتعددة في مختلف القطاعات الخدمية والاقتصادية للمدينة، منها النمو السكاني الكبير، وتزايد الفرص الوظيفية مما يدعم نمو الطلب على السلع والخدمات، إضافة إلى موقع الرياض الذي يتوسط البلاد وموقعها المتميز في وسط سوق إقليمية كبيرة، كما أن الرياض أصبحت وجهة عالمية لصناع القرار السياسي والاقتصادي ومقراً لشركات عالمية وجاذبة للمستثمرين.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم بالرياض في نوفمبر 2022 (واس)

تجاوزت مساحة عاصمة السعودية كثيراً من الدول، حيث تبلغ مساحة نطاق العاصمة السعودية العمراني أكثر من ألفي كيلومتر مربع، وتجاوز سكان الرياض الملايين الخمسة في الوقت الحالي بعد أن كان عدد سكانها في عام 1862 لا يتعدى 8 آلاف نسمة، في حين وصل عدد سكان المدينة حالياً نحو 10 ملايين نسمة، وقاد الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تولى إمارة المنطقة قبل أكثر من 6 عقود العاصمة السعودية إلى آفاق رحبة وإنجازات غير مسبوقة في المدن الحديثة، حيث دفعه عشقه الخاص للرياض لتكون مدينة متميزة وعروساً وسط الصحراء.

وقبل أكثر من 4 عقود من اليوم وفي كلمات تؤكد الارتباط العميق لسلمان بن عبد العزيز بالرياض، قال قائد تحول المدينة، عن ذلك: «لا أتخيل نفسي بعيداً عن مدينة الرياض حتى لو لم أكن موجوداً فيها، فالرياض بالنسبة لي الوطن والتاريخ الماضي والحاضر والمستقبل والأمل، منها قام والدي المغفور له الملك عبد العزيز بوثبته العملاقة الكبرى التي غيرت مجرى تاريخ الجزيرة العربية حينما وحّد شتات هذه الأقاليم التي لعب الجهل والتخلف والإقليمية أدواراً كبيرة في تمزيقها وتفريقها حتى جاء البطل، ليصنع من هذه الأقاليم أعظم وأقوى وحدة في تاريخ العرب الحديث، فيها ولدت وترعرعت وتربيت على يد الملك العظيم الذي غرس في قلبي وقلوب أبنائه حب الوطن والتفاني من أجله، عشت زهرة الشباب وأنا أرى وألمس حكمة القائد وحسن أدائه وعلو مكانته محلياً ودولياً حتى أثر ذلك في نفسي، وتعلمت من سيرته الكثير، تسلمت مسؤولية إمارتها، وشهدت خطواتها خطوة خطوة، وتسلمت مسؤولية تطويرها، وخلال هذه المدة الطويلة تابعت سياسة التطوير، وكان لي شرف الوقوف على تنفيذها، وشهدت كل خطوة حضارية خطتها مدينة الرياض، ومن هنا يصعب علي أن أفكر أن أكون بعيداً عنها حتى لو كنت خارجها، عندما أكون خارج المدينة داخل المملكة أو خارجها فأنا أعيش معها ولها. وفي الحقيقة فأنا عندما أغيب عنها أظل أتخيلها، أعمالها، تصريف شؤونها، شوارعها، حدائقها، ملاعب الأطفال فيها، مدارسها، مستشفياتها، كل شؤونها، كل ركن أو زاوية فيها يعيش معي في تفكيري في قلبي في جوارحي، أحس أنني موجود في كل زاوية من زواياها، وأنني أتابع خطوة خطوة كل حركة فيها وكل مشروع، يدفعني الحب لها ولأهلها ولولاة الأمر فيها، فهي الرياض مدينتي وهي الرياض عاصمة المملكة الحبيبة. وكل قرية ومدينة في بلادي عزيزة وغالية، ولها في نفسي أسمى مكانة وأرفع موقع، إن مسؤولاً بمثل مسؤوليتي لا يستطيع ولو للحظة أن يكون جسمانياً غائباً عنها، فهي تعيش معي وأعيش معها، وهي أمام عيني في كل لحظة، وإذا اضطرتني ظروفي إلى مغادرتها مدة تقصر أو تطول فأنا دائم التفكير فيها، ولها كثير من الشوق، وأنا حريص على سرعة العودة لمتابعة شؤونها والإشراف على تطويرها من قرب ومعالجة الأمور فيها».

جذور تاريخية

تعد الرياض من أقدم مناطق الاستيطان البشري في الجزيرة العربية، حيث أكدت المراجع التاريخية والآثار والحفريات وجود مدينة ذات جذور ضاربة في أعماق التاريخ، ولعل أقدم المراجع التاريخية المدونة عن المنطقة التي تعود إلى عام 715 قبل الميلاد، تشير إلى وجود مدينة تسمى «حجر»، كانت عاصمة لإقليم «اليمامة»، الذي كان يضم العارض والحوطة والحريق وسدير والمحمل والأفلاج وغيرها من مناطق وسط الجزيرة العربية.

خادم الحرمين الشريفين يرعى حفل تدشين وإطلاق مشاريع الرياض التنموية في فبراير 2019 (واس)

وارتبط اسم حجر بقبيلتي طسم وجديس، وهما من العرب البائدة، وتركت القبيلتان آثاراً تمثلت في الحصون التي شيدت في إقليم اليمامة وواديها الشهير «وادي حنيفة»، المعروف تاريخياً بوادي العرض. وهلكت القبيلتان، وحلّ محلهما في المنطقة بنو حنيفة، وأصبحت حجر مقراً لوُلاتها وسوقاً من أسواق العرب يفدون إليها للتجارة والمفاخرة والمنافرة، وقد ازدهرت حجر التي تقع بين وادي الوتر (البطحاء)، ووادي العرض (حنيفة)، في أيام قبيلة بني حنيفة، وظلت على هذه الأهمية في العهود الإسلامية المتعاقبة حتى العهد العباسي.

وضعت حجر اسمها بوصفها محطة رئيسية على درب القوافل المتنقلة بين أقاليم الجزيرة العربية المزدهرة في تلك العهود؛ وهي البصرة والكوفة في الشمال، والبحرين في الشرق، والحجاز في الغرب، ونجران واليمن في الجنوب الغربي.

ورد ذكر مدينة حجر ووصفها في الشعر الجاهلي ولدى الرحالة والمؤرخين والجغرافيين على مدى القرون الـ15 الماضية، وظل اسمها مستمراً حتى فقدت المدينة قيمتها في القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري)، وتناثرت إلى قرى صغيرة أشهرها مقرن ومعكال والعود وجبرة والصليعاء والخراب التي كانت من قبل من محلات مدينة حجر، وبعدها تحولت المدينة إلى اسم الرياض، ولم يتبق من اسم حجر سوى قصر فيه نخل على وادي البطحاء لينحصر الاسم في بئر ذلك النخل تُعرف إلى وقت قريب بـ(بئر حجر)، تم ردمها، ويمر بها حالياً شارع الملك فيصل، كما ذكر ذلك علامة الجزيرة الشيخ الراحل حمد الجاسر في كتابه الشهير «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ».

أحداث سياسية واجتماعية

لطالما شهدت الرياض أحداثاً سياسية واقتصادية واجتماعية ذات أهمية تاريخية، فقد شهد موقع المدينة الحالي وجوداً بشرياً منذ نحو ربع مليون سنة، مما يؤكد أن هناك عنصر جذب بشرياً للاستيطان في المنطقة، وهو ما جعل وادي حنيفة يمثل أفضل المواقع للاستيطان، وقد اكتسبت المدن التي قامت على ضفاف وادي حنيفة غناها من طبيعة أرضها الزراعية ووقوعها على طريق مرور البضائع من المحيط الهندي وجنوب غربي الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب والبحر المتوسط، وذلك خلال عهد الإمبراطورية الرومانية.

خادم الحرمين الشريفين لدى إطلاقه مشاريع نوعية كبرى بـ 86 مليار ريال في مدينة الرياض خلال مارس 2019 (واس)

تعاقب على زعامة اليمامة وبلدانها ومنها حجر، منذ القرن الخامس الميلادي وبعد زوال طسم وجديس، بنو حنيفة، الذين أعادوا عمارة بلدان وادي العرض واليمامة، وخضعت اليمامة لإمبراطورية الحارث بن عمرو، حفيد الزعيم الكندي حُجر، الملقب بـ«آكل المرار»، ثم توالت الأحداث بعد مغادرة كندة اليمامة وتمزق اتحادها ليتولى بنو حنيفة أهل البلاد المقيمون تسيير أمورهم ويسيطروا على حجر وبلدان العرض الذي أصبح يعرف بعد ذلك بوادي حنيفة، وجعلوا من اليمامة أكبر منطقة إنتاج زراعي في كل الجزيرة العربية، خصوصاً محصولي التمر والقمح، لدرجة تصديرهما إلى أماكن بعيدة مثل مكة المكرمة، وبرزت في هذه الأثناء الخضرمة (الخرج حالياً) بوصفها أكبر بلدان بني حنيفة التي تقع إلى الجنوب الشرقي من حجر (الرياض حالياً).

ووقتها كانت حجر تشق طريقها للتطور بوصفها عاصمة دولة ناهضة أقرب منها إلى مركز لأرستقراطية قبيلة حاكمة فقط، وظلت حجر عاصمة لإقليم اليمامة خلال فترات القوة في عهدي الدولتين الأموية والعباسية.

تعاقبت أحداث على حجر واليمامة منذ أواخر القرن التاسع وحتى القرن السابع عشر الميلادي، لكن الذي يهمنا في ذلك أن المصادر بدأت تطلق اسم الرياض خلال القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، على البساتين والبلدات المحيطة بمقرن، وهي بلدة رئيسية فيما يعرف في السابق بحجر، وأصبحت الرياض عاصمة للدولة السعودية الثانية تحت لواء الإمام تركي بن عبد الله، بعد أن كانت تابعة لحكم الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكانت أبرز أعمال الإمام تركي بن عبد الله في الرياض، إعادة بناء قصر الحكم، والجامع الكبير، وترميم أسوار المدينة، وفي عهد الإمام فيصل بن تركي تواصل الاستقرار السياسي وعمّ الرخاء المنطقة.

محطة مهمة

يعد عام 1319هـ، محطة مهمة في تاريخ الرياض، حيث شهد دخول الملك عبد العزيز المدينة ومنها انطلق لتوحيد معظم أرجاء شبه الجزيرة العربية، وأرسى قواعد الكيان الكبير لتصبح الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية.

خادم الحرمين الشريفين يرعى حفل تدشين وإطلاق مشاريع الرياض التنموية في فبراير 2019 (واس)

لقد كان الاستقرار السياسي ووحدة الحكم الذي شهدته المدينة من أهم العوامل التي مهدت لدخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري. وضمن النطاق الزمني 1319 ـ 1373، تتميز مرحلتان مهمتان في تاريخ تطور الرياض الحضري، الأولى من عام 1319هـ، إلى 1350هـ، حيث تميزت هذه المرحلة بتحول الرياض إلى قاعدة عسكرية لخدمة المجهود الحربي لتوحيد البلاد، وتأسيس الدولة، مما أثر في بقية الجوانب التنموية الحضرية في المدينة، غير أن هذه المرحلة شهدت أعمالاً عمرانية قام بها الملك عبد العزيز، تمثلت في إعادة بناء أسوار الرياض، فغدت أكثر تحصيناً، وزود السور بالأبراج الدفاعية التي وصل ارتفاع بعضها إلى 12 متراً، كما أصبح للرياض 6 بوابات فقط، وهي: بوابة الثميري، بوابة الظهيرة، بوابة البديعة، بوابة الشمسية، بوابة دخنة، بوابة المريقب، كما قام الملك المؤسس بإعادة قصر الحكم وأضاف إليه قصوراً أخرى للضيافة والحاشية، أما حصن المصمك فأسندت إليه بعض المهام الإدارية، واستُخدم مخزناً للمؤن والعتاد الحربي.

أما ثالث العناصر الأساسية في منشآت مدينة الرياض، فكان الجامع الكبير، الذي لم يطرأ عليه تغيير عما كان عليه.

شكلت الرياض في تلك المرحلة نموذجاً للمدينة الإسلامية المسورة التي تجتمع في مركزها المباني العامة كقصر الحكم والجامع والسوق الكبيرة، كما شُكّلت الشوارع الممتدة من بوابات المدينة إلى ساحة الصفاة، ووسط المدينة والشوارع الرئيسية، والحدود الفاصلة بين أحياء المدينة.

وحتى نهاية تلك المرحلة، لم تستخدم في بناء المساكن مواد جديدة، بخلاف ما اعتادت عليه المدينة من استخدام الطين مادةً أساسية للعمارة، والحجارة في بناء الأعمدة، والأثل وسعف النخل في سقوف المنازل، كما تشابهت جميع المباني في التصميم العمراني من حيث توزيع الغرف حول الفناء الداخلي واستخدام مفردات العمارة المحلية كالطرم، والحداير، والأروقة الداخلية، غير أن ما تميزت به هذه المرحلة كان ازدهار أسواق المدينة نتيجة للاستقرار السياسي وتحولها إلى عاصمة للبلاد، ومن هذه الأسواق التي ظل بعضها قائماً إلى وقت قريب: سوق أشيقر الواقع غرب الجامع، سوق الحساوية المخصص للثياب، سوق الجفرة لبيع المواد الغذائية، حراج بن قاسم الذي انتقل إلى جنوب الرياض فيما بعد، سوق السدرة نسبة إلى سدرة في الموقع، سوق المقيبرة للخضار والمنتجات الزراعية، سوق القناعي.

وقد قدر سكان الرياض في نهاية تلك المرحلة بنحو 19 ألف نسمة.

خادم الحرمين الشريفين في قصر الحكم بمدينة الرياض في فبراير 2019 (واس)

أما المرحلة الممتدة بين عامي 1350هـ و1371هـ، فقد حفلت بقسط وافر من التغييرات العمرانية والمدينة التنظيمية، فكان لإعلان الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية دور في النهوض بمستوى الخدمات البلدية، حيث أسست بلدية الرياض عام 1358هـ. كما أنشئ مجمع قصور المربع قبل ذلك التاريخ بعام خارج أسواق المدينة إلى الشمال، وكان مؤشراً لاتجاه نمو المدينة نحو الشمال، وبداية توسع العمران خارج الأسوار، وأقيمت أحياء الفوطة، والشميسي، والمربع، في مناطق المزارع بين قصر المربع وأسوار المدينة، كما ظهر حي الحلة إلى الشرق من وادي البطحاء، وازداد توسع المدينة في ذلك الاتجاه، وظهر حي حلة القصمان لاستيعاب الهجرة المتزايدة، وانتشر العمران في الاتجاه الغربي، وظهر حي أم سليم والشميسي، وفي الجنوب ظهر حي عتيقة، وذلك لاستيعاب الهجرات المتزايدة إلى المدينة من جميع الاتجاهات، وارتفع عدد سكان المدينة قبل 59 عاماً، إلى 83 ألف نسمة، وبلغت المساحة المعمورة 13 كيلومتراً مربعاً، بعد أن كانت لا تتجاوز كيلومتراً مربعاً واحداً فقط، وقد أدت هذه التطورات العمرانية المتسارعة إلى حدث عمراني مهم على مستوى المدينة تمثل في قرار إزالة الأسوار. كان الملك عبد العزيز في هذه المرحلة يتولى تصريف شؤون المدينة بشكل مباشر، وفي أثناء غيابه كان والده الإمام عبد الرحمن الفيصل يتولى المهمة، وبعد وفاته عام 1347هـ، كان الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن تركي، يتولى إدارة شؤون المدينة، ثم أصبح الأمير سعود بن عبد العزيز ولي العهد هو مَن يتولى تصريف شؤون المدينة، وفي أثناء غياب الملك وولي عهده، كان يعهد بذلك إلى محمد بن زيد أحد موظفي الدولة.

بقي القول إن الرياض باتت الآن عاصمة ليست للسعوديين وحدهم، بل امتد أثرها ليصل إلى العالم، من ثقافة ومسرح وفنون، وباتت قبلة عصرية تقصدها كبرى شركات العالم ونجومه، وحاضنة لكبرى المشاريع والحدائق ووسائل النقل الحديثة، لتختزل قصة السعودية الحديثة، ورؤيتها لمستقبل أكثر ازدهاراً، داخل البلاد وخارجها.


مقالات ذات صلة

60 شاحنة إغاثية سعودية تتجه إلى سوريا

الخليج القوافل الإغاثية السعودية في اتجاهها إلى سوريا (مركز الملك سلمان للإغاثة)

60 شاحنة إغاثية سعودية تتجه إلى سوريا

واصلت السعودية عطاءها الإنساني اللامحدود للسوريين، حيث اتجهت من العاصمة الرياض، السبت، 60 شاحنة إغاثية تحمل على متنها مساعدات متنوعة إلى سوريا.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء (الشرق الأوسط) play-circle 00:54

السعودية تجهّز «مجمع الملك سلمان» ليصبح موطناً لتصنيع السيارات المستدامة عالمياً

جاء إعلان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، إطلاق تسمية «مجمّع الملك سلمان لصناعة السيارات» ليصبح موطناً لتصنيع المركبات.

بندر مسلم (الرياض)
الخليج أفراد من خدمات الطوارئ في موقع الحادثة الثلاثاء (أ.ف.ب)

خادم الحرمين وولي العهد يُعزيان في ضحايا إطلاق نار بالسويد

بعث خادم الحرمين الشريفين وولي العهد برقيتي عزاء ومواساة، لعاهل السويد إثر حادثة إطلاق نار بمدرسة في بلاده.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الهيئة دعت إلى الاستفادة من القواعد بصفتها إحدى صور العدالة الرضائية (الشرق الأوسط)

السعودية تقرّ قواعد إجراء التسويات مع مرتكبي جرائم الفساد

صدر أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالموافقة على قواعد إجراء التسويات المالية مع مرتكبي جرائم فساد من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)

خاص سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

عمل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في خدمة بلاده لما يربو على سبعين عاماً عاصر خلالها ما مرَّت به السعودية من تحديات وتطورات.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
TT

سلمان... ماذا سيكتب التاريخ؟

الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)
الملك سلمان في مكتبه إبان توليه منصب وزير الدفاع السعودي (مؤسسة التراث)

بنى الملك عبد العزيز مجداً لأمته بتوحيد أراضي جزيرة العرب وحماية محيطها، وتأسيس دولته الحديثة امتداداً لدولة أسلافه التي أعادت للعرب مكانتهم وهيبتهم بعد قرون من التفرق والشتات. كانت مهمته شاقة وعسيرة استلزمت تضحيات وواجهت تحديات، إلا أن المهمة الأصعب التي ورثها أبناء عبد العزيز حين توفي عام 1953 (1373هـ)، هي الحفاظ على استقرار البلاد.

كانت السنوات التي تلت وفاة الملك المؤسس مليئة بالتحديات والأزمات ومحاولات زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من ذلك كانت أعوام بناء لكثير من مؤسسات الدولة ومرافقها، وتوسعات للحرمين الشريفين وعمران للمدن، وتطور للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، والطرق والمواصلات، وبناء الإنسان. كان الشغل الشاغل لقادة المملكة المحافظة على الأمن والاستقرار مع تنمية البلاد وتلبية حاجات إنسانها ونقلها إلى مصافِّ الدول المتقدمة، وكان لهم ذلك.

محاولات زعزعت الاستقرار خطَّطت لها حركات تحمل الآيديولوجيات اليسارية من ماركسية وشيوعية وبعثية وناصرية وقومية، لكنها تصف نفسها بالوطنية. كانت هناك عدة محاولات تستهدف نظام الحكم السعودي، جرى معظمها في الفترة ما بين 1954 و1969، ولنا أن نتخيل لو نجحت أي منها: كيف سيكون العالم اليوم من دون المملكة العربية السعودية؟ وكيف سيكون وضع الحرمين الشريفين؟ وما حال أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الأمن والسلم العالميين؟ وماذا عن الأمن والاستقرار في الجزيرة العربية والخليج؟ خصوصاً عندما نرى ما حلَّ ويحلّ بدول محيطة، وتتوالى الأسئلة: ماذا لو لم يوحِّد عبد العزيز (الكيان الكبير)، كما يحلو للمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان أن يسميه؟ وماذا لو لم يحافظ على هذه الوحدة أبناء عبد العزيز؟

لقد كانت هذه التوطئة ضرورية لإدراك دور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في خدمة الكيان الكبير لما يربو على سبعين عاماً، ومعاصرته ما مرَّت به البلاد من تحديات وتطورات، ومع ذلك لا يمكن لصفحات كهذه الإحاطة بسيرة ومسيرة الملك سلمان بن عبد العزيز، لكن التوقف عند بعض المحطات والمواقف قد يُلقي الضوء على جوانب من شخصيته ورؤيته، ويفسر ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية تحت قيادته:شرف الخدمة.

خادم الحرمين الشريفين يرأس أعمال القمة الافتراضية لقادة دول مجموعة العشرين

لم تشر المصادر إلى تولي سلمان بن عبد العزيز أي منصب رسمي في عهد والده، وهو ينظر إلى الخدمة العامة على أنها واجب مَن تُسند إليه المسؤولية، «لأن الوطن أعطانا الكثير والكثير، لذا يجب ألا ننسى واجبه علينا». في حفل افتتاح مركز (الأمير) سلمان الاجتماعي في الرياض الذي أُقيم تحت رعاية الأمير سلطان بن عبد العزيز عام 1997 (1417هـ) ارتجل (الأمير) سلمان كلمة مؤثرة قال فيها:

«لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرما... لأنني أعتقد أن الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه... أنا لم أقدم لهذه المنطقة أو لهذه البلاد شيئاً من عندي؛ بل كنت خادماً لملوك هذه البلاد، وكنت أتمنى أن أخدم والدي الملك عبد العزيز رحمه الله (قالها بتأثر واضح)، لكنني تمكنت من خدمة ديني وبلادي تحت إشراف الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد وولي عهده (الأمير) عبد الله، لذلك عندما طُرحت (الفكرة) وجاءني بعض الإخوة، رفضت فعلاً... وعندما جاءوني مرة أخرى وعرفت أن المشروع ليس تكريماً في مظهر؛ بل لإقامة عمل يخدم هذه المدينة وأبناءها المتكونين من كل أنحاء المملكة، وافقت، وهذا واجب عليّ...»، وهو هنا يشير إلى الفكرة التي جرى تداولها لتكريمه بمناسبة مرور 40 عاماً على توليه إمارة الرياض، وما تحقق من إنجازات. القصة طويلة وتفاصيلها كثيرة لكنَّ هذا الموقف يُظهر فلسفة خادم الحرمين الشريفين ونظرته إلى الخدمة العامة وأنها شرف للشخص المكلف بها، علاوة على كونها مسؤولية، وهو ما أظهره طوال خدمته المتصلة لدولته وقيادته من تفانٍ فيما أُوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب على مدى سبعة عقود. يقول شقيقه الأمير سلطان: «سلمان خير مَن حكم وجاهد وعمل في مدينة الرياض، لقد كان قوياً بحكمة، حازماً برحمة، وكان وفياً لخدمة دينه وولي أمره وما وُلِّي عليه من شعب، لذلك لا يُستكثر عليه أي أعمال يقوم بها أو قام بها فعلاً». هذا التفكير في الاستدامة والأثر الذي يبقى من خلال الاستفادة من المناسبات الاحتفائية أو التاريخية لم يكن الوحيد، فكثير من المشروعات القائمة اليوم في الرياض، مثل: مكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي، من ملامح الفكر السلماني التنموي الذي يستثمر الفرص والمناسبات التي تتوفر للمدينة ويحوِّلها إلى مشروعات مستدامة.

الأمير والإمارة

ارتبط سلمان (الأمير حينها) بالرياض وارتبطت به، فهي المدينة التي عاش بين جوانبها صباه وشبابه، وعاشت في داخله طوال حياته، تولى إمارتها ثلاث مرات: الأولى تكليفاً بالنيابة عن أخيه نايف بن عبد العزيز، أمير الرياض وقتذاك، حيث أصدر الملك سعود أمراً ملكياً في 16 مارس (آذار) 1953 (11 رجب 1373هـ)، بتوليه إمارة الرياض بالنيابة عن الأمير نايف الذي سافر في رحلة علاجية. والثانية بعد استقالة الأمير نايف بسبب ظروفه الصحية، حيث صدر المرسوم الملكي يوم 18 أبريل (نيسان) 1955 (25 شعبان 1374هـ)، بقبول استقالة الأمير نايف وتعيين (الأمير) سلمان أميراً للرياض، واستمر في المنصب حتى استقالته في 21 سبتمبر (أيلول) 1960 (30 ربيع الأول 1380هـ). وفي 4 فبراير (شباط) 1963 (10 رمضان 1382هـ) صدر الأمر الملكي بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض للمرة الثانية التي استمرت لمدة 50 عاماً نقل الرياض خلالها نحو آفاق غير مسبوقة عمرانياً واقتصادياً وثقافياً.

خادم الحرمين الشريفين وولي العهد خلال حفل وضع حجر الأساس لمشروع بوابة الدرعية في نوفمبر 2019 (واس)

كانت إمارته للرياض تجربة فريدة في الحكم والإدارة والتنمية، فعلى مدى أكثر من نصف قرن ظل قريباً من قادة البلاد وشؤون الحكم، مطَّلعاً على الملفات ومشاركاً في اللقاءات ومبعوثاً للملوك، وتوسَّعت مهامه وازدادت وظائفه وكبرت مسؤولياته، وأصبح كبير مستشاري الملوك وعميد الأمراء وأمين سر الأسرة المالكة، يعرف أفرادها وتُحال إليه قضاياها ويحل مشكلاتها، وهذه في حد ذاتها مهمة ليست باليسيرة! وسأتوقف عند موقف رواه الدكتور عبد العزيز الثنيان الذي عمل عن قرب مع الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، يقول: «كنت ذات يوم في مكتب الأمير وأنا مدير تعليم الرياض، وكان في المكتب اثنان يعرضان للأمير المعاملات، وفجأة فتح الحارس باب المكتب ودخل أمير طويل القامة، حسن الصورة أحسبه في الـ40 من عمره، وحين رآه الأمير سلمان وقف على الفور ووقفنا وأنَّبه وقرَّعه ووبَّخه، واستمر في تأنيبه وتقريعه، ثم وضع الأمير سلمان يديه خلفه واستدار يمنةً ويسرةً، وعلا صوته، وقال: يا رجل أو تريد هدم المجد الذي بناه الملك عبد العزيز ورجاله؟! أو تريد تشويه الحكم والإمارة؟!

ووقف الرجل صامتاً فاغراً فاه مطأطئاً رأسه، والأمير سلمان يقرِّع ويؤدّب، ثم ختم الأمير سلمان حديثه بأن قال له: اخرج وأصلح ما خرّبت، وإياك أن تتصرف مثل هذا التصرف، واعلم أن خصمك ما تركك خوفاً منك، أو عجزاً عنك، ولكن تركك لأنه يعلم مكانتك ووجاهتك، ولكن اعلم أن مكانتك عندنا لا تسمح لك بالتعدي والتطاول. اخرج وأصلح ما أفسدت وإياك والعودة لمثل هذا التصرف، واعلم أن الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، القضاء مطهرة، والقضاء للجميع. وخرج الرجل يندب حظه».

تلخص هذه القصة أسلوب سلمان في الحكم؛ فلا فرق عنده بين أمير وغيره، وأن الانتساب إلى الأسرة مسؤولية قبل أن يكون شرفاً.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم في مدينة الرياض 10 نوفمبر 2022 (واس)

كانت معرفة سلمان عميقة برجالات الدولة، وآليات عمل أجهزة الحكومة وبيروقراطيتها، إضافةً إلى تواصله مع مكونات المجتمع من العلماء والوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال وغيرهم. علاوة على سعة معرفته بالمسؤولين المدنيين منهم والعسكريين، على اختلاف مستوياتهم ومناصبهم ورتبهم ومراتبهم، ناهيك بدقته في معرفة الأسر والقبائل والأنساب والعلاقات الاجتماعية.

ذلك كله وغيره جعل تجربته في إمارة الرياض متفردة، وإنجازاته متميزة، مما جعل الملك فهد يختاره لرئاسة اللجنة التي أعدَّت مسوَّدة مشروع نظام المناطق الذي صدر عام 1992 (1412هـ)، وما مكَّنه، إضافةً إلى ما يتمتع به من بُعد نظر وعمق سياسي وفكر بنَّاء، من إدارة الكثير من الملفات والقضايا المهمة داخلياً وخارجياً، وكان بالنسبة لإخوته الملوك «رجل المهمات الصعبة». كأن نجاحاته في الرياض كانت مقدمة إلى ما حققه عند قيادته البلاد.

أروقة السياسة

مع كل المهام الموكلة إليه في الإمارة، لم يقتصر عمله على إدارته لعاصمة بلاده وشؤون أسرة الحكم والملفات الأخرى التي تتطلب جهداً استثنائياً وعملاً دؤوباً؛ بل كان سلمان حاضراً ومشاركاً في أدق المراحل السياسية التي مرت بها المنطقة.

عرف خلال رحلته الطويلة الأحزاب والحركات والتيارات السياسية في العالم العربي وغيره وتعرف إلى ارتباطاتها وخلفياتها وعقائدها وزعمائها، وتعمق في فهم الخريطة السياسية للدول وتوازنات القوى في العالم.

أعباء الحكم

انتقل من إمارة الرياض صاعداً في سلّم الحكم، فتولى ملف الدفاع عن البلاد في عام 2011 (1432هـ) خلفاً لشقيقه الأمير سلطان، وبدأ في إعادة تنظيم وهيكلة الوزارة والقوات المسلحة السعودية ووضع أسس استراتيجية الدفاع الوطني، وهو ما عُرف لاحقاً ببرنامج تطوير وزارة الدفاع.

ثم في عام 2012 (1433هـ) اختاره الملك عبد الله لولاية العهد خلفاً لشقيقه الأمير نايف، وعيَّنه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة «الدفاع»، فكان خير معين لمليكه، سانده في حماية مكتسبات البلاد وحفْظ أمنها واستقرارها في فترة التقلبات والقلاقل في المنطقة، وناب عنه في فترة مرضه متحملاً مسؤوليات الدولة وأعباء الحكم. وطوال مسيرته العملية رأس عدداً من الهيئات واللجان والجهات ونال كثيراً من الأوسمة.

خادم الحرمين الشريفين يزور منطقة قصر الحكم بالرياض في نوفمبر 2022 (واس)

 

 

كل هذه التجارب والخبرات زادت من معرفته بأبعاد الأمن الوطني السعودي ومهدداته، كما جعلته ينظر نظرةً مختلفة إلى أهمية تماسك الأسرة الملكية كونها الضامنة لاستقرار الحكم ووحدة البلاد وأمن الدولة، وأن أبناء عبد العزيز وبعد ذلك أحفاده هم الأمناء على العرش.

من هنا كان سلمان يعرف أسس استقرار البلاد وأهمها ترتيبات مؤسسة الحكم، والتحديات التي تواجه نقل السلطة إلى جيل أحفاد عبد العزيز، فقام فور مبايعته ملكاً إثر وفاة الملك عبد الله يوم 3 ربيع الآخر (1436هـ)، 23 يناير (كانون الثاني) 2015، بتهيئة ثم تمكين جيل من الأمراء الشباب لتحمل المسؤولية.

أما الأمر الثاني، فكان التحديث السعودي الشامل؛ مواكبةً لمتغيرات المرحلة ومواجهةً لتحديات العصر.

حمل سلمان رسالة عبد العزيز وتعمقت في نفسه، مستشعراً أن مهمته ليس المحافظة على كيان الدولة وحفظ مصالحها فحسب؛ بل توفير احتياجات المجتمع السعودي وخدمة الأمة، تلك هي رسالة عبد العزيز التي حملها أبناؤه من بعده، وكان هاجس كل منهم أن يؤدي الأمانة كاملة كما تسلَّمها، لكن المفارقة أن كل ملك من أبناء عبد العزيز لم يُسلّم البلاد لخلفه كما تسلمها؛ بل أفضل من ذلك!

ودائماً ما تتجلى حكمة وحنكة الملك سلمان في الأوقات العصيبة والأزمات الطارئة. يقول الدكتور توفيق الربيعة: «إنه في أثناء جائحة كورونا وحينما توالى صدور قرارات وقف العمرة ثم الصلاة في الحرمين الشريفين، وشاهد الملك عبر التلفزيون الحرم فارغاً من المصلين حزن وقال: يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً في الحرم، يمكن للعاملين وموظفي شؤون الحرمين أن يجري فحصهم ويصلوا في الحرم، لكن يجب ألا توقَف الصلاة نهائياً. كان مهتماً جداً بمثل هذه التفاصيل، مهتماً بألا يُرى الحرمان فارغين وأبوابهما مغلقة بالكامل فأحبَّ أن يضع استثناءً للاستثناء».

لم أسعَ في يوم من الأيام لأن أكون مكرماً... الإنسان عندما يتولى المسؤولية فهو يعمل واجباً عليه

الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمة ارتجالية

إن سلمان هنا يستشعر مسؤوليته ليس بصفته ملكاً فحسب؛ بل بصفته إماماً للمسلمين أيضاً، لذا رأى العالم حرصه على إقامة شعائر الحج في بيئة منظمة وبأعداد محدودة خلال جائحة كورونا تعظيماً لشعائر الله واستشعاراً للمسؤولية والواجب الشرعي تجاه المسلمين من جهة، وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية من جهة أخرى.

لقد عاش سلمان تاريخ بلاده وشارك في بنائها وأسهم في استقرارها، ووعى المخاطر المحيطة بها، وعاصر تحولاتها وانخرط في تنميتها، وكان أحد أركان الدولة وأعمدتها، كما كان صماماً من صمامات مؤسسة الحكم، وركناً من أركان الدولة لنصف قرن أو يزيد؛ خدم ملوك البلاد في عهود إخوته سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، أميراً ووزيراً وولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وفي كل هذه المراحل كان سلمان أكبر من المناصب وأفخم من الألقاب.

عهد ورؤية

وبعد فهذا قليل من كثير عن سلمان بن عبد العزيز الإنسان والمسؤول، ويبقى الأكثر ليُروَى ويدوَّن، لكن المهم أنه حين ينظر السعوديون إلى عهد الملك سلمان فسوف يجدون أنه ضخ تجديداً في شرايين الدولة جعلها أكثر قوة وأقدر على مواكبة العصر والانطلاق نحو المستقبل وفق رؤية واضحة ونهج إصلاحي شامل. لقد كانت خبرات سلمان وتجاربه على مدى سبعة عقود في دواوين الحكم وأروقة السياسة ودهاليز الحكومة وتوازنات الأسرة، علاوة على معرفته بفضاءات الثقافة وقنوات الإعلام ومؤسسات الصحافة، وقربه من جمعيات البر وهيئات الإغاثة والعمل الخيري مطَّلعاً على التفاصيل وملمّاً بالملفات وعارفاً بخلفيات الأشخاص وتوجهاتهم وانتماءاتهم، مدركاً للأخطار التي تحيط بالبلاد والتحديات التي تواجه الدولة والمجتمع... كانت عصارة 70 عاماً أثمرت خططاً ورؤىً مختلفة لمعالجة المشكلات المؤجلة وحلحلة القضايا المعلَّقة، فإذا أضفنا إليها قوة الشخصية ووضوح الرؤية وسرعة اتخاذ القرار أدركنا كيف تم كل ذلك التجديد والإصلاح في أعوام قلائل.

خادم الحرمين الشريفين لدى ترؤسه إحدى جلسات مجلس الوزراء في أكتوبر 2020 (واس)

لقد كان أحد أهم القرارات التي اتخذها الملك سلمان، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، هو اختيار الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، ضمن رؤية الملك الشاملة لتجديد الدولة ونقل الحكم إلى جيل الشباب، وهي الخطوة الأكثر جرأة وجسارة داخل مؤسسة الحكم منذ تأسيس المملكة العربية السعودية.

أتى هذا الاختيار الذي قُدمت فيه المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ضمن رؤية الملك سلمان التجديدية الشاملة لمستقبل المملكة العربية السعودية، وستسطّر صفحات التاريخ أنه مَن قاد البلاد في هذه المرحلة السياسية بالغة الدقة والمنعطف التاريخي المهم، ونقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز، وأعاد هيكلة الدولة وتجديد شبابها، مع المحافظة على النهج الذي قامت عليه البلاد. وحين تُذكر قائمة إنجازات سلمان ملكاً سيكون هذا الاختيار أولها إن لم يكن أبرزها، لذا نرى هذه العلاقة التكاملية بين الملك وولي عهده، وهذا الدور الكبير الذي قام به الأمير محمد بن سلمان بمتابعة وتوجيه من والده ومليكه سلمان بن عبد العزيز، الذي كأنما أراد أن يكون هو على ضفة العبور وولي عهده على الضفة الأخرى لتأمين انتقال البلاد إلى المستقبل. تصعب الإحاطة بجميع جوانب سيرة الملك سلمان، كما يتعذر حصر كل ما حققه من إنجازات طوال مسيرته؛ أما ما تحقق للبلاد والعباد منذ توليه مقاليد الحكم، فبدأت بإصلاحاته المؤسسية خلال الأسبوع الأول من حكمه بصدور عشرات الأوامر التي كانت مؤشراً وعنواناً للرؤية التجديدية للدولة، من خلال إعادة هيكلة الحكومة بإلغاء اللجان والهيئات والمجالس المتعددة وإنشاء مجلسين؛ أحدهما للشؤون السياسية والأمنية، والآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية، وإدماج بعض الوزارات وضخ كفاءات شابة في شرايين الدولة.

خادم_الحرمين الشريفين لدى رعايته حفل وضع حجر الأساس لمشـروع القدية في أبريل 2018 (واس)

كانت تلك هي البداية التي استمرت لتطوير الأداء الحكومي وتسريع وتيرة العمل واستثمار الطاقات والكفاءات والرهان على الشباب. كان «الإصلاح الشامل» هو العنوان الأبرز لـ«الحكم السلماني» وجاء «التخطيط الاستراتيجي» سمةً فارقةً للمرحلة، إذ أعلن الملك سلمان أن هدفه الأول «أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على الأصعدة كافة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك». وبعد أن أدى المسؤولون الجُدد القَسَم أمامه قال إنه «يتمنى لهم التوفيق في أداء مهامهم لخدمة شعبنا الذي لن أقبل التقصير في خدمته».

المساءلة والشفافية ومكافحة الفساد برزت عناوين منذ البداية، ولو أردنا أن نلخص باقي العناوين العريضة للمرحلة لاحترنا؛ فمن تطوير القدرات العسكرية والدفاعية، إلى العناية بالأمن بمفهومه الشامل بما في ذلك الأمن الغذائي والسيبراني، ومكافحة التطرف والإرهاب، وتنظيم العمل الإغاثي والخيري، كما غدت الشراكات الاستراتيجية ملمحاً مهماً في السياسة الخارجية السعودية.

ثم أتى المشروع النهضوي الكبير (رؤية المملكة العربية السعودية 2030) ببرامجها ومبادراتها وحوكمتها ومستهدفاتها، فدخلت البلاد مرحلة التحول الكبرى اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ومُكّنت المرأة كما مُكّن الشباب، وسجلت الصحة والتعليم قفزات نوعية وتقدمت المملكة العربية السعودية في التعليم الإلكتروني وفي مجال الابتكار والتطوير. وجاءت استجابة الحكومة للتعامل مع جائحة كورونا في المركز الأول عالمياً، وقدمت أنموذجاً متفرداً في إدارة الأزمات.

خادم الحرمين الشريفين يطلق 4 مشروعات نوعية كبرى لامست 23 مليار دولار (86 مليار ريال) في مدينة الرياض عام 2019 (واس)

ووصف البنك الدولي الإصلاحات السعودية «من بين أفضل 20 بلداً إصلاحياً في العالم، والثانية من بين أفضل البلدان ذات الدخل المرتفع ودول مجموعة العشرين من حيث تنفيذ إصلاحات تحسين مناخ الأعمال». كما تقدمت في سلم الترتيب العالمي لمؤشر البنية التحتية الرقمية للاتصالات وتقنية المعلومات، وصُنفت ضمن المراتب العشر الأولى عالمياً في سرعة الإنترنت. وحققت المركز الأول في التنافسية الرقمية على مستوى دول مجموعة العشرين. وفي المجال العدلي جرى تطوير الأنظمة والقوانين والبيئة التشريعية، حيث صدرت وعُدلت مئات الأنظمة واللوائح لمواكبة النهضة التشريعية التي تمر بها المملكة. كما حصلت وزارة العدل على جائزة «أفضل اتصال حكومي» على مستوى العالم العربي. وحُلحلت ملفات كان يُظَنّ فيما مضى أنه لا حل لها، كالبطالة والإسكان. أما القطاعات الأخرى: الطرق والنقل والصناعة والبيئة والثقافة والبلديات والتجارة والرياضة والسياحة والترفيه وغيرها، فحققت قفزات نوعية وإنجازات متعددة.

ونتيجة لكل ما تحقق من منجزات، حظيت المملكة بثقة عالمية جعلت منها إحدى الوجهات الأولى للمراكز العالمية والشركات الكبرى، ومراكز لنشاطات دولية متعددة في الرياضة والاستثمار والثقافة وبوابة تواصل حضاري، مما أسهم في اختيارها لاستضافة «إكسبو 2030»، وتنظيم كأس العالم عام 2034.

خادم الحرمين الشريفين يفتتح مشروع قطار الرياض في نوفمبر 2024 (واس)

لكن الثقة الأهم كانت ثقة الشعب السعودي بقيادته، وتقدُّم السعودية سنوياً في مؤشر السعادة العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يقيس مؤشرات السعادة والرفاهية وجودة الحياة.

لقد ترجم ولي العهد رؤى الملك وجعلها واقعاً معيشاً، وبطريقة مذهلة جعلت من سعودية اليوم شيئاً مختلفاً، ومع ذلك تظل امتداداً لما سبقتها من مراحل وليست منفصلةً عنها، يدل على ذلك الثبات على المبادئ والأسس التي قامت عليها الدولة والاتكاء على الإرث التاريخي والعمق الحضاري لها، كأن عهد سلمان هو المسار الذي ربط الماضي بالمستقبل والذي مزج بين مرحلتين تتمِّم إحداهما الأخرى وتكون امتداداً لها وتثبيتاً لدعائمها.

واليوم ونحن نكتب شيئاً من تاريخ سلمان، نقرأ في الوقت ذاته رؤيته وإنجازاته وهذه النهضة الكبرى التي يقودها للعبور إلى المستقبل، يقول الدكتور زين العابدين الركابي: حسب زعيمٍ من النجاح، أن يجتنب العواصف، ويغالب الأنواء وهو يقود سفينته إلى البر الآمن... أما أن يضيف إلى هذه المهمة الصعبة «رؤية تقدمية» في العمل والبناء فإن هذا هو النجاح «النادر» أو «الفريد».

وقبل الختام أود التأكيد أنني هنا قارئ لتاريخ ولست مدوناً لسيرة سلمان بن عبد العزيز، حرصت من خلال هذه القراءة على كتابة قبسات عن زوايا في حياته، وجوانب من مسيرته، وإضاءات عن بعض أدواره ومواقفه، أسطرها؛ وأتوجه من خلالها إلى الباحثين والمؤرخين أن ينقّبوا في ثنايا هذا التاريخ وأن يعتنوا بحثاً وتحليلاً بجوانب هذه السيرة، فسبعون عاماً في خدمة الدولة وفي أعلى المناصب ومن ثم قيادتها في واحدة من أدق المراحل ليست بالقصيرة ولا باليسيرة؛ بل تستحق أن يُحاط بها وأن تُتناول من جميع نواحيها.