الخليج... حدائق وسط حرائق

من هجمات «11 سبتمبر» إلى الانهيارات الكبرى

عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
TT
20

الخليج... حدائق وسط حرائق

عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)

من المقولات المقتبسة التي أفضّلها في تشخيص الواقع الذي عاشته المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية وتعيشه اليوم، ملاحظة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي، في كتابه المعنون «النظام العالمي: تأملات في شخصية الأمم ومسار التاريخ».

في هذا الكتاب، يناقش كيسنجر معركة البقاء بين الأمم؛ حيث يقول: «الشرق الأوسط يعيش نزاعاً يشبه النزاعات التي واجهتها أوروبا في القرن التاسع عشر من حروب دينية، نتيجة انهيار الدولة وتحويل أراضيها إلى قاعدة للإرهاب وتهريب السلاح، مما يؤدي إلى تفكك الدولة، وبالتالي تفكك النظامَيْن الإقليمي والدولي».

على مدار العقود الماضية شهدت المنطقة أحداثاً غير مسبوقة غيّرت ملامحها، وأثرت في بنية نظامها الإقليمي، كانت دول الخليج في قلب هذه الأحداث، ورغم التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية التي واجهتها، استطاعت الحفاظ على استقرارها الداخلي وترسيخ دورها المحوري في تحقيق التوازن الإقليمي، مما عزّز مكانتها بوصفها ركيزة أساسية للأمن والاستقرار في المنطقة.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)
هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

أولى حروب القرن

كانت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أولى حروب القرن التي غيّرت المعادلات الأمنية العالمية، وفرضت ضغوطات كبيرة على المنطقة من قِبل تنظيم «القاعدة» الإرهابي. شكّلت هذه الأحداث نقطة تحول حقيقية في جهود الدول في مكافحة الإرهاب والتطرف، ليس فقط على مستوى دول الخليج، بل على المستوى العالمي.

وقد تعرّضت السعودية ودول الخليج لسلسلة من الهجمات الإرهابية خلال العقود الماضية التي استهدفت أمنها واستقرارها. كان أشدها هجومين استهدف الأول مدينة ينبع الصناعية ومقر إحدى الشركات السويسرية، نفذه مصطفى الأنصاري أحد المنتمين لتنظيم «القاعدة» ممن شاركوا في صراعات بأفغانستان والصومال. أمّا الهجوم الآخر فكان في الخُبر؛ حيث استهدف مقار شركة «هلبيرتون» الأميركية النفطية ومجمعات سكنية، ما تسبب في اضطراب بأسعار النفط وتوتر الأوضاع الإقليمية.

استجابت دول الخليج لهذه التحديات عبر اتخاذ إجراءات صارمة في مكافحة الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله. ففي عام 2002، أقرت دول مجلس التعاون استراتيجية أمنية مشتركة لمكافحة الإرهاب، تضمّنت 6 عناصر رئيسة تحت عنوان: «الاستراتيجية الأمنية لمكافحة التطرف المصحوب بالإرهاب».

وفي عام 2004، تم توقيع الاتفاقية الخليجية لمكافحة الإرهاب خلال اجتماع وزراء الداخلية في الكويت، لتكون إطاراً قانونياً يدعم جهود دول المجلس ويعزّز التنسيق بينها. وفي عام 2006، تم إنشاء لجنة أمنية دائمة مختصة بمكافحة الإرهاب، تُعقد اجتماعاتها بشكل دوري للنظر في القضايا المتعلقة بالإرهاب وتعزيز التعاون الأمني المشترك. استطاعت دول الخليج بذلك أن تبني منظومة متماسكة تركز على التصدي للإرهاب وتمويله بآليات واضحة وتنسيق فعّال بين دوله.

جندي أميركي يغطّي وجه تمثال صدام حسين بالعلم الأميركي في ساحة الفردوس ببغداد في 5 أبريل 2003 (أ.ف.ب)
جندي أميركي يغطّي وجه تمثال صدام حسين بالعلم الأميركي في ساحة الفردوس ببغداد في 5 أبريل 2003 (أ.ف.ب)

مثّل غزو العراق في عام 2003 أحد أهم إرهاصات الحرب على الإرهاب؛ حيث كان زلزالاً هزّ منطقة الخليج وفتح فصلاً جديداً من الاضطرابات. فقد أدى سقوط نظام صدام حسين إلى فراغ أمني سمح بتصاعد القوى الطائفية وزيادة النفوذ الإيراني؛ مما زعزع الاستقرار الإقليمي. وعلى الرغم من رفض دول الخليج الغزو الأميركي للعراق وتأكيدها ضرورة احترام الشرعية الدولية، فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل مع تداعياته للحفاظ على استقرار المنطقة. فعلى الصعيد السياسي عبّرت عن قلقها من تصاعد النفوذ الإيراني وسعت لدعم وحدة العراق واستقراره، مؤكّدة التزامها بسيادته واستقلاله ووحدة أراضيه، ودعّمت العملية السياسية التي قادتها الأمم المتحدة، بما في ذلك الانتخابات التشريعية وإقرار الدستور، مع الدعوة إلى تشكيل حكومة شاملة تمثّل جميع أطياف الشعب العراقي.

أمّا على الصعيد الأمني فقد عملت على تعزيز قدراتها الدفاعية وتكثيف التعاون الاستخباراتي وتعزيز الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة لتحييد النفوذ الإيراني. كما عزّزت إجراءاتها لحماية حدودها واستقرارها الداخلي، والحدّ من تداعيات الفوضى على الأمن الإقليمي.

 

 

غزو العراق في 2003 أحد أهم إرهاصات الحرب على الإرهاب وكان زلزالاً هزّ الخليج وفتح فصلاً جديداً من الاضطرابات

انهيارات كبرى

عندما اجتاحت المنطقة موجة ما يُسمّى «الربيع العربي» في عام 2011، كانت دول الخليج على موعد آخر يختبر قدرتها على الحفاظ على أمنها واستقرارها الداخلي، وسط انهيارات كبرى في الأنظمة السياسية المجاورة بدءاً من تونس، مروراً بمصر وليبيا وسوريا، وانتهاءً باليمن.

أدت هذه الأحداث إلى إسقاط الأنظمة السياسية وتفكيك بنيتها السياسية والاجتماعية، ما خلّف فراغاً سياسياً كبيراً، وفي ظل غياب بدائل جاهزة لقيادة المجتمع، سادت حالة من الفوضى، مما أدى إلى تصاعد الاضطرابات والمظاهرات، ونتج عن ذلك بيئة مواتية لظهور جماعات إرهابية وتدخلات أجنبية تسعى لتحقيق مصالحها على حساب استقرار المنطقة.

كانت أهم مخاوف دول الخليج من هذه التغييرات تتمثّل في انتشار ما تسميه آيديولوجية الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وما قد يترتب عليه من تداعيات إقليمية. كان القلق الرئيس يدور حول صعود جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم في هذه الدول وإمكانية تصدير تأثيرها إلى دول الخليج مما يهدد استقرارها الداخلي.

تعاملت دول الخليج مع أحداث ما يُسمّى «الربيع العربي» برؤية استراتيجية عميقة وإدراك واعٍ لتحديات المرحلة، مما مكّنها من اتخاذ خطوات مدروسة حافظت على استقرارها الداخلي ودورها الإقليمي. فركّزت على تعزيز تماسكها الداخلي والتفاعل بحكمة مع المطالب الشعبية لضمان استقرارها والحفاظ على وحدة نسيجها الاجتماعي.

أمّا إقليمياً فقد لعبت دوراً محورياً في احتواء تداعيات الأزمات، عبر دعم الأنظمة الحليفة التي تأثرت بالاضطرابات، والتدخل المباشر في بعض الدول، مثل اليمن والبحرين، للحفاظ على استقرارها ومنع انتشار الفوضى.

وبعد مرور أكثر من عقد على هذه الأحداث، التي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن في كثير من دول المنطقة، استطاعت دول الخليج أن تحافظ على استقرارها وتبرز بوصفها قوة إقليمية تُسهم في دعم المنطقة واستقرارها ومواجهة حالة الفوضى التي نتجت عن هذه الاضطرابات.

تحديات «كورونا»

ما أن بدأت المنطقة تلتقط أنفاسها حتى اجتاحت جائحة «كورونا» العالم في عام 2020، حيث واجه العالم تحدياً غير مسبوق أعاد صياغة الأولويات الصحية والاقتصادية وترك تأثيرات طويلة الأمد على مختلف المستويات.

تميّزت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بتعاملها الاستثنائي مع هذه الأزمة. فمنذ اللحظة الأولى لظهور الفيروس اتسمت استجابة المملكة بالإنسانية والحزم، حيث قدّمت الرعاية إلى الجميع دون تفرقة مع توفير العلاج المجاني وتوسيع القطاع الصحي وإطلاق حملات تطعيم سريعة أشادت بها المنظمات الدولية.

كما أثبتت دول الخليج الأخرى كفاءة عالية عبر خطط شاملة لتعزيز بنيتها الصحية والتكيُّف مع الأزمة، مقدمة نموذجاً فعّالاً في إدارة الأزمات. اقتصادياً، تعاملت دول الخليج مع تداعيات «كورونا» بحزم اقتصادية، حيث أثبتت مرونتها عبر دعم القطاعات المتضررة وتنويع مصادر دخلها.

على الرغم من تأثير الجائحة على الاقتصاد العالمي وأسعار النفط، أظهرت دول الخليج استعداداً استباقياً من خلال استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، مثل «رؤية المملكة 2030» ومشروعات التنويع الاقتصادي في باقي دول الخليج. بذلك، أظهرت دول الخليج خلال مرحلة جائحة «كورونا» قيادة واعية وقدرة فائقة على التكيف، ما أسهم في حماية شعوبها وضمان استقرارها الاقتصادي والاجتماعي في ظل التحديات غير المسبوقة التي فرضتها الأزمة.

تواجه المنطقة حالياً موجة جديدة من التصعيد؛ خصوصاً في ظل الحرب في غزة ومخاطر توسع المواجهات وامتداد رقعة الصراع إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ما فتح الباب أمام تحديات وتهديدات جديدة.

احتلّت الأزمة في غزة ولبنان صدارة اهتمامات دول الخليج ومساعيها لوقف الحرب (وكالة الأنباء السعودية)
احتلّت الأزمة في غزة ولبنان صدارة اهتمامات دول الخليج ومساعيها لوقف الحرب (وكالة الأنباء السعودية)

حدائق وسط الحرائق

دول الخليج وسط هذه التوترات المتصاعدة ماضية في تأكيد قدرتها على التكيُّف من خلال طرح مبادرات دبلوماسية فعّالة وتعزيز التنسيق الدولي، ساعية إلى ترسيخ الاستقرار في منطقة تواجه الكثير من التحديات.

وفي إطار هذه الجهود، تحتل القضية الفلسطينية والحرب على غزة أولوية قصوى؛ حيث تؤكد دول الخليج ضرورة وقف الحرب و«جرائم القتل وتهجير السكان»، مع توفير الحماية الدولية للمدنيين الفلسطينيين. كما تدعم الجهود الدولية والإقليمية لإيجاد حل سلمي وفق «مبادرة السلام العربية»، وتحقيق حل الدولتين. أمّا في لبنان ومع تصاعد التوترات العسكرية مع «حزب الله»، فتواصل دول الخليج العمل ضمن خطة أشمل لتعزيز سيادة لبنان واستقراره، مستندة إلى التنسيق الدولي لضمان تنفيذ قرار مجلس الأمن «1701»، بما يُسهم في دعم الأمن والاستقرار ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع. كما تستعد دول الخليج للتعامل مع مرحلة ما بعد الأسد في سوريا، مستهدفة إعادة بنائها بوصفها دولة مستقرة وبعيدة عن التدخلات الإيرانية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. ويتطلب هذا الهدف تنسيقاً دقيقاً مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان استقرار دمشق والمنطقة بشكل عام.

يمكن القول إنه بعد مرور ربع قرن من التحولات الجذرية والتحديات المتعاقبة، أثبتت دول الخليج قدرتها على التحول إلى ركيزة أساسية للاستقرار في منطقة تعجّ بالاضطرابات فأصبحت بمثابة «حدائق وسط حرائق».

نجحت دول الخليج في تحقيق الأمن والاستقرار داخل حدودها، وامتدّ تأثيرها ليشمل محيطيها الإقليمي والعالمي، مما جعلها نموذجاً يُحتذى به في السعي نحو مستقبل أكثر استقراراً للجميع.

* باحث في العلاقات الدولية


مقالات ذات صلة

مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين «مجلس التعاون» وإندونيسيا تُستكمل في جولتها الثانية

الاقتصاد الجولة الثانية من مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا التي عُقدت في الرياض (واس)

مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين «مجلس التعاون» وإندونيسيا تُستكمل في جولتها الثانية

استكملت الجولة الثانية من مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا، سير المفاوضات التي بدأت خلال شهر سبتمبر الماضي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج جاسم البديوي أمين عام المجلس (التعاون الخليجي)

«التعاون الخليجي» يؤكد ضرورة دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه

أكد مجلس التعاون الخليجي ضرورة حل الدولتين، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، ودعم صموده على أرضه، ورفض أي إجراءات أحادية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد شاركت في النقاش نخبة من صانعي السياسات والخبراء والدبلوماسيين وقادة القطاع الخاص (SRMG)

صندوق النقد الدولي: السعودية تواصل إحراز تقدم كبير في الإصلاحات

يؤكد صندوق النقد الدولي أن السعودية تواصل إحراز تقدم كبير في الإصلاحات، مع استمرار الطلب المحلي القوي الذي يحافظ على نمو القطاع غير النفطي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
تحليل إخباري عامل يفحص وحدة طاقة شمسية بمصنع في الصين (رويترز) play-circle

تحليل إخباري فرص في سلاسل التوريد العالمية لمستقبل الطاقة الخضراء بالمنطقة

تتمتع منطقة الشرق الأوسط بموقع فريد يؤهلها لتصبح منتِجاً ومصدِّراً رئيسياً للمعادن الحيوية ومكونات الطاقة الخضراء، لكنَّ تحقيق هذا يتطلب استثمارات وابتكاراً.

جيسيكا عبيد
الاقتصاد ناقش المشاركون مرونة الاقتصاد وأولويات السياسات في دول الخليج (SRMG)

«SRMG Think» تناقش تقرير صندوق النقد حول اقتصادات الخليج

استضافت «SRMG Think» نقاشاً رفيع المستوى حول أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي عن دول الخليج، بمشاركة نخبة من صانعي السياسات، والخبراء، وقادة القطاع الخاص.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

0 seconds of 1 minute, 20 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
01:20
01:20
 
TT
20

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)

لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.

عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.

«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».

عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.

كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.

السجّان الصغير

اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.

طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.

كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.

«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.

لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.

شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)
شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)

فوضى ومساومات

على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.

فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.

ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.

«داعش» يهدد سوريا الجديدة

مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.

ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.

ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.

سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)
سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)

ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».

هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.

فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟

أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟

كابوس الماضي الثقيل

«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.

وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.

يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.

أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.

سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)
سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)

كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.

في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.

لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.

يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».

أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».

ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.

أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً

يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:

«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».

ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.

أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:

«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».

بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».

يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».

كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.

بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».

أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».

تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».

جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)
جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)

رسالة تجنيد من مجهول

على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.

يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».

مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».

وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.

وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».

سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)
سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)

المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا

تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.

يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».

أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».

أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».

حرب طويلة

من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.

يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».

قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.