ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

صفقات سرية مع المتهمين بالتخطيط للهجمات

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟


مقالات ذات صلة

«عملية غوانتانامو» لاحتجاز المهاجرين احتجزت أقل من 500 معتقل

الولايات المتحدة​ تجمُّع المهاجرين في قاعدة «غوانتانامو»... (نيويورك تايمز)

«عملية غوانتانامو» لاحتجاز المهاجرين احتجزت أقل من 500 معتقل

لم تتوسع العملية التي مضى عليها 3 أشهر، لتحقيق رؤية الرئيس ترمب بإيواء 30 ألف شخص في القاعدة البحرية الأميركية بغوانتانامو.

كارول روزنبرغ
الولايات المتحدة​ عمار البلوشي في صورة سابقة قدمها محاموه (نيويورك تايمز )

غوانتانامو: قاضٍ عسكري يُسقط اعترافات في قضية 11 سبتمبر بوصفها «انتُزعت تحت التعذيب»

أسقط قاضٍ عسكري، الجمعة، اعترافاً أدلى به متهم بالتآمر في هجمات 11 سبتمبر أمام عملاء فيدراليين عام 2007 في غوانتانامو، مؤكداً أن هذه الاعترافات كانت تحت التعذيب

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
الولايات المتحدة​ جندي سلفادوري يقف حارساً خلال جولة إعلامية في سجن مركز احتجاز الإرهابيين (CECOT) في تيكولوكا - السلفادور - 4 أبريل 2025 (رويترز)

ترمب لا يمانع نقل أميركيين إلى سجن للإرهابيين في السلفادور

أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه لا يمانع في نقل سجناء من مواطنيه إلى السلفادور، بينما أخفقت إدارته في تنفيذ حكم قضائي بإعادة مهاجر سلفادوري.

علي بردى (واشنطن)
الولايات المتحدة​ أرسلت الإدارة الأميركية نحو 400 رجل نصفهم على الأقل من الفنزويليين إلى غوانتانامو منذ فبراير كجزء من حملة الرئيس ترمب على الهجرة غير الشرعية (نيويورك تايمز)

واشنطن تنفق 40 مليون دولار لسجن نحو 400 مهاجر في غوانتانامو

وجه 5 أعضاء في مجلس الشيوخ، زاروا قاعدة خليج غوانتانامو بكوبا، انتقادات إلى المهمة المتعلقة بالمهاجرين، واصفين إياها بإهدار للموارد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
آسيا الملا هبة الله أخوند زاده زعيم حركة «طالبان» (أ.ب)

«طالبان» تعلن مقايضة سجينين أميركيَّين مقابل «مساعد بن لادن الخاص»

اعترفت «طالبان» باحتجازها سجينين أميركيَّين، مشددة على أنها لن تمنحهما حريتهما دون إطلاق سراح مواطن أفغاني (المساعد الخاص لأسامة بن لادن)، محتجز في غوانتامو.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد - كابل)

الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
TT

الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)

عدتُ إلى الولايات المتحدة في زيارة بعد انقطاع دام نحو العامين. قبل السفر، أرسلت لي صديقة أميركية وثيقة وضعتها الجمعيّة الأميركية لمحامي الاغتراب حول كيفية التعامل مع ما سمته «الواقع الجديد» عند نقاط الدخول إلى البلاد، الذي صار يشمل، كما ظهر في حالات تمّ تناقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قيام ضباط الهجرة والجوازات بتفتيش الأجهزة الإلكترونية للمسافرين. أما التدبير الأول الذي نصح به المحامون فكان استخدام أجهزة إلكترونية مخصَّصة للسفر تكون المعلومات الشخصية فيها قليلة. وتفسّر الوثيقة أنّ حاملي جوازات السفر الأميركية يمكن منعهم من الدخول إذا رفضوا مشاركة أجهزتهم وكلمات سرّها، بينما يحق للمواطنين رفض الإجابة عن الأسئلة، ولكن قد يؤدي ذلك إلى التأخير في إجراءات الدخول. تساءلتُ لدى وصولي إلى مطار شيكاغو عمّا يمكن أن يسألني عنه ضابط الهجرة، ورحت أستعد للإجابة، وكنتُ قد حصلت على الجنسية الأميركية منذ بضعة أعوام، ولكنه لم يسألني شيئاً.

الخوف في اليوميات

اكتشفت أن القلق الذي انتابني لدقائق معدودة في المطار يسود يوميات أصدقائي وزملائي السابقين الذين التقيتهم خلال زيارتي. حتى إنّ زميلةً أميركيةً (غير مجنّسة) أسرّت لي أنها في الآونة الأخيرة صارت تستفيق في منتصف الليل يؤرقها مستقبل الجامعة (نورثويسترن) ومستقبل عملها. فقد باشرت إدارة الرئيس دونالد ترمب منذ بداية ولايته بالتطبيق العملي لشعار رفعه نائبه جي دي فانس في 2021 هو «الجامعات هي العدو». وكان من أوّل الإجراءات التي اتخذتها تهديد جامعة كولومبيا في نيويورك بسحب التمويل الفيدرالي الذي تتلقاه والبالغ 400 مليون دولار.

طالبة أميركية مسلمة تضبط حجابها قبل الصعود إلى منصّة حفل التخرج من جامعة نيويورك في 15 مايو الجاري (رويترز)

هنا تلاقت اهتمامات الإدارة مع السيطرة على الجامعات، ومناهضة الحركات المناهضة لإسرائيل، واستهداف المغتربين كلها دفعة واحدة. إذ تمحورت معظم مطالبها حول ضبط حركات التظاهر الطلابية في حرم الجامعات، ومعاقبة المتظاهرين، خصوصاً المغتربين منهم، ووضع قسم «الدراسات الشرق أوسطية والأفريقية والجنوب آسيوية» في جامعة كولومبيا تحت «الوصاية الأكاديمية»، أي أنْ يخسر القسم استقلاليته وتراقبه الحكومة مباشرةً، في خطوة غير مسبوقة. وعملياً، انصاعت الجامعة لهذه المطالب.

كان من أبرز الاعتقالات التي نفذتها الإدارة الأميركية الجديدة إلقاء القبض على زعيم الحركة الاحتجاجية في كولومبيا، الطالب الفلسطيني محمود خليل، وهو لا يزال مهدَّداً بالترحيل مع أنه يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة.

ولم يكن اعتقال خليل في حد ذاته هو ما أخاف الكثيرين فحسب، بل ما أثار الذعر خاصّة كانت الطريقة التي اعتُقل بها. فقد جرى ذلك في مدخل البناية التي يعيش فيها، ومن دون تحذير أو تفسير وأمام زوجته الحامل، ومن عملاء رفضوا تعريف أنفسهم أو الجهة التي يمثلونها، ومن ثمّ اختفاؤه لأشهر في مركز اعتقال في مدينة في ولاية لويزيانا البعيدة عن مكان سكنه. وهي طريقة وصفها خليل بأنها أشبه ما تكون بالخطف.

تهديد وسحب أوراق

وخلال زيارتي تلقيت إيميلاً من طالب دكتوراه في إحدى الجامعات الخاصة في نيويورك (لن أحددها للحفاظ على هويته)، وهو كان ناشطاً في الحركة الداعمة لفلسطين في جامعته، يخبرني فيه أنه يفكر بمغادرة البلاد لاستكمال أطروحته خارج الولايات المتحدة، على الرغم من أنّه سوف يخسر بذلك تأشيرة الدراسة والمنحة المالية التي تقدمها الجامعة. وقال الطالب في رسالته، وهو من جنسية عربية: «لا أخرج من بيتي خوفاً من أن يعتقلوني في الطريق. أخاف من كل طَرْقٍ على الباب». تلك أيضاً عبارة قالها لي أستاذ جامعي آخر يحمل جنسيتين، إحداهما أوروبية، ولعب دور المفاوض بين المتظاهرين الطلاب والإدارة في جامعة أخرى، موضحاً أنه يخاف أن يخرج من بيته مع ولده الصغير حين تكون زوجته مسافرة في حال اعترضه موظفو الأمن لاعتقاله ولم يعرفوا ماذا يفعلون بالولد فيسلّمونه لجهات حكومية.

طالبة تحمل علماً فلسطينياً خلال تدريبات حفل التخرج بجامعة يال في ولاية كونيتيكت 19 مايو الجاري (رويترز)

وقالت أستاذة أخرى من جنسية عربية كانت داعمة للحركات الطلابيّة في جامعتها إنّ محاميها يحذّرونها باستمرار من أنّ نشاطها السياسي هذا قد يؤثّر على فرصتها لنيل الجنسية الأميركية التي تقدّمت لها منذ فترة. فقد ورد اسمها في الوثائق التي حضّرها الكونغرس حول المظاهرات والتي أدرجها تحت تهمة «معاداة السامية». وتنتظر الأستاذة الجامعية الآن المقابلة التي تسبق الحصول على الجنسيّة بكثير من التوّجس والقلق.

تذكير بـ«تيانانمين»

وليس المغتربون من أصل عربي هم وحدهم الخائفون. فإحدى طالبات الدكتوراه الصينيات التي تدرّس مساقاً أكاديمياً عن «الحركة النسويّة المعادية للاستعمار في الصين» قالت إنها حذفت من مقررها بعض المواد التي قد تعد «راديكالية»، خوفاً من أن يؤثر ذلك على فرصتها في تجديد تأشيرتها الدراسية.

طالبة أخرى كورية تخاف من أن تتحدث بلغتها الأم خارج المنزل خوفاً من أن يظنّ الطلاب اليمينيون في الجامعة التي تقع في ولاية ويسكونسون المحافظة أنّها صينية فيتنمّرون عليها. وأخبرتني هي نفسها عن صديقة أخرى تعرضت لإلغاء التأشيرة التي تسمح لها بالعمل بعد استكمال الدراسة بسبب مخالفة سير.

طالبة آسيوية تحتفل بتخرجها في جامعة بنسلفانيا بولاية فيلادلفيا 19 مايو الجاري (أ.ب)

وفي جامعة إنديانا، وهي ولاية محافظة أيضاً، يتم التحقيق مع أستاذ يهودي بتهمة انتهاك «التنوّع الفكري» بسبب انتقاده دولة إسرائيل في أحد الصفوف. وقد نقلت زميلة، وهي من جنسية أوروبية وتقيم منذ سنوات في أميركا وتعمل في جامعة نورثويسترن، وهي جامعة خاصة، أن الإدارة طلبت من الأساتذة والطّلاب عدم استخدام بريدهم الإلكتروني التابع للجامعة للحديث عن «موضوعات سياسية»، لأن هذه الإيميلات قد تكون عرضة للكشف القضائي إذا قررت الحكومة الأميركية أن تحقق مع أي منهم. وهي نقلت أنّ كل ما يرسل، من رسائل قصيرة أو طويلة، عبر شبكة «eduroam» للإنترنت، وهي متاحة في كل المؤسسات التربوية، هو عرضة للتدقيق القضائي. وتقول الأستاذة التي تشارف على الستين من عمرها: «كنت أعيش في بكين بعد تيانانمين، والحالة الآن تستذكر الحالة التي كانت عليه الصين وقتها».

كلمات ممنوعة

من أهداف ترمب فيما يتعلّق بالجامعات إلغاء البرامج المتعلّقة بالتنوّع والإنصاف والشمول. فقد حجبت الإدارة الأميركية الكثير من المنح التي كانت تقدمها من خلال برامجها التربويّة. وتنص الميزانية التي قدّمها الرئيس الأميركي أخيراً على تقليص الدعم لـ«مؤسسة العلوم الوطنية» (NSF) فيما يخص «المناخ، والطاقة النظيفة، والعلوم الاجتماعية والاقتصادية»، وكل ما يصنّف تحت خانة الـ«WOKE» أي ذات حساسية مجتمعية أو توجه تقدمي.

مظاهرة بمدينة نيويورك دعماً للجامعات والتعليم حملت اسم «مسيرة الحق في التعلم» (أ.ف.ب)

وقامت الإدارة الأميركية مباشرةً بعد فوز ترمب بإدراج تعميم بكلمات من قاموس الـ«woke» مثل: التمييز، والتنوّع، والعرق، والانحياز، والأقليّات، والأزمة المناخيّة، واللاعدالة، والقمع المؤسسي، والنسوية، والنساء، والضحية، والتروما، والهويّة وغيرها، وطلبت حذفها من المواقع والمراسلات الرسمية. وأحصت صحيفة «نيويورك تايمز» أكثر من 500 كلمة حُذفت أو مُنع استخدامها فعلياً في المواقع الإلكترونية الرسمية لأنها لا تعكس توجه الإدارة الحالية في السياسات العامة. وطال التعديل المصطلحات في أحيان كثيرة، إذ حذفت أو تغيرت، لكن أيضاً في أحيان أخرى لحذف الفكرة والمضمون من ورائها أيضاً.

وهذا ما اضطر زميلاً آخر لأن يغيّر لقب منصبه في الجامعة من «أستاذ العدالة البيئية» إلى «أستاذ السياسة البيئية». أمّا مديرة «مركز النساء والجنسانية» في جامعة نورثويسترن فهي لم تعد تعرف إذا كان المركز ووظيفتها فيه باقيين حتى السنة المقبلة، أم سيتعين عليها البحث عن عمل، إن وجدت. وفي جامعة ويسكونسون، وهي جامعة رسميّة، اشترط محافظ الولاية على قسم العلوم السياسية توظيف أستاذ محافظ. وفي جامعة أوهايو تم إدخال مساق أكاديمي إلزامي تحت عنوان ما سمّته إدارة الجامعة «الحوار المدني».

الأمل المعلّق على «هارفارد»

استرجع الأكاديميون بعضاً من الأمل عندما رفضت جامعة هارفارد مطالب الإدارة الأميركية التي هددتها، مثلما هددت جامعة كولومبيا، بسحب تمويلها الفيدرالي. وكان الخوف أنه إذا انصاعت «هارفارد» وهي أغنى جامعة أميركية، فلن تحاول أي جامعة أخرى مقاومة السيطرة الحكومية.

وانتقلت الإدارة الأميركية إلى التهديد برفع الضريبة التي تجبيها على المخصصات التابعة لـ«هارفارد» والجامعات من مثيلاتها، أي الجامعات الغنية والخاصة التي تعد نخبوية. وقد عرض عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية تكساس رفع هذه الضريبة من مستواها الحالي، والبالغ تقريباً 1.5 في لمائة، إلى 21 في المائة. كذلك يهدّد ترمب بالتوقف عن اعتبار الجامعات مؤسسات لا تبغي الربح، مما يعني أنّ كل الأموال التي تصرفها الجامعات لتحقيق أهدافها التربوية ستصبح عرضة للضرائب.

الرئيس دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله قاعة محكمة مانهاتن العام الماضي (رويترز)

نقض الاستقلالية الأكاديمية

هذا التغيير في تعريف الجامعات هو بمثابة تغيير لشكل علاقة الدولة بإنتاج المعرفة الذي جرى الاتفاق عليه في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وقتها كان السؤال: كيف ستقوم الدولة بدعم الإنتاج العلمي؟ وبعد النقاش السياسي والفلسفي حول هذا السؤال كان القرار ألّا يكون ذلك بالتدخل المباشر في هذا الإنتاج، بل بأن تدعم الدولة الجامعات لتكون هي المكان الذي يصير فيه إنتاج المعرفة والفكر. وكان من أساسيات هذا الاتفاق مبدأ استقلالية الجامعات وحريتها الداخلية. فهذا التدبير في مجمله عرضة لتحوّل جذري الآن.

وسيكون عرضةً للتحوّل أيضاً، نتيجةَ هذا التغيير، ليس مصائر الأفراد فحسب وإنما مكانة الولايات المتحدة بصفتها البلد الرائد في الإنتاج العلمي حول العالم. وهذا تحديداً ما أرّق زميلتي الأميركية ومنعها من النوم ومثلها عشرات، لا بل مئات الأكاديميين القلقين.