بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

زعيم «القاعدة» اتهم «البعث» بـ«الكفر» رداً على وساطة «الإخوان» السوريين بينهما

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.


مقالات ذات صلة

رئيس «غوغل» السابق يحذر من «سيناريو بن لادن» للذكاء الاصطناعي

العالم صورة من هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في مدينة نيويورك الأميركية (رويترز)

رئيس «غوغل» السابق يحذر من «سيناريو بن لادن» للذكاء الاصطناعي

يخشى الرئيس التنفيذي السابق لشركة «غوغل» من استخدام الذكاء الاصطناعي في «سيناريو بن لادن»، أو استخدام «الدول المارقة» لهذه التقنية لـ«إيذاء الأبرياء».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ هجمات 11 سبتمبر عام 2001 (غيتي)

وزير الدفاع الأميركي يخسر محاولة لإلغاء اتفاقات الإقرار بالذنب في هجمات 11 سبتمبر

أسفرت الهجمات التي شنَّها تنظيم «القاعدة» الإرهابي عن مقتل نحو 3 آلاف شخص في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وساعدت في تحفيز الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق...

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)

خاص الخليج في ربع قرن... حدائق وسط حرائق

دول الخليج وسط توترات متصاعدة ماضية في تأكيد قدرتها على التكيّف من خلال مبادرات دبلوماسية فعّالة، ساعية إلى ترسيخ الاستقرار في منطقة تواجه تحديات.

د. إبراهيم العثيمين
الولايات المتحدة​ هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز- أرشيفية)

أميركا: كيني خطّط لهجوم على غرار 11 سبتمبر تدرّب كطيّار في فيتنام

قال مُدَّعٍ عام اتحادي أمام هيئة محلفين في نيويورك، إن رجلاً كينياً خطط لهجوم على مبنى أميركي، على غرار هجمات 11 سبتمبرـ كان يتدرب كطيار تجاري في الفلبين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز) play-circle 00:52

لماذا اعتمر بايدن قبعة ترمب الانتخابية في ذكرى 11 سبتمبر؟

اعتمر الرئيس الأميركي جو بايدن، الأربعاء، لفترة وجيزة قبعة الحملة الانتخابية للرئيس السابق دونالد ترمب في حدث لإحياء الذكرى الثالثة والعشرين لهجمات 11 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
TT

عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)

في حادثةٍ هزّت السويد وأدخلتها في دوامةٍ من الأسئلة الصعبة حول مستقبل الهجرة ومستوى الأمان الاجتماعي في البلاد، لقي أحد عشر شخصاً معظمهم من المهاجرين مصرعهم، وأصيب ستة آخرون بجروح خطرة، في إطلاق نار جماعي وُصف بأنه «الأسوأ في تاريخ البلاد». وكانت الحادثة التي كشفت عن هشاشة بنيوية في المجتمع السويدي، وقعت في 4 فبراير (شباط) 2025 داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، على بُعد 200 كيلومتر غرب العاصمة استوكهولم.

وجاءت هذه الجريمة المروعة بعد سلسلة أحداث متفرقة لم تلقَ الصدى الكبير الذي تلقاه عادة حوادث إطلاق نار أو جرائم أخرى، خصوصاً إذا كان المرتكب مهاجراً أو من خلفية مهاجرة.

ففي 7 يناير (كانون الثاني) 2025 قتلت ميسون أيوب (60 عاماً)، بعد تعرضها للطعن في متجر بضاحية بوتشيركا جنوبي استوكهولم، لتعتقل الشرطة رجلاً في الخامسة والعشرين، أظهر الفحص النفسي أنه «مصابٌ باضطرابٍ عقلي حاد»، وقبل ذلك، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2024، قتل نيمو بشير داود (28 عاماً)، من أصول صومالية، في منطقة غابات مارشتا Marsta شمال غربي استكهولم. وبحسب الشرطة، «قُبض على مشتبه به خضع سابقاً لرعاية نفسية إلزامية».

وفي 12 أغسطس (آب) 2024، شهدت مدينة بوروس حادثة صادمة، إذ اندفعت سيارة نحو مظاهرة مؤيدة لفلسطين، مما أثار الذعر بين المشاركين وأوقع بينهم جرحى. السائق، الذي تبين من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة به أن له توجهات يمينية متطرفة، اقتحم الحشد مرتين، وفقاً لشهود عيان. ولاحقاً أظهرت تحقيقات الشرطة أن السائق، وهو رجل أعمال في الستينيات من عمره، لديه تاريخ من التفاعل مع المحتوى اليميني المتطرف على الإنترنت. كما تضمنت تعليقاته دعوات صريحة للعنف ضد الفلسطينيين، بما في ذلك تحريض مباشر على قتلهم وتجويعهم.

بالتالي فإن الجريمة «الأسوأ على الإطلاق» في تاريخ السويد، والتي وصف حدوثها رئيس الوزراء، أولف كريسترشون، بـ«اليوم المظلم في التاريخ السويدي» لم ترق بحسب تحقيقات الشرطة ووسائل الإعلام إلى اعتبارها «عملاً ارهابياً» لكون المنفذ قتل نفسه وليس من خلفية مهاجرة على ما ندد كثيرون من أهالي الضحايا.

خطاب معادٍ للأجانب

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى السياسي في حزب اليسار وعضو مجلس مقاطعة أوريبرو السابق لمدة 24 عاماً جهاد نعمة والمقيم في السويد منذ 1990، فقال إن ما حدث كان متوقعاً، لكنه لم يكن ليُتصور أنه بهذه الوحشية.

أهالي ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو يوقدون الشموع ويضعون الزهور في موقع الحادثة (غيتي)

وقال نعمة: «الخطاب السياسي الذي تنتهجه الأحزاب الحاكمة حوَّل المهاجرين، سواء كانوا قادمين جدداً، أو من المهاجرين القدامى، أو حتى الجيل الثاني، إلى شماعة تُعلق عليها جميع الأزمات والإخفاقات السياسية. وأدى ذلك إلى خلق قاعدة ناخبة باتت ترى الهجرة والمهاجرين على أنهم المشكلة الأساسية في البلاد».

ويضيف نعمة: «سياسات التقشف والاضطراب الاقتصادي وسوء إدارة الموارد أعادت ترتيب الأولويات على مستوى البلديات والمقاطعات، فقد شهدنا تراجعاً في الميزانيات المخصصة للرعاية الصحية، بما في ذلك دعم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية، بينما جرى خفض الضرائب على أصحاب المداخيل المرتفعة. وهذا بدوره أدى إلى تفاقم غياب العدالة الاجتماعية، وزيادة الفجوة بين الطبقات، وارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن غياب استراتيجيات واضحة لدمج القادمين الجدد. كل هذه العوامل، إلى جانب تصاعد الخطاب السياسي المشحون بالكراهية ومعاداة الأجانب، مهّدت الطريق لهذه المجزرة».

كيف بدأت القصة؟

في ظهر يوم الثلاثاء 4 فبراير 2025، تلقت الشرطة السويدية أول بلاغ عن وقوع إطلاق نارٍ داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، وتحديداً في الطرف الجنوبي للمدينة. يضم المجمّع ست مؤسسات تعليمية متنوعة، من بينها مركز تعليم الكبار ومدارس تعليم اللغة السويدية للمهاجرين، إضافةً إلى روضة أطفال وبرامج تدريب مهني.

وأشارت البيانات الصادرة عن الشرطة إلى أن ريكارد أندرسون، المشتبه به في ارتكاب الجريمة، استقل حافلة من وسط المدينة عند الساعة 07:35 صباحاً، ووصل إلى محطة قريبة من المدرسة في الساعة 07:47. ولم تتوفّر حتى الآن معلومات محدّدة عمّا قام به في الفترة الممتدة من وصوله إلى نحو الساعة 11:30، حين لحظه شهود عيان داخل المجمع التعليمي البالغة مساحته 17 ألف متر مربع. وفي صورة وزعتها الشرطة على وسائل الإعلام، حصلنا على نسخة منها، يظهر الجاني وهو يسير حاملاً حقيبة غيتار على ظهره وكيساً في كل يد، مما يُضيف بُعداً آخر لغموض دوافعه وسير الأحداث.

وعند الساعة 12:33، ورد بلاغ رسمي عن إطلاق نارٍ في المكان. وصلت أول فرقة شرطةٍ بعد ست دقائق، ودخل أفرادها المبنى في الساعة 12:40. في الدقيقة التي تلت ذلك، تبادلوا إطلاق النار مع المشتبه به، قبل أن تؤكد الشرطة عند الساعة 12:45 أنّ أندرسون أنهى حياته بيده.

مسؤول الشرطة السويدية هنريك دالستروم (إ.ب.أ)

في نحو الساعة 13:20، نشرت الشرطة بياناً عبر موقعها الإلكتروني طالبت فيه المواطنين بالابتعاد عن المنطقة، مشيرةً إلى وجود «تهديد محتمل باستخدام العنف المميت». تزامن ذلك مع مداهمة قوات أمنية أخرى منزل المشتبه به. وبعد قرابة ساعةٍ ونصف من هذا النداء، عُقد مؤتمر صحافي أكّد خلاله رئيس الشرطة أن التحقيق في مراحله الأولى، وأنه «لا دليل على وجود دافع آيديولوجي أو إرهابي حتى تلك اللحظة».

بعد ساعة ونصف من إصدار البيان، وعلى عكس حالات عنف سابقة، عقدت الشرطة مؤتمراً صحافياً ظهر فيه رئيس الشرطة وحيداً يتلقى السؤال نفسه تقريباً من كل الصحافيين: «هل كانت عملية إرهابية»؟ لتأتي الإجابة نفسها مراراً: «ليس ما يشير إلى دافع آيديولوجي. لا يوجد حتى الآن أي دافع واضح».

في وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، أعلنت الشرطة مقتل عشرة أشخاص في موقع الحادث، وأشارت إدارة منطقة أوريبرو إلى أن ستة أشخاص آخرين - جميعهم فوق الثامنة عشرة - يتلقون العلاج في المستشفى؛ خمسة منهم في حالة خطيرة، لكن مستقرة، ثم ارتفعت الحصيلة لاحقاً إلى 11 قتيلاً. وأوضحت الشرطة أن المشتبه به، الذي لم يكن معروفاً لها ولا يرتبط بأي عصابة، يُعتقد أنه تصرف بمفرده، وهو أحد من لقوا حتفهم أثناء الحادث. ثم نفى المسؤولون وجود دافع إرهابي وراء هذه الجريمة، لكن الآن تشمل التهم محاولة القتل وإحداث حرائق عمدية وجرائم استخدام الأسلحة النارية الخطيرة.

من هو ريكارد أندرسون؟

بدأت تتراكم التساؤلات حول ماضي الجاني، الذي لم يُدن سابقاً بارتكاب أي جريمة؛ إذ وصفه زملاؤه في المدرسة بأنه شخص هادئ الطباع عانى من صعوبات دراسية جسيمة، ولم يحقق معايير النجاح بعد إنهاء المرحلة الإعدادية، حتى إن أحد رفقائه وصفه بأنه «منعزل». وبعد انتهاء دراسته الثانوية، تلاشت تفاصيل حياته إلى حد بعيد.

بيانات مصلحة الضرائب تظهر أنه لم يحقق أي دخل خاضع للضريبة منذ عام 2014، أي أن دخله لم يتجاوز 100 ألف كرونة. كما أكدت الشرطة تسجيله في المركز التعليمي، الذي وقعت فيه المأساة. حصلت «الشرق الأوسط» على مستندات صادرة عن وكالة التجنيد والتقييم الدفاعية السويدية والتابعة لوزارة الدفاع، تُشير إلى أن الرجل قد تم إعلامه مراراً بأنه غير مؤهل للخدمة العسكرية عند بلوغه سن الرشد. وجاء في القرار: «أنت وجميع الرجال السويديين ملزمون يالتجنيد العسكري عند بلوغكم 18 عاماً. ومع ذلك، تستدعي الوكالة فقط الذين يملكون الإمكانات للتسجيل في الخدمة العسكرية أو المدنية أو للانضمام إلى الاحتياطي التعليمي». لكن رغم عدم أهليته للخدمة العسكرية فإن أندرسون حاز على رخصة لحيازة أربع بنادق صيد. وبهذه الأسلحة المرخصة، التي تضمنت بندقية إصابة مع ذخيرة من عيار مقاس 30-06 ، وكذلك بندقية صيد عادية، قام بارتكاب المجزرة تاركاً وراءه حدثاً زلزل السويد.

مسعفون في مجمع المدارس في مدينة أوريبرو السويدية حيث وقعت حادثة إطلاق نار وصفت بـ«الأسوأ في تاريخ البلاد» (غيتي)

رابطة الصيادين السويدية على موقعها الرسمي تُشير بوضوح إلى أن «شهادة الصيد» تُعد شرطاً أساسياً للحصول على ترخيص لحيازة أسلحة الصيد، حيث تتألف من اختبار نظري وثلاثة اختبارات عملية، وأنه لا يوجد حد أدنى للسن، لكن يجب أن يمتلك المتقدم اللياقة البدنية اللازمة للتعامل الآمن مع الأسلحة. كما يجب الحصول على «شهادةصيد» كشرط أساسي قبل التقديم للحصول على ترخيص لدى الشرطة، لشراء واستخدام أسلحة الصيد، ويُستوفى ذلك بعد تقييم قدرات الفرد وفقاً للمعايير الفحص الموحدة. حاولنا سؤال جهاز الشرطة عن طريق إرسال رسالة إلكترونية، حول آليات هذا الفحص، غير أن المسؤولين على المستوى الوطني رفضوا الإدلاء بتصريحات إضافية، وطلبوا منا التواصل مع الشرطة في منطقة شرطة بيرجسلاجن التي تقع مدينة أوريبرو ضمن نطاق عملها، والتي تتولى التحقيق في الحادثة بحسب إيمانويل ألفاريز، السكرتير الصحافي في المركز الإعلامي لدى الشرطة الوطنية.

بعد اسبوع من الانتظار اكتفت الشرطة في منطقة بيرجسلاجن بالرد أنه «من المهم أن نتذكر أن هذا تحقيق مستمر وأن حقائق جديدة قد يتم اكتشافها و/أو إثباتها مع مرور الوقت. وستقوم الشرطة بالإعلان عن التفاصيل عندما تتوفر لدينا حقائق جديدة لتقديمها وعندما نشعر أننا قادرون على تقديم المعلومات».

مظاهر إسلاموفوبيا

تقول المترجمة نور مارتيني، المقيمة في أوريبرو، إن المدينة شهدت تصاعداً ملحوظاً في مظاهر الإسلاموفوبيا في السنوات الاخيرة. وتشير إلى أن حركة «مقاومة الشمال» المرتبطة بالنازيين الجدد التي بدأت في 2018 في نشر آيديولوجيتها في وسط المدينة بلغت حدوداً قصوى في السنتين الأخيرتين. في العام نفسه، تعرّض مسجد أوريبرو لحريق لم تُعرف أسبابه بشكل قاطع، إذ أُشيع أن أحد رواد المسجد كان وراء الحادث بسبب خلافات داخلية، لكن المسجد لم يُعَد بناؤه منذ ذلك الحين.

الشرطة السويدية تطوّق مجمّع المدارس الذي شهد إطلاق نار أودى بحياة 11 شخصاً في مدينة أوريبرو (غيتي)

وتضيف نور أن التوترات بلغت ذروتها خلال أحداث حديقة سفيا باركن في 15 أبريل (نيسان) 2022، عندما اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة وسكان مسلمين، على خلفية منح المتطرف اليميني راسموس بالودان تصريحاً لحرق المصحف أمام مسجد في ضاحية «فيفالا» شمال المدينة بما اعتبر قانوناً «حرية تعبير». ورغم تصاعد التوتر الأمني، فإن بالودان أصرّ على تنفيذ خطته، مما أثار استياء الجالية المسلمة وطرح تساؤلات حول الهدف من منحه التصريح،.

وبحسب نور، فإن التداعيات القانونية للأحداث أسفرت عن محاكمة ما لا يقل عن 150 شخصاً، معظمهم من الشباب والمراهقين، الذين تحولوا إلى أصحاب سوابق جنائية بموجب القانون السويدي، مما سيؤثر على مستقبلهم الاجتماعي والمهني، لا لسبب فعلي إلا لرغبة أحدهم بحرق كتابهم الديني.

وتلفت نور إلى أن الخطاب السياسي في السويد أصبح أكثر وضوحاً في استهدافه للمهاجرين، خاصة خلال مناقشات الحكومة في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حول تعديل النظام الانتخابي للمجالس المحلية والبلديات. خلال هذه المناقشات، حذّرت نائبة رئيس الوزراء وزعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي إيبا بوش من أن استمرار النظام الحالي قد يؤدي إلى «سيطرة المهاجرين على بلدية أوريبرو»، وهو تصريح اعتبره كثيرون معادياً للأجانب. كما تستذكر نور تصريحات بوش السابقة خلال أحداث سفيا باركن، حين تساءلت: «لماذا لم نشهد مقتل مائة إسلامي على الأقل؟»، في إشارة إلى الاحتجاجات العنيفة التي وقعت بعد حرق المصحف. وترى أن هذه اللغة الحادة أسهمت في تأجيج المشاعر ضد المهاجرين، وساهمت في تشكيل توجه سياسي يمنح اليمين المتطرف نفوذاً متزايداً.

ولم يكن الخطاب المعادي للمهاجرين حكراً على اليمين، وفقاً لنور. ففي الانتخابات البرلمانية عام 2022، ركّزت جميع الأحزاب على مدينة أوريبرو خلال حملاتها الانتخابية، لما لها من ثقل انتخابي واضح. حتى ماغدالينا أندرسون، رئيسة أكبر حزب في التكتل اليساري آنذاك، لم تتردد في استخدام لغة قومية، عندما قالت خلال حملتها: «ينبغي على الجميع أن يكونوا إسكندنافيين»، في تصريح اعتبره البعض محاولة لاستقطاب ناخبي اليمين.

ترى نور أن جميع هذه العوامل مجتمعةً تشير إلى أن مجزرة أوريبرو كانت «استهدافاً إرهابياً» للمهاجرين، خصوصاً الجالية المسلمة، حتى وإن حاولت الحكومة التخفيف من وقع الحدث أو تجنّب تسميته كهجوم بدوافع عنصرية. ومع استمرار التحقيقات، لا يزال مجتمع المهاجرين يعيش حالة من الترقب والقلق، في انتظار إحاطة الشرطة بالمستجدات. وفي الوقت الذي يشعل فيه المواطنون الشموع تكريماً للضحايا، تواجه بعض العائلات المكلومة تحديات إضافية، حيث أصبح بعض الأطفال مهددين بالترحيل بعد فقدان معيلهم، بينما مُنعت زوجة أحد الضحايا من تلقي العزاء بسبب صدور قرار بترحيلها قبل أن تتمكن حتى من وداع شريك حياتها.

صراع سياسي داخلي

تقول سلوى محمد (اسم مستعار) في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»:«يملؤني الرعب. أفضّل إخفاء هويتي كي أستطيع الحديث بحرية؛ فأنا أخشى الانتقام في بيئة العمل، خاصةً وأن بعض المؤسسات بدأت تضيق الخناق على من ينتقد الأوضاع الراهنة في السويد، لا سيما إن كان من أصول مهاجرة».

الملك والملكة السويديان وخلفهما رئيس الوزراء وزوجته في جنازة ضحايا حادثة أوريبرو (غيتي)

وترى سلوى أن المهاجرين باتوا هدفاً لصراعٍ سياسي محتدم؛ إذ تسعى بعض الأحزاب إلى تحقيق مكاسبها على حسابهم. وتضيف: «يطالبوننا بالاندماج والعمل، وهو ما نقوم به بالفعل. ومع ذلك، نُقتل. لماذا لا يُطلق على هذه الجرائم وصف (هجمات إرهابية) عندما ينفذها أشخاص سويديون بيض ضد مهاجرين؟ أين اختفت أصوات التحريض ضد المهاجرين؟ ولماذا كل هذا التعتيم على عمليات القتل التي تستهدف اللاجئين في السويد؟».

وتعرب سلوى كما غيرها ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» عن استيائها من ازدواجية المعايير، قائلةً: «لو كان المنفّذ مهاجراً مسلماً، لأُلصقت به على الفور تهمة الإرهاب، لرأينا اليمين السويدي وجهاز الدعاية المرتبط به يتصدّرون الإدانة. أمّا الآن، فلا نجد إلا صمتاً مطبقاً وكأن ضحايا هذه الجرائم ليسوا بشراً، إلى درجة أن جيمي أوكيسون، رئيس حزب ديمقراطيي السويد، لم يذهب إلى أوريبرو بحجة أنه لا يريد استغلال الحادث لأسباب سياسية».

وتتهم سلوى الحكومة الحالية بـ«تعزيز الانقسام المجتمعي» عبر ما تصفه بـ«سياسات تمييزية وإقصائية»، مدعومةً بوسائل إعلامٍ تحتكر السردية وتهمّش أصوات المهاجرين. وتقول إنّ الإعلام «يركّز على السلبيات والإخفاقات ويستند إلى مصطلحات مثل الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، للتشكيك في أي طرحٍ مختلف عن الرواية الرسمية» التي تروّج لها الشرطة والمؤسسات الحكومية.

قصص من النضال والحب والتحديات

قمنا في «الشرق الأوسط» بمراجعة سير الضحايا بالاستناد إلى المصادر المفتوحة وما نُشر عنهم في الإعلام السويدي. المراجعة تُظهر أن الضحايا العشرة، كانوا من خلفيات متنوعة، بما في ذلك مهاجرون من أفغانستان، والبوسنة، والصومال، وسوريا، والعراق، ومن بين الضحايا: علي محمد (35 عاماً) من أفغانستان، وقمر (38 عاماً) من الصومال، وبسام الشلح (48 عاماً) من سوريا، وسليم إسكيف (28 عاماً) من سوريا، وعزيزة (68 عاماً) من كردستان العراق، وسلمي هوكيك (55 عاماً) من البوسنة، وإلسا تيكلاي (32 عاماً) من إريتريا.

مارة يشاهدون إضاءة جسر أوريسوند في السويد بألوان العلم إحياء لذكرى ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو (غيتي)

سلمى... الحب أولاً

ولدت سلمى في مدينة توزلا في البوسنة، وكانت تقيم في أوريبرو برفقة أسرتها. في وطنها، كانت ناشطة في العديد من الجمعيات التطوعية، كما أنها تلقت تدريبها ممرضةً مساعدةً في السويد، وحصلت مؤخراً على تصريح عمل وإقامة دائمة، مما عزز فرصها في بناء حياة مستقرة. شاركت عائلتها رسالة كانت قد كتبتها إلى صديقة مقربة، تأملت فيها مسار حياتها، وتطرقت إلى موضوع ترك وطنها والخيارات التي اتخذتها. تحدثت سلمى في رسالتها عن أهمية الحب والتضامن في مواجهة تحديات الحياة. وختمت رسالتها، المكتوبة بلغتها الأم، بطابع شعري صادق يحمل في طياته معاني سامية: «دائماً اختاري الحب»

بسام... خبّاز «تيك توك»

بسام الشلة من سوريا، رب أسرة وأب لطفلين، كان يحضر دروس اللغة السويدية للمهاجرين مرتين أسبوعياً، ويعمل في مخبز. عمل بسام، طباخاً وخبازاً في مخبز لبناني شهير في أوريبرو، وكان شخصية محبوبة ومعروفة في الأحياء المجاورة. لم يكن مجرد طباخ عادي، إذ كان يسجل مقاطع فيديو أثناء عمله ويبثها عبر «تيك توك»، مما جعله يحتل مكانة خاصة لدى متابعيه؛ فقد كان يستقطب الزوار إلى المطعم، من مدن مختلفة كما أوضح زميله بيير العجاج لـ«وكالة الأنباء السويدية»: «لقد كان لديه أسلوبه المميز في تصوير عملياته، بحيث تُظهر تدويناته للهاتف تفاصيل عمله الدقيقة، وكانت موهبته تجذب أعداداً كبيرة من المتابعين وتجلب للمخبز زواراً من مختلف المناطق».

سليم... لا عرس في الصيف

كان سليم القادم من سوريا يدرس ليصبح ممرضاً واشترى منزلاً مع خطيبته وكان من المقرر أن يتزوجا خلال الصيف. تم تجربة فستان الزفاف وحجز الموعد. لكن بدلاً من الاحتفال بزواجه، اجتمعت عائلته وأقاربه وأصدقاؤه لتوديعه وإقامة جنازته في كنيسة القديسة مريم في المدينة.

قمر... حياة جديدة لم تكتمل

جاءت قمر إلى السويد من الصومال منذ أكثر من عشر سنوات، وهي أم عزباء لثلاثة أطفال يبلغ أكبرهم 15 عاماً، والآخر 11 عاماً، بينما يحتفل الأصغر بعيد ميلاده الثاني بعد شهرين من وفاتها. كانت قمر تنوي التوجه إلى متجر إيكيا بعد انتهاء دوام عملها في ذلك اليوم المشؤوم لشراء آخر مستلزمات انتقالها إلى شقة جديدة مع أولادها بعدما بدأت وظيفة تتيح لها العيش في منزل أوسع.

هكذا، وبعد مرور أكثر من شهر على هذه الكارثة، لا تزال أسئلة كثيرة دون إجابة حول خلفية ريكارد أندرسون ودوافعه. وفيما تواصل السلطات جهودها للتحقيق في ملابسات الحادث وتقديم إجابات وافية للمجتمع، ينتظر الناس عموماً، وأهالي الضحايا خصوصاً بفارغ الصبر نتائج هذه التحقيقات لمعرفة ما قاد الجاني إلى ارتكاب هذا الفعل الدموي.

أما الفئة الواسعة من المهاجرين فينتابها خوف من تكرار هذه الحوادث الفردية أو الجماعية وأن تبقى معلقة في أعناق «مرضى نفسيين».