اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

نقص التغذية المزمن يهدد 600 مليون شخص بحلول 2030

TT

اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)
تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)

يصر ديفرين، سائق الأجرة البريطاني، على أن يشير بيده لمحدّثه إلى مساحات خضر على جانبي الطريق بين لندن ومدينة ستانستد (شمال شرقي العاصمة البريطانية) قائلاً: «هذه الحقول مزروعة بالقمح». كلما انكشفت للطريق السريع مساحة خضراء، كرر ديفرين جملته: «حقول قمح، بدأ بعضها يميل إلى الاصفرار». ثم يفسّر إصراره على الإشارة إلى ذلك بأنها المرة الأولى التي يرى فيها مساحات مزروعة بالقمح في هذه المنطقة، عازياً لجوء بريطانيا إلى زراعتها إلى الحرب الروسية ـــ الأوكرانية.

ثم يخوض مع محدثه في حوار عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي شهدتها البلاد بعد انتهاء فترة كورونا، إذ أصبح جنيهاً ونصف الجنيه سعر كل سلعة كانت تباع بجنيه واحد قبل سنة ونصف السنة. ويقول ديفرين ساخراً: «هل تعيد حقول القمح هذه الأسعار إلى ما كانت عليه؟ كل شيء في هذه البلاد، من السلعة البسيطة إلى إيجار المنازل، ارتفع سعره نحو 50 في المائة، فيما الرواتب لا تزال على حالها». ويضيف: «كذلك ارتفعت الرسوم الحكومية وأقساط الجامعات، وكأن الحكومة تريد استرداد المبالغ الطائلة التي أنفقتها خلال إغلاق (كورونا) على الناس والشركات».

ما يتمناه ديفرين وكل البريطانيين وسواهم من سكان دول العالم يحتاج إلى «معجزة مالية ونقدية»، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي إسلام الشافعي لـ«الشرق الأوسط».

ويوجز الشافعي، الذي يتابع الاقتصاد العالمي من مكان إقامته في نيويورك، ما أصاب العالم خلال هاتين السنتين بالأرقام والوقائع، قائلاً: «تسببت الحرب الروسية ــ الأوكرانية في مشكلات للاقتصاد العالمي أدت إلى تباطئه، خصوصاً أن هذا الضغط جاء بعد الخروج من فترة كورونا التي أحدثت أزمة في سلاسل الإمداد وحالة من التضخم في كثير من الاقتصادات الكبرى. وعلى سبيل المثال، وصل التضخم في بريطانيا إلى 11 في المائة، وهذا من أعلى معدلات التضخم المتوقعة لدولة صناعية مثل بريطانيا لكنه عاد وانخفض إلى 2 في المائة في مايو (أيار) الماضي فيما سمي إعجازاً نقدياً ومالياً.

ذلك مع العلم أن انخفاض التضخم لم ينعكس على السلة الاستهلاكية للبريطانيين التي ترتفع سلعها بوتيرة بطيئة. وكذلك أصاب التضخم أميركا، إذ توقع البنك الدولي تراجع الاقتصاد الأميركي من 5.7 في المائة إلى 1.6 في المائة، وتراجع الاقتصاد الصيني، (مصنع العالم) من 8.1 في المائة إلى 3.2 في المائة».

وبعد كورونا فوراً، جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وهما دولتان ذواتا مشاركة كبيرة جداً في حجم التجارة العالمية، فتعاظمت مشكلة الإمدادات وتعطلت سلاسلها نتيجة الحرب التي لم تقتصر تداعياتها على مسألة الحبوب وزيوت الطعام، بل على سبيل المثال أيضاً تسببت في إغلاق جزئي لصناعة السيارات في ألمانيا، وكذلك تأثرت كثيراً صناعة الحديد والصلب في اليابان. حصلت اضطرابات كثيرة عالمية في الصادرات السلعية، كما حصل ارتفاع كبير في كلفة النقل، إذ فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على الطائرات والشاحنات في روسيا ما رفع تكلفة النقل 60 في المائة.

وهذا ما تؤكده دراسة حديثة نشرها «مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، إذ أكد أن الحرب الروسية الأوكرانية أضافت مزيداً من الأعباء على الاقتصاد العالمي؛ فارتفعت الديون، وزاد حجم الاستثمارات الخاصة المتعثرة، وشهدت التجارة الدولية أبطأ معدل للنمو لم تشهده منذ خمسة عقود، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة جعل من الصعب على الحكومات والشركات الخاصة الحصول على الائتمان وتجنب التخلف عن السداد. ويزداد ذلك بشكل خاص بالنسبة للعديد من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، وابتعاد المستثمرين عن الأسواق الناشئة خوفاً من التوقعات العالمية الضعيفة بالفعل، والانكماش الإقليمي.

وتفيد الدراسة بأن الديون الحالية، وخاصة في شكل سندات حكومية وصكوك، تتعرض لضربة قوية بالفعل مع انخفاض قيمتها في التداول، حيث تفيد التقارير بأن السندات السيادية في بعض الدول الأوروبية كانت من بين أسوأ السندات العالمية أداءً خلال تلك الفترة المواكبة لبداية حرب إسرائيل على غزة. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للحكومات ذات التصنيفات الائتمانية الجيدة إلى الممتازة، فإن الحكومات ذات الائتمان الأضعف ستشهد خصم الديون الحالية في التداول، ويصبح الوصول إلى الديون الجديدة أكثر تكلفة، وربما أكثر صعوبة في جذب المستثمرين.

إشارة أخرى للتأثير الاقتصادي ستكون في صناديق المؤشرات للأسهم في الأسواق الناشئة، مما يعني أن الشركات المدرجة في البورصات الإقليمية مدرجة في المؤشرات الرئيسية، مثل مؤشر MSCI. وقد انخفضت أسهم الأسواق الناشئة في MSCI بنسبة 1 في المائة تقريباً في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بسبب التوترات في الشرق الأوسط والصراع المحتمل.

لاعبان كبيران

للحرب الروسية تكلفة كبيرة على أكثر من صعيد، وتقدر بمليارات الدولارات. وفيما لم تعلن الدول الخسائر التي تكبدتها، فإن «سكاي نيوز» نقلت في فبراير (شباط) الماضي تصريحاً لمسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (لم تذكر اسمه) قال فيه إن روسيا أنفقت على الأرجح 211 مليار دولار على تجهيز أفراد قواتها ونشرهم وصيانة أسلحتهم لتنفيذ عمليات في أوكرانيا، وإن موسكو خسرت أكثر من 10 مليارات دولار بسبب إلغاء صفقات أسلحة أو تأجيلها، مضيفاً أن «الحرب كلفت روسيا نحو 1.3 تريليون دولار من النمو الاقتصادي المتوقع حتى عام 2026».

محصول قمح يتم جمعه في حقل قرب كييف على رغم الحرب الروسية على أوكرانيا (أ ف ب)

جاء التصريح الأميركي فيما كانت إدارة الرئيس جو بايدن تمارس ضغوطاً على مجلس النواب الأميركي لقبول حزمة من المساعدات الأمنية الدولية بقيمة 95 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان.

لماذا كان للحرب الروسية ــ الأوكرانية كل هذا التأثير؟ يضيف الشافعي قائلاً: «لأن روسيا وأوكرانيا لاعبان دوليان كبيران في الاقتصاد العالمي؛ يسيطران على 53 في المائة من التجارة العالمية لزيت الطعام والحبوب، ويستحوذان على 27 في المائة من تجارة القمح العالمية. وهذه نسب كبيرة جداً. ويضاف إلى ذلك توقف صادرات النفط الروسي، التي تشكل 12 في المائة من السوق العالمية للنفط، وكذلك المشتقات النفطية التي تشكل 15 في المائة من تجارة العالم. توقّف هذه الصادرات أدى إلى عجز كبير، ومن ثم ارتفاع كبير في الأسعار. أوروبا تستورد 45 في المائة من حاجتها للنفط والغاز من روسيا، وتوقف ذلك ينعكس ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.

إلا أن الغاز والنفط الروسيين استمرا، رغم الحرب، في التدفق إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية إلى مصافي التكرير في التشيك وسلوفاكيا والمجر». ووفق تقرير لمجلة «إيكونوميست»، فإن أوروبا كانت تعتمد على روسيا في 40 في المائة إلى 45 في المائة من وارداتها من الغاز ونحو ربع نفطها. ومنذ ذلك الحين، حاولت روسيا التنمر على أوروبا لإسقاط العقوبات الاقتصادية عن طريق خنق الإمدادات. لكن أوروبا، بدورها، فصلت نفسها تقريباً عن الطاقة الروسية. لكن ليس بالكامل، إذ يواصل الجانبان الالتزام باتفاق نقل الغاز الذي تم التوصل إليه بوساطة من الاتحاد الأوروبي لعام 2019 الذي تنتهي مدته نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024 لتسدل معه واحدة من أقدم وأكبر الروابط الاقتصادية بين روسيا وأوروبا من خلال نقل الغاز. كييف من جهتها أعلنت أنها لن تمدد الاتفاق مع شركة «غازبروم» الروسية، فيما أكد مسؤولون روس أنه لا مفاوضات جارية مع أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي.

الأمن الغذائي

أما بالنسبة إلى الغذاء، فيقول الشافعي: «كل دولة تأثرت بحسب اعتمادها على نفسها، وبحسب علاقتها في الاستيراد من روسيا أو أوكرانيا. دول الشرق الأوسط تعتمد بنسبة 75 في المائة من وارداتها من القمح على أوكرانيا وروسيا. أضف إلى ذلك، محاولة الغرب مساندة أوكرانيا ضد روسيا، وهي أصلاً خرجت من فترة كورونا منهكة». وأضاف: «بالتزامن مع ذلك، ارتفعت أصوات في بريطانيا تطالب بخفض ميزانية الدفاع من أجل التخلص من حالة التضخم، على اعتبار أن بريطانيا لا تملك ما يكفي لإمداد أوكرانيا بالسلاح، فيما أميركا تعاني من ديون تبلغ 33 تريليون دولار ومشكلات داخلية وتضخم، وهي مطالبة بإمداد أوكرانيا للوقوف أمام روسيا التي تعد خصماً غير سهل. الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن نقاط الضعف في التصنيع العسكري في دول الاتحاد الاوروبي وأميركا أيضاً. وكل ذلك شكل ضغوطاً رهيبة على ميزانيتها التي كانت أصلاً مضغوطة».

من جانبه، يؤكد الخبير الدولي في الأمن الغذائي مهاب فؤاد الأعور لـ«الشرق الأوسط»، أن حالة الأمن الغذائي العالمي تتأثر بشكل كبير في الجائحات والأزمات العالمية بين الدول، مشيراً إلى أن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تركت صدمة في أسواق السلع الغذائية وأضعفت التعافي عقب جائحة كورونا، حيث أسهمت في حدوث ركود اقتصادي وارتفاع للأسعار خلال الأعوام الماضية متأثرة بضعف الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والطاقة، وتقويض فرص العمل والدخل للأشخاص الأكثر ضعفاً، وهو ما حال دون حدوث انخفاض في معدلات الجوع المستهدفة عالمياً، حيث توقع التقرير الأخير حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم أن يعاني ما يقرب من 600 مليون شخص من نقص تغذية مزمن في عام 2030. وهو ما يزيد بنحو 23 مليوناً لو لم تحدث الأزمة الروسية الأوكرانية.

ويقول الأعور: «إن دول الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا، حيث تأتي مصر في مقدمة دول الشرق الأوسط التي تعتمد على استيراد الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بما يساوي 23 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2020، وتليها السعودية بمبلغ 17 مليار دولار في الفترة نفسها، وبعدها تركيا بحوالي 12.5 مليار دولار، ثم المغرب بمبلغ 8.7 مليار دولار، والإمارات بـ6.1 مليار دولار، والجزائر بمبلغ 5.5 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2017، ثم تونس والسودان والأردن واليمن وليبيا وفلسطين والكويت وقطر وعمان».

اتفاق الحبوب

وكانت روسيا وافقت على صفقة مع أوكرانيا، بوساطة تركيا والأمم المتحدة، تقضي بتسهيل مرور الصادرات الزراعية الروسية والأوكرانية عبر البحر الأسود لمدة عام انتهى في يوليو (تموز) 2023. وتجرى حالياً مفاوضات لإعادة تفعيل الاتفاق الذي قضى بعودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل الحرب؛ أي تصدير 5 ملايين طن متري شهرياً، وتضمن الاتفاق عدة بنود وقَّع عليها الأطراف الأربعة.

ونصَّ الاتفاق على أنه يقضي بتفتيش السفن المشاركة في تصدير الحبوب الأوكرانية عند الدخول والخروج من البحر الأسود للتأكد من عدم حمل أسلحة على متنها، وهذا ما قد أعلن عنه أطراف الاتفاق، كما تضمن الاتفاق أنه تُصدر الحبوب من خلال ثلاثة موانئ بحرية هي: أوديسا، ووچورنوموركس، ويوزهنو، على أن تكون تلك الموانئ مطلة على البحر الأسود، وأهم تلك الموانئ ميناء أوديسا الذي يطل على البحر الأسود.

متى التعافي؟

هل هناك أمل بالتعافي القريب؟ يجيب الشافعي: «التعافي يكون في كل دولة بحسب وضعها وإمكاناتها وقدراتها على التعامل مع الصدمة. هناك دول بدأت تتحدث عن تعاف مثل بريطانيا التي أفادت آخر الأرقام بأن التضخم فيها نزل من 11 في المائة إلى 2 في المائة، وهذا أكبر معدل هبوط للتضخم على مدار 50 سنة، لكن التأثير سيبقى قوياً ما دامت هاتان الحربان قائمتين».

عمال يجلسون أمام لافتة كُتب عليها: «أوقفوا وحش التضخم» في ميناء هامبورغ (رويترز)

أما الأعور فيؤكد أن «الأزمة تسببت في تباطؤ التعافي في عام 2022 بنسبة نقطة مئوية واحدة حيث سجل 3.4 نقطة مئوية فقط. كما أن مؤشر منظمة الفاو لأسعار الأغذية قفز لأعلى مستوى له على الإطلاق في مارس (آذار) 2022. وهو ما رفع فاتورة واردات الأغذية في العالم لأعلى مستوى لها في 2022، كما شهدت فاتورة واردات المدخلات الزراعية العالمية زيادة بنسبة 48 في المائة لتصل إلى 424 مليار دولار أمريكي في العام نفسه. وارتفعت معدلات التضخم طوال عام 2022 في جميع الاقتصادات تقريباً، وتجاوز التضخم الكلي العالمي 9 في المائة خلال النصف الثاني من العام، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1995».

وتأتي أهمية الأزمة لكونها شملت اثنين من منتجي السلع الرئيسيين في العالم، حيث كانا في 2021 من بين أكبر ثلاثة مصدرين عالميين للقمح والذرة وبذور اللفت وأقراص بذور دوار الشمس. كما أن روسيا تعدّ مصدراً بارزاً للأسمدة. وفي الفترة بين عامي 2016 و2021، أنتجت أوكرانيا وروسيا أكثر من 50 في المائة من إمدادات العالم من بذور دوار الشمس، و19 في المائة من الشعير في العالم، و14 في المائة من القمح، و30 في المائة من صادرات القمح العالمية، مع اعتماد ما لا يقل عن 50 دولة على روسيا وأوكرانيا للحصول على 30 في المائة أو أكثر من إمدادات القمح.

وفي تقرير منفصل، رفعت منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، توقعاتها للإنتاج العالمي من الحبوب في 2024 بنحو 7.9 طن بزيادة 0.3 في المائة لتصل إلى 2.854 مليار طن بزيادة طفيفة على مستويات 2023 ليسجل أعلى مستويات له على الإطلاق.

ويضيف الأعور: «تم اتخاذ إجراءات لمواجهة التحديات عبر استراتيجيات لتغيير النظم الغذائية والعمل على توفير أنظمة غذائية صحية مستدامة وميسورة التكلفة، وتشمل دمج السياسات الإنسانية والإنمائية وسياسات بناء السلام في المناطق المتضررة من الصراعات، وتعزيز قدرة الفئات الأكثر تضرراً على مواجهة الأزمات الاقتصادية، والمشاركة في إدارة سلاسل الإمداد الغذائي لخفض تكاليف المواد الغذائية، وحل مشكلة الفقر وعدم المساواة، وتعزيز البيئات الغذائية وتغيير سلوك المستهلك لتعزيز الأنماط الغذائية ذات الآثار الإيجابية على صحة الإنسان والبيئة، فضلاً عن السياسات التي تم اتخاذها في كل بلد على حدة لمواجهة تلك المشكلات».

النداءات الإنسانية

أطفال فلسطينيون يبحثون عن بقايا طعام في القمامة في منطقة دير البلح بعد انتشار المجاعة جراء الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة (دي بي أي)

الأزمات التي تعاني منها الدول، خصوصاً الدول المانحة، انعكست سلباً على مساعدة الفئات الأكثر تضرراً من الحروب. ويقول الشافعي: «في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية غادر أوكرانيا 7 ملايين شخص إلى دول أوروبا. والأمم المتحدة تقول إن هناك 15 مليوناً في حاجة إلى الغوث. ومن ثم فهذه الحرب سببت ضغطاً شديداً على هذه الدول التي لديها مشكلاتها ومصاعبها المالية، ما جعل نداءات الأمم المتحدة لتمويل اللاجئين تقابل باستجابات ضعيفة جداً. وإذا أضفت إلى ذلك حركة اللجوء الفلسطيني الآن والاحتياج الإنساني نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة وضرب منظمة أونروا وما إلى ذلك، فهي تحتاج إلى مصاريف أكثر ودعم أكبر».

تأثير حرب غزة

وبالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن تأثيرها المباشر والكبير كان على إسرائيل نفسها، إذ تعطل الاقتصاد الإسرائيلي وتكبد خسائر فادحة، حيث أظهرت معطيات بنك إسرائيل ووزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى نهاية مارس 2024، بلغت أكثر من 270 مليار شيقل (73 مليار دولار).

وبحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن كلفة الحرب اليومية منذ 7 أكتوبر حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، بلغت مليار شيقل يومياً (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيقل (94 مليون دولار).

لكن تأثير هذه الحرب على الاقتصاد العالمي نتج عن الهجمات المستمرة لـ«الحوثيين» (الانقلابيين اليمنيين) على السفن في البحر الأحمر، ما تسبب في تراجع حركة مرور السفن بشكل كبير، وانخفض حجم التجارة في مضيق باب المندب، الذي تمر عبره السفن للوصول إلى قناة السويس من المحيط الهندي، بنسبة كبيرة.

وأفاد رئيس هيئة قناة السويس المصرية أسامة ربيع، في أحدث بيان، بأن عدد السفن التي تستخدم القناة انخفض إلى 20148 سفينة في عام 2023-2024 من 25911 سفينة في العام المالي الذي سبقه 2022-2023، وبالتالي تراجعت إيراداتها إلى 7.2 مليار دولار من 9.4 مليار دولار .

وقدّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (ومركزها باريس)، الاثنين 5 فبراير 2024، أنّ الارتفاع الأخير في أسعار الشحن البحري قد يؤدي إلى زيادة تضخم أسعار الواردات في بلدان المنظّمة الثمانية والثلاثين بنحو 5 نقاط مئوية إذا استمرت هذه الزيادة بأسعار الشحن، وفق ما نقلت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية المختصّة بالاقتصاد.

سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس المصرية (الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس)

يعلق الشافعي على ذلك بالقول: «بالنسبة إلى حرب غزة ما كان ليكون لها تأثير دولي لولا التحرك الإيراني في الأساس، الذي ينفذه الحوثيون في البحر الأحمر، لعرقلة الملاحة فيه. قناة السويس يمر فيها 12 في المائة من التجارة العالمية، ومن هنا جاء التأثير على 12 في المائة من حركة التجارة العالمية. ووفق بيانات هيئة قناة السويس، فإن مرور السفن ناقلات المستوعبات انخفض بنسبة 67 في المائة، ومن ثم فإن هذه السفن أصبحت تتفادى المرور في البحر الأحمر وتذهب عبر رأس الرجاء الصالح، ما زاد كلفة النقل نتيجة زيادة المسافة التي أصبحت تقطعها 6 آلاف كيلومتر و15 يوماً في الملاحة، ومن ثمّ زيادة في استهلاك الوقود والوقت في إيصال البضائع، ما انعكس سلباً على التجارة العالمية، إضافة إلى تسديد المستهلكين هذه الأثمان الإضافية».

وعلى الرغم من تأزم الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، فإن صندوق النقد الدولي يرى أن هناك تعافياً عالمياً مطرداً «لكنه بطيء ويختلف من منطقة إلى أخرى». ويقول الصندوق في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي 2024 – 2025» الصادر في أبريل (نيسان) الماضي: «تشير تنبؤات السيناريو الأساسي إلى استمرار نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 في المائة خلال عامي 2024 و2025، وتراجع التضخم العالمي باطراد، من 6.8 في المائة في 2023 إلى 5.9 في المائة في 2024، و4.5 في المائة في 2025، مع عودة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة في وقت أقرب من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن المتوقع بوجه عام أن يشهد التضخم الأساسي تراجعاً بشكل أكثر تدرجاً.


مقالات ذات صلة

قيود حوثية جديدة تستهدف طالبات كُبرى الجامعات اليمنية

المشرق العربي طالبات جامعة صنعاء في مواجهة قيود حوثية جديدة (غيتي)

قيود حوثية جديدة تستهدف طالبات كُبرى الجامعات اليمنية

بدأت الجماعة الحوثية إجراءات جديدة لتقييد الحريات الشخصية للطالبات الجامعيات والتضييق عليهن، بالتزامن مع دعوات حقوقية لحماية اليمنيات من العنف.

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
المشرق العربي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني ونائبه خلال استقبال المبعوث الأميركي والسفير فاجن... الاثنين (سبأ)

جهود إقليمية ودولية لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن برعاية أممية

شهدت العاصمة السعودية، الرياض، في اليومين الماضيين، حراكاً دبلوماسياً نشطاً بشأن الملف اليمني، ركَّز على الجهود الإقليمية والدولية لخفض التصعيد.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
العالم العربي جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

تتزايد أعداد القتلى من قيادات الجماعة الحوثية الذين يجري تشييعهم دون الإشارة إلى أماكن سقوطهم، بالتوازي مع مقتل مشرفين حوثيين على أيدي السكان.

وضاح الجليل (عدن)
أوروبا مدنيون يرتدون زياً عسكرياً يشاركون في تدريب عسكري من قبل جنود أوكرانيين في كييف (أ.ف.ب)

تقرير: بمساعدة الحوثيين... روسيا تجند يمنيين للقتال في أوكرانيا

أفاد تقرير صحافي أن روسيا تقوم بتجنيد رجال من اليمن لإرسالهم إلى الجبهة في أوكرانيا بمساعدة من الحوثيين في اليمن.

«الشرق الأوسط» (لندن )
شؤون إقليمية ناقلة نفط في البحر الأحمر (رويترز)

أنقرة تدين هجوم الحوثيين على سفينة شحن تركية

أدانت وزارة الخارجية التركية، اليوم (الأربعاء)، الهجوم الصاروخي الذي شنّه الحوثيون المتحالفون مع إيران على سفينة الشحن ذات الملكية التركية «أناضولو إس».

«الشرق الأوسط» (أنقرة )

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».