روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

10 ملايين مهاجر من آسيا الوسطى... فئات هشة تتحول هدفاً سهلاً للتجنيد

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
TT

روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)

شهر كامل مر على الهجوم الدموي المروع الذي استهدف المركز التجاري الترفيهي «كروكوس» قرب العاصمة الروسية موسكو، ولم يستفق بعد الجزء الأعظم من الروس من الصدمة.

استغرقت العملية نحو ربع ساعة فقط، منذ أن ترجل أربعة مسلحين من سيارة رينو بيضاء، واقتحموا البوابات بسهولة، وفتحوا نيراناً كثيفة من أسلحة آلية على كل من وقع في طريقهم نحو قاعة احتفالات موسيقية. في القاعة ألقوا عبوات ناسفة أشعلت النيران في المبنى. من لم يقتل بالرصاص مات اختناقاً أو بسبب الحروق.

هجوم رسمت تفاصيله بدقة. ولكن أيضاً ببساطة مذهلة.

كان المهاجمون يعرفون سلفاً الطريق التي سوف يسلكونها. ويعرفون جيداً أن رجال الأمن في المكان ليسوا مسلحين إلا بما تيسر من هراوات وآلات صاعقة لم تصمد للحظة أمام هجوم البنادق والرصاص.

ربع ساعة زلزلت روسيا، وأعادت إلى الأذهان سلسلة كاملة من مآسي الهجمات الانتحارية وتفجير المباني السكنية، واستهداف الطائرات المدنية في بداية الألفية الثالثة.

سرعان ما تبين أن المهاجمين الأربعة من طاجكستان. الجمهورية الآسيوية الوادعة، التي تعد من بين البلدان الأفقر في الفضاء السوفياتي السابق، والتي تدفع معدلات البطالة وانعدام فرص العمل فيها فئات الشباب إلى الهجرة شمالاً نحو روسيا بحثاً عن حياة أفضل وعن فرص عمل في البلد الجار الكبير.

صور للمشتبه بهم الأربعة في تنفيذ الهجوم نُشرت مع بدء محاكمتهم بموسكو (أ.ف.ب)

صحيح أن الرواية الرسمية الروسية وجهت أصابع الاتهام إلى أوكرانيا، وربطت الهجوم بـ«الحرب الشاملة» من جانب الغرب على روسيا. وحتى عندما اتضح أن منفذي الهجوم ومن عاونهم في التحرك داخل روسيا ومن زودهم بـالمتفجرات والسلاح والمال ينخرطون مباشرة في صفوف تنظيم «داعش - خراسان»، ظلت موسكو مصممة على روايتها بأن الأجهزة الأوكرانية والغربية استخدمت إرهابيين لتحقيق أغراضها.

نتيجة التحقيقات الأولية فتحت على مخاوف جدية؛ خصوصاً أن المتهمين الـ13 الذين يقبعون حالياً في سجن التحقيق، أعلنوا خلال الاستجواب ارتباطهم بتنظيم «داعش - خراسان» الذي ينشط في منطقة آسيا الوسطى، وبعضهم كان قد مارس نشاطات في داغستان الواقعة في منطقة شمال القوقاز، وتعد الخاصرة الرخوة لروسيا ومركز النشاط المسلّح للمجموعات المتشددة.

مرة واحدة، أعاد هجوم كروكوس إلى الواجهة فزاعة «الإرهاب الإسلامي» الذي عاشت معه روسيا سنوات صعبة. ومرة واحدة بات ملايين المسلمين الذين قادتهم أحوالهم المعيشية القاسية للهجرة من أوطانهم في قفص اتهام كبير، حتى وصل الأمر إلى أن تصفهم تعليقات في وسائل إعلام حكومية بأنهم «قنبلة موقوتة» تهدد روسيا.

من جحيم الفقر إلى دائرة الاتهام

يعيش في روسيا وفقاً لتقديرات دوائر الإحصاء نحو 17 مليون أجنبي. وهو رقم كبير للغاية بالنسبة إلى بلد لا يزيد عدد سكانه على 144 مليون نسمة، ولا يشجع تقليدياً على الهجرة إليه، كما أنه لا يمنح امتيازات للمهاجرين الجدد.

بين هؤلاء نحو 10 ملايين نسمة من جمهوريات آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان).

قوات الأمن الروسية تنتشر في الميدان الأحمر بموسكو عقب أسبوع من هجوم دامٍ في قاعة للحفلات قرب العاصمة الروسية (أ.ف.ب)

يصعب وضع أرقام مؤكدة عن نسب المهاجرين غير الشرعيين منهم، أي أولئك الذين اجتازوا الحدود وخالفوا قوانين الهجرة والإقامة منذ سنوات. إذ تراوح تقديرات الأجهزة المختصة لحجم هذه الفئة بين أربعة ملايين وسبعة ملايين مهاجر ليسوا مسجلين لدى دوائر الدولة.

يعيش الجزء الأعظم من هؤلاء في ظروف معيشية قاسية، داخل تجمعات مغلقة، غالباً ما تكون مستودعات تابعة لأصحاب الأعمال في مجالات مختلفة على رأسها قطاع البناء. ويتكدس عشرات من العمال الوافدين داخل غرف ضيقة وغير مجهزة للسكن. أو يختار كثيرون أن يسكنوا داخل ما يسمى «الغرف المطاطية» وهو تعبير رائج لشقق سكنية ضيقة أو مبان ينحشر فيها عدد كبير من الوافدين يفوق قدرتها الاستيعابية الطبيعية، طمعاً في توفير أجرة المسكن وتقليص النفقات الخاصة بالمأكل والنفقات المعيشية الضرورية الأخرى.

ولا تعد مشكلة العمالة الوافدة حديثة العهد في روسيا، فقد ظلت تؤرق الأجهزة الخاصة على مدى سنوات طويلة، لكن التركيز عليها يشتد أو يتراخى وفقاً للظروف التي تعيشها البلاد. فمثلا زادت ظروف الحرب في أوكرانيا من الحاجة للعمالة الرخيصة، واستفادت قطاعات اقتصادية واسعة من «جيش العمال الوافدين» لتطوير أعمالها وخصوصاً في مجالات البناء والنقل والتنظيفات وبعض الصناعات والخدمات الأخرى.

أيضاً، أطلقت موسكو سلسلة تسهيلات للإفادة من هذا الجيش البشري الكبير عبر تبسيط إجراءات الحصول على الجنسية وتصويب الوضع القانوني للمهاجرين غير الشرعيين في مقابل الخدمة على الجبهة لفترات محددة لسد النقص في القوة البشرية المطلوبة.

في المقابل، فإن هجوم كروكوس أعاد التذكير بالخطر الكامن، وبرزت تحذيرات من سهولة تجنيد إرهابيين في مقابل مبالغ مالية محدودة. يكفي القول إن منفذي هجوم كركوس حصلوا على مبلغ متواضع للغاية مقابل تنفيذ الهجوم الدموي، ودلت الاعترافات على أن المخططين حولوا مبالغ نقدية بقيمة نصف مليون روبل (5000 دولار) ووعدوا بدفع مبلغ مماثل بعد إتمام العملية.

مباشرة بعد الهجوم، رفعت روسيا درجة التأهب حيال مشكلة العمالة الوافدة إلى أقصى مستوى.

جاءت إشارة البداية من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أمر بتجديد جذري لسياسات الهجرة. ودعا أمام مجلس إدارة وزارة الداخلية، وكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة بالعمل مع الوزارة والتنسيق مع الحكومة والإدارة الرئاسية، لتحقيق هذا الهدف.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أرشيفية - د.ب.أ)

مباشرة بدأت حملة واسعة من عمليات الدهم والملاحقة، على أماكن تجمع المهاجرين وظهرت على الفور «الحاجة إلى وضع قواعد بيانات إلكترونية رقمية حديثة».

كما أطلقت وزارة الداخلية مشروع قانون لتشديد سيطرة الدولة على مجال الهجرة. ووفقاً للنسخة الجديدة من القانون يخضع الأجانب لتدابير صارمة للغاية وتخفض أيضاً فترة إقامتهم في البلاد إلى 90 يوماً في السنة.

سفر معاكس

بعد الهجوم الإرهابي على كروكوس مباشرة، سجلت الدوائر المختصة عمليات سفر جماعي للعمال الوافدين، وخصوصاً بين مواطني طاجيكستان.

وقال نائب وزير العمل في الجمهورية، شاخنوزا نوديري، إن عمليات الفرار الجماعي «لا تتعلق على الأرجح بالمضايقات الأمنية، بل بتفشي الخوف والذعر من عمليات انتقامية محتملة».

رغم ذلك، توقعت الوزارة أن يكون التدفق ظاهرة مؤقتة ودعت مواطنيها إلى عدم الاستسلام للرسائل الاستفزازية التي انتشرت بكثرة على الإنترنت وحملت تهديدات لمواطني طاجيكستان في روسيا.

ووفقاً لوزارة العمل في طاجيكستان، يقطن في روسيا أكثر من مليون طاجيكي غالبيتهم الساحقة عمال معدمون لا يتمتعون بخبرات عملية أو كفاءات مهنية.

في عام 2023، قدم 627 ألف طاجيكي إلى روسيا للعمل. ووفقاً لتقارير مؤسسة «روس ستات» الإحصائية، فإن هذا يعادل ربع عدد الأجانب الذين دخلوا البلاد.

عمّال ممنوعون من العمل

اللافت أنه في غمار النقاشات حول «الخطر» الذي يحمله المهاجرون من منطقة آسيا الوسطى، وعلى خلفية الأجواء الأمنية المكثفة بعد الهجوم، سارعت بعض المناطق والقطاعات إلى وضع تشريعات جديدة تحظر توظيف العمال الوافدين، وخصوصاً في المناطق الحساسة والحدودية مع أوكرانيا؛ حيث تتنامى المخاوف من استخدام متشددين لشن هجمات.

وهكذا، أعلنت سلطات شبه جزيرة القرم حظر استخدام العمالة الوافدة في عشرات المهن في هذه المنطقة.

وبدأت عمليات واسعة لـ«تطهير» الإقليم منهم. وفقاً للعملية الجارية حالياً سيتم حتى نهاية عام 2024، توسيع الحظر الشامل على جذب الأجانب للعمل في إنتاج المحاصيل وصيانة المباني والأقاليم وجمع النفايات والتخلص منها. ووقع رئيس الإقليم المعين من جانب موسكو سيرغي أكسينوف مرسوماً بهذا الشأن.

عمال تنظيف النوافذ يستخدمون الحبال الهوائية لتنظيف نوافذ مطار دوموديدوفو في موسكو ويملكه رجل الأعمال الروسي دميتري كامينشيك (خدمة غيتي للصور)

ووفقاً للتدابير الجديدة سيتعرض المهاجرون للمسؤولية الجنائية والطرد من البلاد بسبب أي انتهاك.

وتشمل قائمة المجالات التي يتم فيها فرض قيود على عمل الأجانب إنتاج المحاصيل وتربية الماشية والصيد، والتعدين، وإنتاج الأغذية والمشروبات، وتوفير الكهرباء والغاز، وجمع ومعالجة مياه الصرف الصحي. كما يُحظر على العمال المهاجرين في شبه جزيرة القرم العمل في تجارة الجملة والتجزئة (باستثناء مبيعات السيارات والدراجات النارية)، في التلفزيون والراديو، في المعاملات العقارية في التعليم، في مجال الرياضة والترفيه والتسلية. بالإضافة إلى ذلك، لن يتمكن الأجانب في المنطقة من مزاولة أعمال النشر والتأجير، أو العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، في المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف.

ووفقاً لخبراء سوف يؤثر الحظر المفروض على توظيف المهاجرين على إنتاج المنتجات المطاطية والبلاستيكية، ومصايد الأسماك وتربيتها، والهندسة المعمارية والتصميم الهندسي، ومجالات التوظيف واختيار الموظفين.

أثر بالغ على الإنتاج

في مناطق أخرى من البلاد بينها العاصمة موسكو قرر عدد من مديري شركات الإدارة إعطاء الأولوية عند التوظيف للسكان المحليين. لكنْ هذه التدابير وكثير مثلها أثارت مخاوف جدية لدى قطاعات اقتصادية واسعة. ويقول سيرغي كوستيوتشينكوف، رئيس لجنة الإسكان والخدمات المجتمعية بغرفة التجارة والصناعة: «على مدى السنوات العشرين الماضية، ركزت روسيا على جذب المهاجرين غير المهرة، واليوم باتوا يشكلون جزءاً كبيراً من اقتصادنا». مشيراً إلى أنه «من المستحيل الآن رفض خدماتهم».

وأوضح الخبير الاقتصادي فياتشيسلاف بوستافنين أنه «سوف تنهار الخدمات السكنية والمجتمعية والزراعة والنقل وغيرها من الصناعات». وأضاف أنه لا يوجد مثال واحد في العالم تطورت فيه دولة ذات عدد سكان منخفض دون تدفقات الهجرة.

وباتت روسيا حالياً، وفقاً للخبراء تواجه معضلة واختياراً صعباً بين المتطلبات الأمنية والحاجة إلى تشديد خطط السيطرة الكاملة على حياة المهاجرين في الاتحاد الروسي والمحافظة في الوقت ذاته على تلبية الحاجة الماسة إليهم بين أصحاب العمل الروس.

وهو أمر أوضحه الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إيمانجالي تاسماجامبيتوف عندما قال إنه من المهم للغاية التصرف «بهدوء» وعدم الانجرار للأفعال العاطفية، محذراً من «أخطاء يمكن أن تكون لها عواقب سلبية للغاية وطويلة الأمد». في هذا الإطار يضع المسؤول الإقليمي بين المخاطر، التأثيرات على مستوى العلاقات ببلدان الجوار الروسي، وزاد أنه «من المهم للغاية عدم السماح بتدهور الوضع في مجال سياسة الجنسية والهجرة في روسيا. وإذا تم اتخاذ خطوات تؤدي إلى الضغط على العمالة المهاجرة من دول آسيا الوسطى، فإن ذلك سيؤدي إلى نزوحهم الجماعي. المشكلة، بالطبع، ليست فقط أن هذا سيؤثر سلباً على قطاعات معينة من الاقتصاد الروسي؛ حيث يوجد نقص موضوعي في العمال، ولكن أولاً وقبل كل شيء، سيحفز المشاعر المعادية لروسيا في بلدان الجوار». وحذّر تاسماجامبيتوف من أن هذا المسار سوف يقود إلى تلبية أهداف المبادرين والمنفذين للهجوم الإرهابي في قاعة كروكوس.

هل ينجح «داعش» في التمدد داخل روسيا؟

واحد من الأسئلة الرئيسية التي طرحها إرهاب كروكوس بقوة، حول قدرة تنظيم «داعش خراسان»، الذي تحول وفقاً لخبراء إلى الكتلة الرئيسية للتنظيم على المستوى الدولي، على التمدد داخل روسيا وتشكيل خطر جدي مستقبلي.

لفت الأنظار في هذا السياق أن التنظيم أعلن مسؤوليته عن العملية في منطقة تعد تقليدياً منطقة نشاط فرع شمال القوقاز، بمعنى أنه استخدم هجوم كروكوس للإعلان رسمياً عن انتقال نشاطه إلى الداخل الروسي، ووضع فرع شمال القوقاز تحت قيادته مباشرة. ويدعم هذه الفرضية أن العناصر التي قامت بتسهيل تنقل المنفذين وتزويدهم بالسلاح هم من المتشددين في داغستان.

جندي أفغاني يتفقد مبنى تضرر خلال عملية ضد تنظيم «داعش خراسان» في منطقة آسين في أفغانستان ويعتقد أن حافظ سعيد خان، أمير التنظيم في مقاطعة خراسان، قُتل خلالها (أرشيفية- خدمة غيتي للصور).

يقول الخبير الأوزبكي البارز في شؤون الإرهاب، فيكتور ميخائيلوف، إن القائمين على تجنيد متطوعين في روسيا من بين العمال المهاجرين، باتوا ينجحون في تحقيق خطوات واسعة، رغم أنهم يواجهون عقبات في إرسال المجندين إلى مناطق أخرى، بسبب الصعوبات اللوجيستية.

وبحسب ميخائيلوف، فإن التنظيم الدولي يعمل حالياً على تثبيت فكرة مغايرة لمبدأ عمل تنظيم «القاعدة» سابقاً، الذي ركز على «الهجرة من أجل الجهاد»، فنشاط «داعش» كما يقول الخبير يقوم في روسيا على «إحلال الخلايا الجهادية داخل مناطق العدو».

بهذا المعنى تشكل روسيا نقطة حساسة، لأنها أحد مراكز التوظيف النشط بين العمال المهاجرين الذين يسهل العمل في أوساطهم.

وفي رأي الخبير فإن جميع الهجمات الإرهابية التي ارتكبها «داعش» لها سمات مشتركة، «وهم يعرفون كيفية العثور على منفذين» وكيف يمكن توجيه «الضربات» في المناسبات العامة.

كمثال؛ يقول ميخائيلوف إن مواطني أوزبكستان المقيمين حالياً في روسيا يبلغ تعدادهم نحو مليون و200 ألف، «وهذه الفئات الاجتماعية ضعيفة للغاية، ولدينا دراسة كاملة حول هذا الموضوع. لقد تواصلنا مع القائمين بالتجنيد أنفسهم ومع أولئك الذين تم تجنيدهم، ونعرف جميع خوارزمياتهم جيداً».

يقول ميخائيلوف إن تعبير «القنبلة الموقوتة» الذي تم إطلاقه على المهاجرين من منطقة آسيا الوسطى لا يعكس مبالغة كبيرة لجهة سهولة عمل التنظيم الإرهابي في أوساط العمال الوافدين.

لتوضيح الفكرة، ينطلق من أن «داعش» خلافاً لتنظيم «القاعدة» الذي كان ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، يفضل العمل المباشر مع المرشحين للتجنيد. كما أن التجنيد المباشر لا يحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعداد كوادر متشددة نفسياً وقتالياً، كما كان يفعل تنظيم «القاعدة»، لأن الحاجة هنا تتلخص في إعطاء تعليمات بتنفيذ عملية محددة هدفها الترويع إلى أقصى درجة، و«إذا نجح المنفذ في الفرار بعد ذلك فهذا جيد وإذا لم ينجح فلا بأس».

ووفقاً لهذه الرؤية، يرى الخبير أن فرص توظيف الإرهابيين في روسيا كبيرة للغاية، لأن تلك الفئات الهشة الضعيفة تعد وسطاً جيداً جداً للتعامل معها.

ويضيف: «هم ببساطة شبه متعلمين، ولا يعرفون القرآن جيداً، ويتغذون على قصاصات من المواعظ وما يوضع في آذانهم. مع هؤلاء المرشحين يبدأ مسؤول التوظيف عملاً محدداً. ولذلك، في أغلب الأحيان يجد القائم بالتجنيد مجنديه المحتملين في المساجد بين الشباب المتحمسين دينياً. وفي الوقت نفسه، فإنهم صادقون في دوافعهم، ويتجنبون، على سبيل المثال، المخدرات والكحول، مثل المؤمنين المسلمين الحقيقيين».

وتشير الإحصاءات التي استند إليها الخبير إلى أنه «بين كل 10 أشخاص يعمل معهم المجند، واحد فقط مستعد للذهاب نحو عمل تفجيري أو هجوم مسلح». ورغم أن النسبة ليست كبيرة جداً لكنها تبقى خطيرة للغاية.

أيضا يرى ميخائيلوف أن تمدد نشاط «داعش» في روسيا يصنع مشكلتين كبيرتين: «الأولى هي أن رُهاب المهاجرين سوف يتطور داخل البلاد. والمشكلة الثانية هي مع مصير هؤلاء المهاجرين الذين سيضطرون إلى الخروج من (بلد الكسب)، وسيضطرون إلى العودة إلى ديارهم. فماذا سيحدث إذا عاد ما لا يقل عن 150 إلى 200 ألف مهاجر إلى دول آسيا الوسطى؟». ويتابع قوله: «ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن كل مهاجر يطعم خمسة أفراد من أسرته على الأقل. هذا سوف يخلق وضعاً صعباً وخطيراً للغاية، ويجعل تجنيد إرهابيين جدد في هذه البيئة أمراً بسيطاً للغاية». وهكذا فإن «ولاية خراسان» وفقاً له، بعد أن نفذت الهجوم الإرهابي في روسيا: «حققت مائة في المائة من أهدافها».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.