روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

10 ملايين مهاجر من آسيا الوسطى... فئات هشة تتحول هدفاً سهلاً للتجنيد

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
TT

روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)

شهر كامل مر على الهجوم الدموي المروع الذي استهدف المركز التجاري الترفيهي «كروكوس» قرب العاصمة الروسية موسكو، ولم يستفق بعد الجزء الأعظم من الروس من الصدمة.

استغرقت العملية نحو ربع ساعة فقط، منذ أن ترجل أربعة مسلحين من سيارة رينو بيضاء، واقتحموا البوابات بسهولة، وفتحوا نيراناً كثيفة من أسلحة آلية على كل من وقع في طريقهم نحو قاعة احتفالات موسيقية. في القاعة ألقوا عبوات ناسفة أشعلت النيران في المبنى. من لم يقتل بالرصاص مات اختناقاً أو بسبب الحروق.

هجوم رسمت تفاصيله بدقة. ولكن أيضاً ببساطة مذهلة.

كان المهاجمون يعرفون سلفاً الطريق التي سوف يسلكونها. ويعرفون جيداً أن رجال الأمن في المكان ليسوا مسلحين إلا بما تيسر من هراوات وآلات صاعقة لم تصمد للحظة أمام هجوم البنادق والرصاص.

ربع ساعة زلزلت روسيا، وأعادت إلى الأذهان سلسلة كاملة من مآسي الهجمات الانتحارية وتفجير المباني السكنية، واستهداف الطائرات المدنية في بداية الألفية الثالثة.

سرعان ما تبين أن المهاجمين الأربعة من طاجكستان. الجمهورية الآسيوية الوادعة، التي تعد من بين البلدان الأفقر في الفضاء السوفياتي السابق، والتي تدفع معدلات البطالة وانعدام فرص العمل فيها فئات الشباب إلى الهجرة شمالاً نحو روسيا بحثاً عن حياة أفضل وعن فرص عمل في البلد الجار الكبير.

صور للمشتبه بهم الأربعة في تنفيذ الهجوم نُشرت مع بدء محاكمتهم بموسكو (أ.ف.ب)

صحيح أن الرواية الرسمية الروسية وجهت أصابع الاتهام إلى أوكرانيا، وربطت الهجوم بـ«الحرب الشاملة» من جانب الغرب على روسيا. وحتى عندما اتضح أن منفذي الهجوم ومن عاونهم في التحرك داخل روسيا ومن زودهم بـالمتفجرات والسلاح والمال ينخرطون مباشرة في صفوف تنظيم «داعش - خراسان»، ظلت موسكو مصممة على روايتها بأن الأجهزة الأوكرانية والغربية استخدمت إرهابيين لتحقيق أغراضها.

نتيجة التحقيقات الأولية فتحت على مخاوف جدية؛ خصوصاً أن المتهمين الـ13 الذين يقبعون حالياً في سجن التحقيق، أعلنوا خلال الاستجواب ارتباطهم بتنظيم «داعش - خراسان» الذي ينشط في منطقة آسيا الوسطى، وبعضهم كان قد مارس نشاطات في داغستان الواقعة في منطقة شمال القوقاز، وتعد الخاصرة الرخوة لروسيا ومركز النشاط المسلّح للمجموعات المتشددة.

مرة واحدة، أعاد هجوم كروكوس إلى الواجهة فزاعة «الإرهاب الإسلامي» الذي عاشت معه روسيا سنوات صعبة. ومرة واحدة بات ملايين المسلمين الذين قادتهم أحوالهم المعيشية القاسية للهجرة من أوطانهم في قفص اتهام كبير، حتى وصل الأمر إلى أن تصفهم تعليقات في وسائل إعلام حكومية بأنهم «قنبلة موقوتة» تهدد روسيا.

من جحيم الفقر إلى دائرة الاتهام

يعيش في روسيا وفقاً لتقديرات دوائر الإحصاء نحو 17 مليون أجنبي. وهو رقم كبير للغاية بالنسبة إلى بلد لا يزيد عدد سكانه على 144 مليون نسمة، ولا يشجع تقليدياً على الهجرة إليه، كما أنه لا يمنح امتيازات للمهاجرين الجدد.

بين هؤلاء نحو 10 ملايين نسمة من جمهوريات آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان).

قوات الأمن الروسية تنتشر في الميدان الأحمر بموسكو عقب أسبوع من هجوم دامٍ في قاعة للحفلات قرب العاصمة الروسية (أ.ف.ب)

يصعب وضع أرقام مؤكدة عن نسب المهاجرين غير الشرعيين منهم، أي أولئك الذين اجتازوا الحدود وخالفوا قوانين الهجرة والإقامة منذ سنوات. إذ تراوح تقديرات الأجهزة المختصة لحجم هذه الفئة بين أربعة ملايين وسبعة ملايين مهاجر ليسوا مسجلين لدى دوائر الدولة.

يعيش الجزء الأعظم من هؤلاء في ظروف معيشية قاسية، داخل تجمعات مغلقة، غالباً ما تكون مستودعات تابعة لأصحاب الأعمال في مجالات مختلفة على رأسها قطاع البناء. ويتكدس عشرات من العمال الوافدين داخل غرف ضيقة وغير مجهزة للسكن. أو يختار كثيرون أن يسكنوا داخل ما يسمى «الغرف المطاطية» وهو تعبير رائج لشقق سكنية ضيقة أو مبان ينحشر فيها عدد كبير من الوافدين يفوق قدرتها الاستيعابية الطبيعية، طمعاً في توفير أجرة المسكن وتقليص النفقات الخاصة بالمأكل والنفقات المعيشية الضرورية الأخرى.

ولا تعد مشكلة العمالة الوافدة حديثة العهد في روسيا، فقد ظلت تؤرق الأجهزة الخاصة على مدى سنوات طويلة، لكن التركيز عليها يشتد أو يتراخى وفقاً للظروف التي تعيشها البلاد. فمثلا زادت ظروف الحرب في أوكرانيا من الحاجة للعمالة الرخيصة، واستفادت قطاعات اقتصادية واسعة من «جيش العمال الوافدين» لتطوير أعمالها وخصوصاً في مجالات البناء والنقل والتنظيفات وبعض الصناعات والخدمات الأخرى.

أيضاً، أطلقت موسكو سلسلة تسهيلات للإفادة من هذا الجيش البشري الكبير عبر تبسيط إجراءات الحصول على الجنسية وتصويب الوضع القانوني للمهاجرين غير الشرعيين في مقابل الخدمة على الجبهة لفترات محددة لسد النقص في القوة البشرية المطلوبة.

في المقابل، فإن هجوم كروكوس أعاد التذكير بالخطر الكامن، وبرزت تحذيرات من سهولة تجنيد إرهابيين في مقابل مبالغ مالية محدودة. يكفي القول إن منفذي هجوم كركوس حصلوا على مبلغ متواضع للغاية مقابل تنفيذ الهجوم الدموي، ودلت الاعترافات على أن المخططين حولوا مبالغ نقدية بقيمة نصف مليون روبل (5000 دولار) ووعدوا بدفع مبلغ مماثل بعد إتمام العملية.

مباشرة بعد الهجوم، رفعت روسيا درجة التأهب حيال مشكلة العمالة الوافدة إلى أقصى مستوى.

جاءت إشارة البداية من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أمر بتجديد جذري لسياسات الهجرة. ودعا أمام مجلس إدارة وزارة الداخلية، وكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة بالعمل مع الوزارة والتنسيق مع الحكومة والإدارة الرئاسية، لتحقيق هذا الهدف.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أرشيفية - د.ب.أ)

مباشرة بدأت حملة واسعة من عمليات الدهم والملاحقة، على أماكن تجمع المهاجرين وظهرت على الفور «الحاجة إلى وضع قواعد بيانات إلكترونية رقمية حديثة».

كما أطلقت وزارة الداخلية مشروع قانون لتشديد سيطرة الدولة على مجال الهجرة. ووفقاً للنسخة الجديدة من القانون يخضع الأجانب لتدابير صارمة للغاية وتخفض أيضاً فترة إقامتهم في البلاد إلى 90 يوماً في السنة.

سفر معاكس

بعد الهجوم الإرهابي على كروكوس مباشرة، سجلت الدوائر المختصة عمليات سفر جماعي للعمال الوافدين، وخصوصاً بين مواطني طاجيكستان.

وقال نائب وزير العمل في الجمهورية، شاخنوزا نوديري، إن عمليات الفرار الجماعي «لا تتعلق على الأرجح بالمضايقات الأمنية، بل بتفشي الخوف والذعر من عمليات انتقامية محتملة».

رغم ذلك، توقعت الوزارة أن يكون التدفق ظاهرة مؤقتة ودعت مواطنيها إلى عدم الاستسلام للرسائل الاستفزازية التي انتشرت بكثرة على الإنترنت وحملت تهديدات لمواطني طاجيكستان في روسيا.

ووفقاً لوزارة العمل في طاجيكستان، يقطن في روسيا أكثر من مليون طاجيكي غالبيتهم الساحقة عمال معدمون لا يتمتعون بخبرات عملية أو كفاءات مهنية.

في عام 2023، قدم 627 ألف طاجيكي إلى روسيا للعمل. ووفقاً لتقارير مؤسسة «روس ستات» الإحصائية، فإن هذا يعادل ربع عدد الأجانب الذين دخلوا البلاد.

عمّال ممنوعون من العمل

اللافت أنه في غمار النقاشات حول «الخطر» الذي يحمله المهاجرون من منطقة آسيا الوسطى، وعلى خلفية الأجواء الأمنية المكثفة بعد الهجوم، سارعت بعض المناطق والقطاعات إلى وضع تشريعات جديدة تحظر توظيف العمال الوافدين، وخصوصاً في المناطق الحساسة والحدودية مع أوكرانيا؛ حيث تتنامى المخاوف من استخدام متشددين لشن هجمات.

وهكذا، أعلنت سلطات شبه جزيرة القرم حظر استخدام العمالة الوافدة في عشرات المهن في هذه المنطقة.

وبدأت عمليات واسعة لـ«تطهير» الإقليم منهم. وفقاً للعملية الجارية حالياً سيتم حتى نهاية عام 2024، توسيع الحظر الشامل على جذب الأجانب للعمل في إنتاج المحاصيل وصيانة المباني والأقاليم وجمع النفايات والتخلص منها. ووقع رئيس الإقليم المعين من جانب موسكو سيرغي أكسينوف مرسوماً بهذا الشأن.

عمال تنظيف النوافذ يستخدمون الحبال الهوائية لتنظيف نوافذ مطار دوموديدوفو في موسكو ويملكه رجل الأعمال الروسي دميتري كامينشيك (خدمة غيتي للصور)

ووفقاً للتدابير الجديدة سيتعرض المهاجرون للمسؤولية الجنائية والطرد من البلاد بسبب أي انتهاك.

وتشمل قائمة المجالات التي يتم فيها فرض قيود على عمل الأجانب إنتاج المحاصيل وتربية الماشية والصيد، والتعدين، وإنتاج الأغذية والمشروبات، وتوفير الكهرباء والغاز، وجمع ومعالجة مياه الصرف الصحي. كما يُحظر على العمال المهاجرين في شبه جزيرة القرم العمل في تجارة الجملة والتجزئة (باستثناء مبيعات السيارات والدراجات النارية)، في التلفزيون والراديو، في المعاملات العقارية في التعليم، في مجال الرياضة والترفيه والتسلية. بالإضافة إلى ذلك، لن يتمكن الأجانب في المنطقة من مزاولة أعمال النشر والتأجير، أو العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، في المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف.

ووفقاً لخبراء سوف يؤثر الحظر المفروض على توظيف المهاجرين على إنتاج المنتجات المطاطية والبلاستيكية، ومصايد الأسماك وتربيتها، والهندسة المعمارية والتصميم الهندسي، ومجالات التوظيف واختيار الموظفين.

أثر بالغ على الإنتاج

في مناطق أخرى من البلاد بينها العاصمة موسكو قرر عدد من مديري شركات الإدارة إعطاء الأولوية عند التوظيف للسكان المحليين. لكنْ هذه التدابير وكثير مثلها أثارت مخاوف جدية لدى قطاعات اقتصادية واسعة. ويقول سيرغي كوستيوتشينكوف، رئيس لجنة الإسكان والخدمات المجتمعية بغرفة التجارة والصناعة: «على مدى السنوات العشرين الماضية، ركزت روسيا على جذب المهاجرين غير المهرة، واليوم باتوا يشكلون جزءاً كبيراً من اقتصادنا». مشيراً إلى أنه «من المستحيل الآن رفض خدماتهم».

وأوضح الخبير الاقتصادي فياتشيسلاف بوستافنين أنه «سوف تنهار الخدمات السكنية والمجتمعية والزراعة والنقل وغيرها من الصناعات». وأضاف أنه لا يوجد مثال واحد في العالم تطورت فيه دولة ذات عدد سكان منخفض دون تدفقات الهجرة.

وباتت روسيا حالياً، وفقاً للخبراء تواجه معضلة واختياراً صعباً بين المتطلبات الأمنية والحاجة إلى تشديد خطط السيطرة الكاملة على حياة المهاجرين في الاتحاد الروسي والمحافظة في الوقت ذاته على تلبية الحاجة الماسة إليهم بين أصحاب العمل الروس.

وهو أمر أوضحه الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إيمانجالي تاسماجامبيتوف عندما قال إنه من المهم للغاية التصرف «بهدوء» وعدم الانجرار للأفعال العاطفية، محذراً من «أخطاء يمكن أن تكون لها عواقب سلبية للغاية وطويلة الأمد». في هذا الإطار يضع المسؤول الإقليمي بين المخاطر، التأثيرات على مستوى العلاقات ببلدان الجوار الروسي، وزاد أنه «من المهم للغاية عدم السماح بتدهور الوضع في مجال سياسة الجنسية والهجرة في روسيا. وإذا تم اتخاذ خطوات تؤدي إلى الضغط على العمالة المهاجرة من دول آسيا الوسطى، فإن ذلك سيؤدي إلى نزوحهم الجماعي. المشكلة، بالطبع، ليست فقط أن هذا سيؤثر سلباً على قطاعات معينة من الاقتصاد الروسي؛ حيث يوجد نقص موضوعي في العمال، ولكن أولاً وقبل كل شيء، سيحفز المشاعر المعادية لروسيا في بلدان الجوار». وحذّر تاسماجامبيتوف من أن هذا المسار سوف يقود إلى تلبية أهداف المبادرين والمنفذين للهجوم الإرهابي في قاعة كروكوس.

هل ينجح «داعش» في التمدد داخل روسيا؟

واحد من الأسئلة الرئيسية التي طرحها إرهاب كروكوس بقوة، حول قدرة تنظيم «داعش خراسان»، الذي تحول وفقاً لخبراء إلى الكتلة الرئيسية للتنظيم على المستوى الدولي، على التمدد داخل روسيا وتشكيل خطر جدي مستقبلي.

لفت الأنظار في هذا السياق أن التنظيم أعلن مسؤوليته عن العملية في منطقة تعد تقليدياً منطقة نشاط فرع شمال القوقاز، بمعنى أنه استخدم هجوم كروكوس للإعلان رسمياً عن انتقال نشاطه إلى الداخل الروسي، ووضع فرع شمال القوقاز تحت قيادته مباشرة. ويدعم هذه الفرضية أن العناصر التي قامت بتسهيل تنقل المنفذين وتزويدهم بالسلاح هم من المتشددين في داغستان.

جندي أفغاني يتفقد مبنى تضرر خلال عملية ضد تنظيم «داعش خراسان» في منطقة آسين في أفغانستان ويعتقد أن حافظ سعيد خان، أمير التنظيم في مقاطعة خراسان، قُتل خلالها (أرشيفية- خدمة غيتي للصور).

يقول الخبير الأوزبكي البارز في شؤون الإرهاب، فيكتور ميخائيلوف، إن القائمين على تجنيد متطوعين في روسيا من بين العمال المهاجرين، باتوا ينجحون في تحقيق خطوات واسعة، رغم أنهم يواجهون عقبات في إرسال المجندين إلى مناطق أخرى، بسبب الصعوبات اللوجيستية.

وبحسب ميخائيلوف، فإن التنظيم الدولي يعمل حالياً على تثبيت فكرة مغايرة لمبدأ عمل تنظيم «القاعدة» سابقاً، الذي ركز على «الهجرة من أجل الجهاد»، فنشاط «داعش» كما يقول الخبير يقوم في روسيا على «إحلال الخلايا الجهادية داخل مناطق العدو».

بهذا المعنى تشكل روسيا نقطة حساسة، لأنها أحد مراكز التوظيف النشط بين العمال المهاجرين الذين يسهل العمل في أوساطهم.

وفي رأي الخبير فإن جميع الهجمات الإرهابية التي ارتكبها «داعش» لها سمات مشتركة، «وهم يعرفون كيفية العثور على منفذين» وكيف يمكن توجيه «الضربات» في المناسبات العامة.

كمثال؛ يقول ميخائيلوف إن مواطني أوزبكستان المقيمين حالياً في روسيا يبلغ تعدادهم نحو مليون و200 ألف، «وهذه الفئات الاجتماعية ضعيفة للغاية، ولدينا دراسة كاملة حول هذا الموضوع. لقد تواصلنا مع القائمين بالتجنيد أنفسهم ومع أولئك الذين تم تجنيدهم، ونعرف جميع خوارزمياتهم جيداً».

يقول ميخائيلوف إن تعبير «القنبلة الموقوتة» الذي تم إطلاقه على المهاجرين من منطقة آسيا الوسطى لا يعكس مبالغة كبيرة لجهة سهولة عمل التنظيم الإرهابي في أوساط العمال الوافدين.

لتوضيح الفكرة، ينطلق من أن «داعش» خلافاً لتنظيم «القاعدة» الذي كان ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، يفضل العمل المباشر مع المرشحين للتجنيد. كما أن التجنيد المباشر لا يحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعداد كوادر متشددة نفسياً وقتالياً، كما كان يفعل تنظيم «القاعدة»، لأن الحاجة هنا تتلخص في إعطاء تعليمات بتنفيذ عملية محددة هدفها الترويع إلى أقصى درجة، و«إذا نجح المنفذ في الفرار بعد ذلك فهذا جيد وإذا لم ينجح فلا بأس».

ووفقاً لهذه الرؤية، يرى الخبير أن فرص توظيف الإرهابيين في روسيا كبيرة للغاية، لأن تلك الفئات الهشة الضعيفة تعد وسطاً جيداً جداً للتعامل معها.

ويضيف: «هم ببساطة شبه متعلمين، ولا يعرفون القرآن جيداً، ويتغذون على قصاصات من المواعظ وما يوضع في آذانهم. مع هؤلاء المرشحين يبدأ مسؤول التوظيف عملاً محدداً. ولذلك، في أغلب الأحيان يجد القائم بالتجنيد مجنديه المحتملين في المساجد بين الشباب المتحمسين دينياً. وفي الوقت نفسه، فإنهم صادقون في دوافعهم، ويتجنبون، على سبيل المثال، المخدرات والكحول، مثل المؤمنين المسلمين الحقيقيين».

وتشير الإحصاءات التي استند إليها الخبير إلى أنه «بين كل 10 أشخاص يعمل معهم المجند، واحد فقط مستعد للذهاب نحو عمل تفجيري أو هجوم مسلح». ورغم أن النسبة ليست كبيرة جداً لكنها تبقى خطيرة للغاية.

أيضا يرى ميخائيلوف أن تمدد نشاط «داعش» في روسيا يصنع مشكلتين كبيرتين: «الأولى هي أن رُهاب المهاجرين سوف يتطور داخل البلاد. والمشكلة الثانية هي مع مصير هؤلاء المهاجرين الذين سيضطرون إلى الخروج من (بلد الكسب)، وسيضطرون إلى العودة إلى ديارهم. فماذا سيحدث إذا عاد ما لا يقل عن 150 إلى 200 ألف مهاجر إلى دول آسيا الوسطى؟». ويتابع قوله: «ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن كل مهاجر يطعم خمسة أفراد من أسرته على الأقل. هذا سوف يخلق وضعاً صعباً وخطيراً للغاية، ويجعل تجنيد إرهابيين جدد في هذه البيئة أمراً بسيطاً للغاية». وهكذا فإن «ولاية خراسان» وفقاً له، بعد أن نفذت الهجوم الإرهابي في روسيا: «حققت مائة في المائة من أهدافها».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».