دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
TT

دروس لم يتعلمها بايدن ودفعت أوكرانيا ثمنها

عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)
عسكريون أوكرانيون يبكون زميلاً لهم خلال تشييعه في كييف منتصف ديسمبر (أ.ب)

في الوقت الذي نتهيأ فيه للترحيب بالعام الجديد، ويقترب الصراع الروسي - الأوكراني من ذكراه الثانية، يتساءل الكثيرون على ضفتي الأطلسي حول ما إذا كانت أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ستنتهي هذا العام أم لا. جدير بالذكر أن واشنطن أمدت كييف بالفعل بأكثر من 113 مليار دولار نقداً وأسلحة عالية التقنية. بجانب ذلك، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن إقناع الكونغرس بالموافقة على منحها 67 مليار دولار أخرى. إلا أن المؤسف أن الإجابة جاءت «لا» مدوية.

وعلى خلاف ما أمله الكثيرون، فإن عام 2024 لن يجلب السلام، بل من المحتمل أن يشهد المزيد من إراقة الدماء، في خضم استعداد الأطراف المتحاربة الرئيسية - روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة (بالوكالة) - للمضي في حرب لا نهاية لها. ولا يبدو أن أياً من أطراف النزاع مهتم بوقف القتال، وإنما على العكس من ذلك، يجري تحفيز الثلاثة على المضي قدماً.

من جانبه، يعمل الرئيس الروسي بوتين على زيادة الحد الأقصى لعدد أفراد القوات المسلحة الروسية بمقدار 170 ألف جندي، لتصل إلى كامل قوامها البالغ مليوناً و320 ألف عنصر، كما وافق في الفترة الأخيرة على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري. عام 2024، ستصل النفقات على الدفاع والأمن مجتمعة إلى 40 في المائة من ميزانية روسيا، أي بزيادة قدرها 70 في المائة عن عام 2023. ويعتمد هدف إيرادات روسيا لعام 2024 البالغ 391.2 مليار دولار على أسعار النفط المرتفعة.

في الوقت ذاته، تسعى الحكومة الروسية لاجتذاب مجندين جدداً، من خلال تقديم مبالغ ضخمة من المال مقابل الخدمة في الجيش. ويحصل كبار الجنود المتعاقدين الذين ينضمون إلى ما يسمى بـ«فرقة النخبة القتالية» على أجر ضخم قد يصل إلى مليون روبل (نحو 11.000 دولار).

وعلى رغم الفشل النهائي للهجوم المضاد في الصيف، يرفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاستسلام، بل أعلن عن «مرحلة جديدة من الحرب» في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد أن اعترف بالنقص المستمر في الأسلحة، وتقلص القوات، وخطر فقدان تدفق المساعدات الأمنية والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة وأوروبا، مع تصاعد الصراع بين إسرائيل وجماعة «حماس»، والتي ألقت بظلالها على الحرب الروسية - الأوكرانية.

وقال زيلينسكي خلال مقابلة مع وكالة «أسوشييتد برس» في خاركوف، شمال شرقي أوكرانيا: «انظر، نحن لن نتراجع، وأنا راضٍ». ويواصل الممثل الكوميدي الأوكراني الذي أصبح رئيساً، مناشدة البيت الأبيض للحصول على المزيد من الدولارات الأميركية، بعد أن أرسل وفداً من كبار مسؤوليه إلى واشنطن.

وقال الرئيس الأوكراني خلال مقابلة مع مجلة «تايم»، في أكتوبر (تشرين الأول): «لا أحد يؤمن بانتصارنا مثلي. لا أحد». يأتي ذلك رغم اعتراف القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، قريباً بأن الحرب لا يمكن الفوز بها. وأضاف خلال مقابلة مع مجلة «إيكونوميست» في الأول من نوفمبر، أنه: «على الأرجح لن يكون هناك اختراق عميق وعظيم»، متحدثاً عن حالة التأزم السائدة بالصراع الآن.

ومع أنه من الواضح لأي محلل استخباراتي جاد أن أوكرانيا ليس أمامها سبيل عسكري لإحراز النصر، يواصل الرئيس بايدن تكرار شعاره «مهما تطلب الأمر»، والذي يوجز إلى حد كبير السياسة المضللة والفاشلة التي تنتهجها إدارته تجاه الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

في السادس من ديسمبر (كانون الأول)، في أثناء اجتماع افتراضي لدول مجموعة السبع - التي تضم اليابان والولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي - أكد بايدن التزام بلاده بدعم أوكرانيا «مهما تطلب الأمر».

وفي اليوم نفسه، ناشد بايدن الجمهوريين قائلاً: «لا تدعوا بوتين يفوز»، وحثهم على الموافقة على تمويل إضافي لكييف. ومع ذلك، رفض مجلس الشيوخ الأميركي حزمة المساعدات البالغة 110 مليارات دولار لأوكرانيا وإسرائيل؛ لأن المشرعين الجمهوريين رفضوا دعمها من دون تغييرات ملموسة على سياسة بايدن تجاه أمن الحدود، حيث يتدفق المهاجرون إلى الولايات المتحدة عبر حدودها الجنوبية.

آثار قصف مسيرة روسية في أدويسا جنوب أوكرانيا (إ.ب.أ)

وقال بايدن: «إذا استولى بوتين على أوكرانيا، فلن يتوقف عند هذا الحد». وربما كان يرمي من وراء هذا التصريح إلى تخويف الجميع من أن بوتين ربما يقدم على مهاجمة إحدى الدول الحليفة داخل «الناتو». كما هدد بايدن بإمكانية اضطرار القوات الأميركية إلى قتال القوات الروسية، إذا نفدت أموال أوكرانيا.

ويتناقض تكتيك التخويف هذا مع خطاب واشنطن القائم على فكرة أن الجيش الروسي ضعيف للغاية وغير كفء، لدرجة أنه ليس بإمكانه مجرد إسقاط كييف وزيلينسكي.

والتساؤل هنا: هل يعتقد بايدن حقاً أن بوتين أحمق، أو مجنون انتحاري؟ المؤكد أن الهجوم ضد إحدى دول «الناتو» من شأنه أن يؤدي إلى تفعيل بند «الدفاع المشترك» الوارد بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، ما يضع روسيا في صراع مباشر مع قوات الولايات المتحدة والحلف بأكمله التي تتفوق تقليدياً على جيش موسكو.

وعلى النقيض من بايدن، يبدو بوتين - رغم كونه زعيماً لا يعرف الرحمة - عقلانياً وذكياً للغاية. ويتلخص هدف بوتين الأساسي في استعادة الحاجز الأمني الاستراتيجي الذي تتمتع به روسيا، من خلال ضمان عدم انضمام أي دولة سوفياتية سابقة، باستثناء دول البلطيق، إلى عضوية حلف «الناتو». وترى موسكو أن خطر تمركز قوات أو قواعد أو معدات عسكرية تخص الحلف المعادي، على مقربة من الحدود الروسية أمر غير مقبول، تماماً مثلما تعتبر واشنطن أن وجود أصول عسكرية صينية أو روسية في كندا أو المكسيك أمر غير مقبول هو الآخر.

ربما يتفاجأ بايدن عندما يعلم ذلك، لكن فلاديمير بوتين قد انتصر بالفعل في الحرب الدائرة بأوكرانيا، تبعاً لتعريفه للنصر. لقد غزا بوتين أوكرانيا لفرض خطه الأحمر، وهو إبقاء أوكرانيا خارج حلف «الناتو». وقد حقق بوتين بالفعل هذا الهدف. وما دامت ظلت القوات الأوكرانية منخرطة في قتال طويل الأمد مع الروس، وما دامت كييف لا تسيطر على كامل الأراضي الأوكرانية، فإن أوكرانيا لا تلبي متطلبات القبول بالحلف - التمتع بالسيادة والسلامة الإقليمية وعدم التورط بصراع مستمر.

علاوة على ذلك، لم تعد أوكرانيا دولة قابلة للحياة؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بشكل مستقل، دون دعم مالي أجنبي. وبعد أن كان يطلق عليها ذات يوم «سلة خبز أوروبا»، أصبحت أوكرانيا اليوم في حالة خراب، بعد تدمير قاعدتها الزراعية وتضرر مؤسستها الصناعية، بما في ذلك البنية التحتية الحيوية، بشدة. كما تعرضت مراكزها الحضرية ومناطقها الريفية للقصف دونما هوادة بالصواريخ والضربات المدفعية الروسية، على مدار ما يقرب من عامين من القتال البري. علاوة على ذلك، تشهد أوكرانيا، أكبر دولة في القارة، إخلاءً من السكان، حيث تقترب الخسائر البشرية من ربع مليون قتيل أو مصاب بجروح خطيرة، وتشريد الملايين من المواطنين.

وتعد هذه المأساة الإنسانية غير المعقولة؛ نتاجاً لانعدام الكفاءة الاستراتيجية لواشنطن، والسياسة الخارجية الساذجة التي ينتهجها الرئيس بايدن تجاه روسيا وأوكرانيا. ولا يمكن لأحد سوى مجموعة من الأميين تاريخياً، تصور أن دعوة أوكرانيا للانضمام إلى «الناتو» - التي لطالما اعتمدت عليها روسيا لقرون عديدة لضمان أمنها - كانت فكرة رائعة. وبشكل يتعذر على التصديق، فشل «خبراء» واشنطن، مهد «مبدأ مونرو»، في توقع تحركات بوتين قائد «ثاني (أفضل) جيش في العالم»، بحسب اعتراف زيلينسكي نفسه لوكالة «أسوشييتد برس».

لقد فشل الرئيس بايدن في أن يتعلم من الفشل الذريع في أفغانستان أن المال والتكنولوجيا لا يحققان الانتصار في الحروب، وإنما الاستراتيجية تفعل ذلك. لم يكلف فريق بايدن نفسه عناء تطوير استراتيجية.

بايدن وزيلينسكي خلال لقائهما في البيت الأبيض 12 ديسمبر الجاري (أ.ب)

وبوصفي مسؤولة سابقة في موقع متقدم في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية، وأحد ثلاثة محللين كبار للعقيدة والاستراتيجية الروسية في مجتمع الاستخبارات، فقد أطلعتُ شخصياً موظفي الأمن الوطني داخل البيت الأبيض في عهد الرئيس أوباما على خطط بوتين واستراتيجية روسيا تجاه خوض الحروب عدة مرات. كما أطلعتُ عدداً لا يحصى من كبار القادة العسكريين الأميركيين ومسؤولي «البنتاغون»، بالإضافة إلى مسؤولي «الناتو» وقادة عسكريين، على هذه المعلومات.

وبصفته نائباً للرئيس في ذلك الوقت، والشخص المرجعي فيما يتعلق بالسياسة الأوكرانية، ومهندس «إعادة ضبط» الاستراتيجية الفاشلة تجاه روسيا، كان لا بد من إعلام جو بايدن بتلك الإحاطات. ولا بد أن الرئيس وفريقه قد تلقوا إحاطات مماثلة قبل وفي أثناء رئاسته، بالنظر إلى مستوى الاهتمام بروسيا من قبل مجتمع الاستخبارات الأميركي، باعتبارها تهديداً من المستوى الأول لأمن الولايات المتحدة.

علاوة على ما سبق، كان لدى الرئيس الأميركي متسع من الوقت للتحرك من أجل ردع بوتين، والتفاوض على حل سلمي، ومنع الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجنب التدفقات الباهظة من عائدات دافعي الضرائب الأميركيين إلى كييف، في إطار ما أصبح اليوم حرباً يتعذر الفوز فيها.

بدلاً عن ذلك، اختار بايدن أن يدفع الأوكرانيون ثمن إخفاقاته بدمائهم. ومن المحتمل للغاية أن فريق بايدن تعمد إطالة أمد الحرب الروسية - الأوكرانية، من خلال تدفق الأسلحة إلى كييف، من أجل إنهاك الجيش والاقتصاد الروسيين، تماماً كما صرح وزير الدفاع لويد أوستن، قبل بضعة أشهر.

ومع أن عدد سكان روسيا يفوق نظيره في أوكرانيا بثلاثة أضعاف، ومع استعداد بوتين للتضحية بالمزيد والمزيد من الجثث لحل هذه المشكلة، يبدو أن واشنطن ستقاتل موسكو حتى آخر أوكراني، وكل هذا باسم دعم «الحرية والديمقراطية».


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.