2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
TT

2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)

يطلّ العام الجديد على العالم خَجِلاً مما جرى خلال العام المغادر ومن ضعف الأمل في أن يأتينا هو بجديد. يكفي أن نلاحظ أن تجديد النظام الدولي متعدد الأطراف، أو بث طاقة من النشاط في عروقه، والذي كان محور نقاش في مراكز البحث وقاعات الدرس ومقالات الصحف ودردشات الميديا في أركان العالم الأربعة، قد تلقى ضربة موجعة بما حدث في مجلس الأمن في نيويورك أخيراً.

عُطّل مجلس الأمن عن أداء دوره، ومن ثم جرى تمكين دولة قائمة بالاحتلال العسكري غير المشروع من ممارسة القتل الجماعي، واستهداف مساحات سكانية هائلة محمية بمقتضى القانون الدولي؛ مما يعني انتهاء عصر الاستناد إلى القانون الدولي، أو احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وهذا له نتيجتان رئيستان؛ أولاهما أن الدول راعية النظام الدولي قد تخلت عنه وعن أساسياته، وأنها تسقطه إسقاطاً، والأخرى أن على الجميع أن يعي أن عليه البحث عن أسباب القوة التي أصبحت وسيلة حل النزاعات، وألا يصدقوا، بل أن يحذروا، ما تقوله لهم، أو تعدهم به الدول العظمى المفترض أنها راعية هذا النظام. ومن ثم يكون من حسن الفطن الاستعداد لسنوات، بل لعقود من الفوضى واختلال الأمن وخرق الحدود والمساس بسيادة الدول وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والخداع والكذب الرسمي، والعودة إلى سياسات التفرقة العنصرية وعدم التسامح الديني، بل عودة الاستعمار القديم وإن بأثواب جديدة تغطي أدرانه وبلواه.

مندوبة أميركا في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفلد تصوت ضد وقف النار في غزة الأسبوع الماضي (رويترز)

أكاد أقول إن ما تحقق في القرن العشرين من حق تقرير المصير للشعوب وإزالة الاستعمار، وتحقيق استقلال الدول وعقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على دعم الأمم المتحدة وميثاقها ومؤسساتها لتحقيق علاقات دولية إيجابية مستندة إلى أطر متفق عليها من مبادئ القانون الدولي واتفاقياته ومحاكمه... كل هذا وكأنه اليوم يذهب مع الريح، بعد أن كشفت الدول التي ادعت رعايتها لعالم ديمقراطي حر مستند إلى جملة من الترتيبات، التي تُرسي «نظاماً دولياً رشيداً»، عن مضمون مصاب بازدواجية المعايير، وممارسة التمييز وغرور القوة، والتفرقة العنصرية، واحتقار الآخرين الذين هم دول وشعوب العالم الثالث الذي يسمى الآن الجنوب العالمي. إن ذلك يشي بمواجهة طويلة المدى تنتهي نهايةً قد لا تبقي ولا تذر، وكيف لا وقد أصبحت الحماقة سيدة الموقف في رسم السياسات وحماية الجرائم والاستغناء عن النظام الدولي.

وإذا عدنا إلى منطقتنا التي تسمى الشرق الأوسط، والتي يجب تسميتها «العالم العربي وآخرون»، فقد واكبنا في السنوات الماضية منذ عام 2011 ممارسات سياسية آتية عبر الأطلنطي سميت «الفوضى الخلاقة»، كان من نتائجها هذا الذي لا نزال نراه في ليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان، بعدما جرى من تدمير العراق؛ وهو الأمر الذي لا تزال تونس تجاهد للتخلص من آثاره. ولم تنجُ منه إلا مصر التي وعت بأبعاده مبكراً، رغم أن المحاولة لا تزال جارية، وتتخذ أشكالاً مختلفة؛ منها ما هو في البر، وما هو في البحر، وما هو في النهر وغير ذلك. وكان أحد الأهداف الرئيسية لسياسات «الفوضى الخلاقة» إزالة القضية الفلسطينية من قائمة أولويات المشاكل، ثم إزاحتها كلياً بدعوى أنها من مخلفات الماضي ومعوقات المستقبل.

لكن الأمور ما لبثت أن انكشفت تماماً، حين ظهرت السياسات الإسرائيلية المُغرقة في العنف وفي العنصرية، بل وفي الجشع للاستيلاء على الأراضي، وعدم الاهتمام بمصير الإنسان العربي تحت الاحتلال، بل الإنسان العربي عامة ولا برد فعله، والتفرقة إزاءه وتحقيره وإهانته، وهي سياسات كان من المنطقي أن تعزز الاضطراب وتوطد للنزاع وتمهد لوقوع الانفجار. وقد حدث ذلك فعلاً، وعاينه العالم مندهشاً، في صبيحة يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

الآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في القضية الفلسطينية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله.

والآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في تلك القضية الحيوية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله... فأولاً، من المستحيل القبول بالسياسات الإسرائيلية السابقة على 7 أكتوبر (في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة)، أي تكريس الاحتلال بالوسائل الدموية والخداعية وغيرها. ثانياً، من الضروري التوجه الجدي نحو إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية، ورفض الترديد العشوائي لهذا الهدف (Lip service) وتحويله سياسات فاعلة. قد يقول قائل أكثر دراية: وكيف لنا بذلك؟ وأقول بأن نبدأ بما هو ممكن وفي أيدينا أن نفعله فورياً ومبكراً في العام الجديد، وهو ضم الصفوف العربية (بقدر الإمكان عدداً وتوافقاً على مضمون السياسات)، وشرط النجاح هنا هو الحذر من الوقوع في شراك الابتسامات الغربية الفاتنة ووعودها غير المخلصة وسياساتها القادرة على إيقاع الفرقة.

كما أن من الممكن أن نساعد إخواننا في فلسطين لضم صفوفهم وإصلاح علاقاتهم في ما بينهم، وتقليل قابليتهم للاختراق، والخروج بمبادرة (في إطار المبادرة العربية لعام 2002) يلتزمون بها جميعاً، وتلتزم بها معهم دول الجامعة العربية كموقف عربي يُعاد تأكيده وتوحيده مع الاتفاق على عدم الخروج عنه مرة أخرى، خصوصاً في ضوء الموقف العنصري المتطرف للحكومة الإسرائيلية. هذه بدايات ممكنة، يُضاف إليها رهن تطوير العلاقات العربية مع إسرائيل بضرورة توقف الأخيرة عن بناء المستوطنات رسمياً وفعلياً، والامتناع عن تدمير القرى والمباني الفلسطينية وطرد سكانها، وعن اختراق (تدنيس) المسجد الأقصى. مثل هذه المواقف العربية ممكنة، وتستطيع إحداث اختراق في سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية المدعومة غرباً.

أما عن الجانب الإسرائيلي، فرغم النداءات المتوالية لحركة السلام الإسرائيلية لتخرج إلى العلن رافضة لسياسات حكومتهم الحالية وممارساتها اللاإنسانية في غزة ضد سكانها المدنيين، لم نسمع منهم صوتاً.

غني عن البيان أن حكومة إسرائيلية كتلك الحالية وتحت رئاسة بنيامين نتنياهو لا يمكن أن تكون مفاوضاً مقبولاً للسلام العادل، تماماً كما أن مفاوضاً فلسطينياً منقسماً ضعيفاً لن يكون مفاوضاً فعّالاً يأتي للشعب الفلسطيني بحقوقه.

كل هذا يجب أن يتغير... فهل يكفي عام 2024 لإحداث ذلك؟

قد يقتصر هذا العام، على الأقل، على إحداث الحركة نحو موقف عربي أفضل، ووضع فلسطيني أكثر صحة، كما أنه قد يشهد تغييراً جذرياً في الحكومة الإسرائيلية، لكنه مع ذلك لن يكون كافياً لإحداث ما نرجوه من حسم.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

«حراس الدين» وقد حلّ نفسه... فقاعة صوتية أم تهديد مبطن؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT

«حراس الدين» وقد حلّ نفسه... فقاعة صوتية أم تهديد مبطن؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) الفائت، ومن دون مقدمات مسبقة، أعلن الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، المعروف بتنظيم «حراس الدين»، حلّ نفسه رسمياً، مؤكداً في بيان أن قراره جاء بعد ما وصفه بـ«تحقيق النصر المبين» بإسقاط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.

وأعاد هذا البيان تسليط الضوء على تنظيم يفترض أنه انتهى عملياً على الأرض، كما وأثار تساؤلات حول حجمه الفعلي، واختياره توقيت هذا الإعلان. فقد دعا التنظيم الإدارة الجديدة في سوريا إلى الحفاظ على السلاح بيد «أهل السنة»، ونصحها بـ«إقامة الدين وتحكيم الشريعة»، معتبراً أن سوريا لا تزال ساحةً للمعارك الكبرى ضد «الطغاة والمستعمرين»، وداعياً مقاتليه السابقين للاستعداد لأي استحقاقات مستقبلية.

كذلك شدد «حراس الدين» على أنه سيبقى مستعداً لتلبية أي «نداء استغاثة» في مناطق المسلمين، متمسكاً بـ«ثوابته الشرعية دون تغيير أو تمييع».

لكن هل لا يزال لتنظيم «القاعدة» أي وجود في سوريا؟ وهل فعلاً هناك أهمية لتوقيت البيان؟

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى عدد من المصادر، بينهم قيادي سابق في «حراس الدين»، يكنّى بأبي عبد الرحمن الحلبي، التحق بصفوف «هيئة تحرير الشام»، بعد انتهاء التنظيم فعلياً في منتصف عام 2020.

قال الحلبي: «لا يتجاوز البيان كونه خطوةً إعلاميةً، فالتنظيم لم يعد له وجود حقيقي على الأرض، وهو يحاول فقط الإيحاء بأنه لا يزال حاضراً وفاعلاً في سوريا». وأضاف: «عملياً هناك بعض المتعاطفين لكن من دون انتماء تنظيمي. لذا، يمكن اعتبار البيان بمثابة تعزية للأنصار السابقين، وليس أكثر».

وأوضح الحلبي: «في بداية تشكيل (حراس الدين)، كانت لدينا قناعة بأن (تحرير الشام) تنحرف عن أهداف الجهاد وغاياته، بدءاً بقبولها بالوجود التركي وحماية نقاط الجيش التركي والتنسيق مع تركيا، ثم رفضها مطالب القادة العسكريين بضرورة فتح معركة ضد قوات النظام في ريف اللاذقية أو إدلب. وبرّرت قيادة الهيئة حينذاك بأن أي عمل عسكري ليس في مصلحة المعارضة، وكنا نرى هذا مجرد ذَرٍّ للرماد في العيون، وأن (تحرير الشام) كانت في الحقيقة ملتزمة باتفاق آستانة».

النشأة والشقاق

وكان تنظيم «حراس الدين» تشكل في فبراير (شباط) 2018 من عدة تجمعات صغيرة، مرتبطة ببيعة شرعية لأيمن الظواهري، لكن سرعان ما بدأ يظهر الشقاق بين تيارات متباينة داخل هذه الجماعات نفسها بين خط جهادي محلي مطالب بفك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» وقيادة الظواهري (تحرير الشام)، وخط جهادي عالمي ومدافع عن البقاء تحت رايتها كحال «حراس الدين».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

وشهدت الفترة بين عامي 2019 و2020 مواجهات متكررة بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «حراس الدين»، وتصاعدت حدة الاشتباكات بين الطرفين، خصوصاً بعد تشكيل غرفة عمليات «فاثبتوا» التي قادها «حراس الدين». وبلغ هذا الصراع ذروته في مايو (أيار) 2020، عقب قيام «تحرير الشام» باعتقال أبو مالك التلي، الزعيم السابق لـ«جبهة النصرة» في القلمون، الذي كان قد انشق عن «تحرير الشام» وأصبح مقرباً من «حراس الدين»، إضافة إلى اعتقال القيادي أبو صلاح الأوزبكي.

على أثر هذه الأحداث، تمكنت «حراس الدين» من السيطرة على بعض مواقع «تحرير الشام» في ريف إدلب الغربي، لكن الأخيرة سرعان ما ردت باستخدام القوة العسكرية، ما أدى إلى تفكيك غرفة عمليات «فاثبتوا» بالكامل.

وبهذا الإجراء، أنهت «تحرير الشام» فعلياً وجود تنظيم «حراس الدين» ككيان عسكري مستقل.

جدير بالذكر أنه عندما كان قادة «حراس الدين»، ضمن «جبهة النصرة»، لعبوا دوراً كبيراً في المواجهات التي خاضتها الأخيرة ضد بعض فصائل «الجيش الحر» في إدلب وريف حلب.

وفي تلك الفترة استخدم أحمد الشرع (الجولاني) قادة «حراس الدين» وثقلهم في الوسط الجهادي لتحقيق مكاسب كبيرة، سواء في تصفية الفصائل المنافسة، أو في تثبيت حكمه في إدلب. ولكن، عندما رأى أنهم باتوا يشكلون خطراً على مشروعه، عمل على القضاء عليهم، مستغلاً فشلهم التنظيمي والإعلامي، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على تكوين حاضنة اجتماعية في إدلب، مما جعلهم عرضة للتهميش والاستهداف. كما تعرضوا حينها لهجمات مباشرة ومؤلمة من التحالف الدولي اتهم الجولاني بالتنسيق فيها.

ويقول الحلبي: «قُتل بعض القادة، وسُجن آخرون، بينما اختار كثيرٌ من العناصر الصمت والعزلة تفادياً للصدام مع (تحرير الشام)، لأن ذلك لم يكن في مصلحة ما يُعرف بـ(الجهاد الشامي)، أي الثورة في سوريا».

ويضيف: «بعد انهيار (حراس الدين) كتنظيم على الأرض، عاد بعض عناصره - وأنا منهم - إلى (تحرير الشام)، لإدراكنا أن الارتباط بـ(القاعدة) لم يعد خياراً مجدياً، بل قد يضرّ بالثورة السورية والمشروع الجهادي ككل في سوريا».

من الجولاني إلى الشرع

يقول عروة عجوب، طالب الدكتوراه في جامعة مالمو، السويد، والمختص بشؤون الجماعات الجهادية، لـ«الشرق الأوسط»، إن تنظيم «حراس الدين»، «لم يعد له وجود فعلي منذ عام 2021، عندما شُكِّلت غرفتا عمليات (وحرض المؤمنين) و(فاثبتوا) بمشاركة عدة فصائل محلية غاضبة من النهج البراغماتي لزعيم (هيئة تحرير الشام) آنذاك أبو محمد الجولاني». ويشير عجوب إلى أن «الجولاني (أحمد الشرع)، شعر في ذلك الوقت بأن هذه الفصائل قد تشكّل تهديداً مباشراً لنفوذه في إدلب، ما دفعه إلى تفكيك هذه الغرف، ومنع أي محاولات لاحقة لتشكيل فصائل أو غرف عمليات جديدة».

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني يتحدث أمام حشد من الناس في المسجد الأموي بدمشق بعد إعلان المعارضة السورية الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 (رويترز)

ويعتقد عجوب أن العداء بين الجولاني وتنظيم «القاعدة» بدأ فعلياً منذ انفصال «هيئة تحرير الشام» عن «القاعدة» عام 2016، وأن الجولاني استطاع لاحقاً، بالتعاون مع التحالف الدولي، القضاء على تنظيمي «داعش» و«حراس الدين» داخل مناطق سيطرته.

ويرى عجوب أن الإعلان الجديد عن التنظيم يهدف بالدرجة الأولى إلى إثبات الوجود، لافتاً إلى أنه يستبعد أي مستقبل لتنظيم «القاعدة» في سوريا بعد تحوّل «هيئة تحرير الشام» إلى السلطة، ويقول: «عندما كانت الهيئة مجرد فصيل مسلح، كانت تتهم (القاعدة) بالغلو وتقوم بملاحقة عناصرها، فكيف وقد أصبحت اليوم السلطة الشرعية؟».

ويتفق الحلبي مع وجهة النظر هذه، قائلاً: «لن يكون لـ(القاعدة) أي مستقبل في سوريا بعد انتصار (تحرير الشام)، كما أن المجتمع السوري ليس مستعداً لقبول أي تنظيم فصائلي الآن. كذلك، فإن أحمد الشرع بات يتمتع برمزية كبيرة بين الفصائل والمقاتلين، ما يجعل من المستحيل على (القاعدة) إحياء نفسها حالياً».

شركاء النصر

في المقابل، يقول قيادي في «الجيش الحر» سابقاً، مفضلاً عدم ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «رغم الانهيار الميداني، سعى (حراس الدين) عبر إعلان حل نفسه إلى التأكيد على أن (القاعدة) لا تزال موجودة وفاعلة في سوريا، وأنها جزءٌ من (انتصارات الثورة) ضد النظام، في محاولة لإعادة إنتاج دورها في المشهد (الجهادي). كما أراد التنظيم تذكير خصومه، خصوصاً (تحرير الشام)، بأنه كان شريكاً أساسياً في مسيرتهم، وبأنه ساهم في توجيه زعيم (الهيئة)، أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، نحو فك ارتباطه بـ(القاعدة) بدعوى مصلحة الثورة السورية».

ولفت المصدر إلى أن التنظيم يرى نفسه «المدبر الرئيسي لمشروع أحمد الشرع، وأنه هو من خلّصه من تنظيم (داعش) ومنحه الشرعية، وهذا البيان هو محاولة لاستثمار هذا القرار لصالحه عبر الإظهار أنه لا يعارض مصلحة الشعب السوري، بل كان جزءاً ممن قاتلوا لتحقيق مصالحه».

وتحدثت «الشرق الأوسط» إلى قيادي داخل «تحرير الشام» (سابقاً)، مفضلاً عدم ذكر اسمه، فاعتبر أن بيان «حراس الدين» هو محاولة من تنظيم «القاعدة» لتخليص السلطة الجديدة من تركتها لإتاحة المجال أمامها نحو نيل الشرعية الدولية كأن تزيح حملاً ثقيلاً ما زلت بقاياه ملقاة على كاهلها، وأن «القاعدة» ليست عثرةً في طريق إدارة أحمد الشرع الوليدة.

كذلك عدَّ القيادي السابق أن تنظيم «القاعدة»، «يسعى لتسهيل استقلال (هيئة تحرير الشام) بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) فعلياً عن ماضيها، لكنه في المقابل، يدرك أهمية كسب المجتمع المحلي السوري، خصوصاً الحواضن الاجتماعية للثورة، من خلال إظهار نفسه أنه لا يعرقل مصالح سوريا الجديدة الإقليمية والدولية».

ويحاول تنظيم «القاعدة»، حسب المصدر أيضاً، إظهار قدرته على التعامل البراغماتي مع الواقع السياسي، وتبني تكتيكات مرنة خدمةً للمصلحة الكبرى، حتى لو تعارض ذلك ظرفياً مع مصلحة التنظيم نفسه. وكان أيمن الظواهري أشار في أحد خطاباته إلى هذه المقاربة عند تعليقه على انفصال «جبهة النصرة» عن «القاعدة» في صيف 2016، مؤكداً أن «القاعدة» ليست عائقاً أمام الثورة السورية.

هذا التوجه يهدف إلى تقديم «القاعدة» تنظيماً قادراً على التأقلم، خلافاً لتنظيم «داعش»، الذي يرفض تغيير استراتيجيته بغض النظر عن الواقع السياسي والعسكري. فـ«القاعدة» يرى أن المرونة في الوسائل يحقق أهدافه الاستراتيجية العامة، في حين أن «تنظيم الدولة» يعدُّ الوسائل جزءاً لا يتجزأ من العقيدة، ولا يقبل بتغييرها.

محاولة «القاعدة» نسب نجاح «تحرير الشام» إلى استراتيجيتها وسعيها إلى تجنب الاعتراف بأن استقلال «تحرير الشام» كان شرطاً أساسياً لنجاحها. لذلك، تحاول تصوير هذا الانفصال على أنه قرار استراتيجي مدروس من قِبَل قيادتها هي. وعلى رغم وجود جناح داخل «القاعدة» وقتها لم يكن راضياً عن انفصال «جبهة النصرة»، فإن النجاحات التي حققتها «تحرير الشام» دفعت «القاعدة» إلى اعتبار هذا القرار خطوة حكيمة أفرزت نتائج إيجابية، يجعلها شريكة في هذا النجاح.

وبهذا، تريد «القاعدة» أن تُشعر «تحرير الشام» أو السلطة الجديدة بأنها مدينة لها، ولهذه السياسة البراغماتية، وأن ارتباطهما ليس صفحة سوداء يجب طيّها، بل جزء من تاريخ «الجهاد» الذي أدى إلى انتصار مهم في سوريا.

تهديد مبطن

إلى ذلك، قد يحتوي موقف «القاعدة» أيضاً على تهديد مبطن للسلطة الناشئة، مفاده أن التنظيم قادر على إعادة تشكيل نفسه داخل سوريا إذا لم تحقق «تحرير الشام» بحلتها الجديدة الأهداف الكبرى، مثل تطبيق حكم إسلامي لا يخرج عن الإطار العام الذي تتبناه، وأن تتجاهل «تحرير الشام» هذا الخط بالتوسع في التنازل عنه، بحيث تبقى ضمن الهوامش التي يمكن التنازل عنها مرحلياً. ومن ملامح الخط العام هذا تجنب إشراك الليبراليين والعلمانيين بالمشهد السياسي الوليد.

وفي البيان تلويح بإمكانية شنّ حرب ضد أي ثورة مضادة تقودها الأقليات أو القوى العلمانية، وتراهن «القاعدة» على تبلور تيار متشدد داخل «تحرير الشام» وباقي الفصائل يعارض التوجه البراغماتي للقيادة الحالية، مما يفتح المجال أمام تشكيل تكتلات معارضة أكثر تشدداً.

وهنا، قد يلعب «القاعدة» دور المحرك لهذا الاستياء، خصوصاً إذا ابتعدت «تحرير الشام» عن الأسس العقائدية التي يتبناها الجهاديون المحليون، حتى وإن كانوا أقل تشدداً من الجهاديين التقليديين.

عرض عسكري نظمته وزارة الدفاع السورية لتخريج أكثر من 300 جندي في مدينة حلب شمال سوريا (إ.ب.أ)

مستقبل «القاعدة» في سوريا

يعتمد مستقبل «القاعدة» في سوريا على عدة عوامل؛ أهمها احتمالات وقوع صراع طائفي. فإذا تطورت أعمال العنف المتفرقة التي تحدث في بعض المناطق إلى صراع طائفي واضح المعالم، نتيجة تحركات فلول النظام أو تدخلات إيرانية مباشرة، قد تجد «القاعدة» في ذلك بيئة خصبة لإعادة بناء نفوذها وتأجيج نزاع طائفي، لا سيما وأنها تملك باعاً طويلاً في ذلك. العامل الآخر أنه يمكن استغلال الانقسامات داخل «تحرير الشام» في حال نشبت خلافات تعارض براغماتية الإدارة الجديدة وتتربص بها؛ هنا تقدم «القاعدة» نفسها خياراً بديلاً للجهاديين المحليين. إلا أن نجاح هذا الخيار يتوقف أيضاً على تطورات الأوضاع الأمنية، وتعامل «هيئة تحرير الشام» مع الفئات الغاضبة أو الأكثر تشدداً من جهة، ورد فعلها إذا لمست تشكل نواة صلبة ضدها. فـ«تحرير الشام» تمتلك خبرة واسعة في مواجهة الجماعات الجهادية، مستفيدةً من معرفتها العميقة بأساليبهم الأمنية وطرق تشكيلهم للخلايا النشطة، وكانت إدلب المنطقة الأكثر نجاحاً في مطاردة «تنظيم الدولة» والمتعاطفين معه. هذه الخبرة نابعة من تجربة «الهيئة» نفسها في مراحلها الأولى، حين مرت بظروف مماثلة قبل أن تصبح القوة المهيمنة في إدلب. وعلى هذا الأساس، تمكنت من فرض قبضتها الأمنية ضد الجماعات الجهادية على نحو أكثر فاعلية من «الجيش الوطني» أو «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) على السواء.