2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
TT

2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)

يطلّ العام الجديد على العالم خَجِلاً مما جرى خلال العام المغادر ومن ضعف الأمل في أن يأتينا هو بجديد. يكفي أن نلاحظ أن تجديد النظام الدولي متعدد الأطراف، أو بث طاقة من النشاط في عروقه، والذي كان محور نقاش في مراكز البحث وقاعات الدرس ومقالات الصحف ودردشات الميديا في أركان العالم الأربعة، قد تلقى ضربة موجعة بما حدث في مجلس الأمن في نيويورك أخيراً.

عُطّل مجلس الأمن عن أداء دوره، ومن ثم جرى تمكين دولة قائمة بالاحتلال العسكري غير المشروع من ممارسة القتل الجماعي، واستهداف مساحات سكانية هائلة محمية بمقتضى القانون الدولي؛ مما يعني انتهاء عصر الاستناد إلى القانون الدولي، أو احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وهذا له نتيجتان رئيستان؛ أولاهما أن الدول راعية النظام الدولي قد تخلت عنه وعن أساسياته، وأنها تسقطه إسقاطاً، والأخرى أن على الجميع أن يعي أن عليه البحث عن أسباب القوة التي أصبحت وسيلة حل النزاعات، وألا يصدقوا، بل أن يحذروا، ما تقوله لهم، أو تعدهم به الدول العظمى المفترض أنها راعية هذا النظام. ومن ثم يكون من حسن الفطن الاستعداد لسنوات، بل لعقود من الفوضى واختلال الأمن وخرق الحدود والمساس بسيادة الدول وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والخداع والكذب الرسمي، والعودة إلى سياسات التفرقة العنصرية وعدم التسامح الديني، بل عودة الاستعمار القديم وإن بأثواب جديدة تغطي أدرانه وبلواه.

مندوبة أميركا في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفلد تصوت ضد وقف النار في غزة الأسبوع الماضي (رويترز)

أكاد أقول إن ما تحقق في القرن العشرين من حق تقرير المصير للشعوب وإزالة الاستعمار، وتحقيق استقلال الدول وعقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على دعم الأمم المتحدة وميثاقها ومؤسساتها لتحقيق علاقات دولية إيجابية مستندة إلى أطر متفق عليها من مبادئ القانون الدولي واتفاقياته ومحاكمه... كل هذا وكأنه اليوم يذهب مع الريح، بعد أن كشفت الدول التي ادعت رعايتها لعالم ديمقراطي حر مستند إلى جملة من الترتيبات، التي تُرسي «نظاماً دولياً رشيداً»، عن مضمون مصاب بازدواجية المعايير، وممارسة التمييز وغرور القوة، والتفرقة العنصرية، واحتقار الآخرين الذين هم دول وشعوب العالم الثالث الذي يسمى الآن الجنوب العالمي. إن ذلك يشي بمواجهة طويلة المدى تنتهي نهايةً قد لا تبقي ولا تذر، وكيف لا وقد أصبحت الحماقة سيدة الموقف في رسم السياسات وحماية الجرائم والاستغناء عن النظام الدولي.

وإذا عدنا إلى منطقتنا التي تسمى الشرق الأوسط، والتي يجب تسميتها «العالم العربي وآخرون»، فقد واكبنا في السنوات الماضية منذ عام 2011 ممارسات سياسية آتية عبر الأطلنطي سميت «الفوضى الخلاقة»، كان من نتائجها هذا الذي لا نزال نراه في ليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان، بعدما جرى من تدمير العراق؛ وهو الأمر الذي لا تزال تونس تجاهد للتخلص من آثاره. ولم تنجُ منه إلا مصر التي وعت بأبعاده مبكراً، رغم أن المحاولة لا تزال جارية، وتتخذ أشكالاً مختلفة؛ منها ما هو في البر، وما هو في البحر، وما هو في النهر وغير ذلك. وكان أحد الأهداف الرئيسية لسياسات «الفوضى الخلاقة» إزالة القضية الفلسطينية من قائمة أولويات المشاكل، ثم إزاحتها كلياً بدعوى أنها من مخلفات الماضي ومعوقات المستقبل.

لكن الأمور ما لبثت أن انكشفت تماماً، حين ظهرت السياسات الإسرائيلية المُغرقة في العنف وفي العنصرية، بل وفي الجشع للاستيلاء على الأراضي، وعدم الاهتمام بمصير الإنسان العربي تحت الاحتلال، بل الإنسان العربي عامة ولا برد فعله، والتفرقة إزاءه وتحقيره وإهانته، وهي سياسات كان من المنطقي أن تعزز الاضطراب وتوطد للنزاع وتمهد لوقوع الانفجار. وقد حدث ذلك فعلاً، وعاينه العالم مندهشاً، في صبيحة يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

الآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في القضية الفلسطينية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله.

والآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في تلك القضية الحيوية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله... فأولاً، من المستحيل القبول بالسياسات الإسرائيلية السابقة على 7 أكتوبر (في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة)، أي تكريس الاحتلال بالوسائل الدموية والخداعية وغيرها. ثانياً، من الضروري التوجه الجدي نحو إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية، ورفض الترديد العشوائي لهذا الهدف (Lip service) وتحويله سياسات فاعلة. قد يقول قائل أكثر دراية: وكيف لنا بذلك؟ وأقول بأن نبدأ بما هو ممكن وفي أيدينا أن نفعله فورياً ومبكراً في العام الجديد، وهو ضم الصفوف العربية (بقدر الإمكان عدداً وتوافقاً على مضمون السياسات)، وشرط النجاح هنا هو الحذر من الوقوع في شراك الابتسامات الغربية الفاتنة ووعودها غير المخلصة وسياساتها القادرة على إيقاع الفرقة.

كما أن من الممكن أن نساعد إخواننا في فلسطين لضم صفوفهم وإصلاح علاقاتهم في ما بينهم، وتقليل قابليتهم للاختراق، والخروج بمبادرة (في إطار المبادرة العربية لعام 2002) يلتزمون بها جميعاً، وتلتزم بها معهم دول الجامعة العربية كموقف عربي يُعاد تأكيده وتوحيده مع الاتفاق على عدم الخروج عنه مرة أخرى، خصوصاً في ضوء الموقف العنصري المتطرف للحكومة الإسرائيلية. هذه بدايات ممكنة، يُضاف إليها رهن تطوير العلاقات العربية مع إسرائيل بضرورة توقف الأخيرة عن بناء المستوطنات رسمياً وفعلياً، والامتناع عن تدمير القرى والمباني الفلسطينية وطرد سكانها، وعن اختراق (تدنيس) المسجد الأقصى. مثل هذه المواقف العربية ممكنة، وتستطيع إحداث اختراق في سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية المدعومة غرباً.

أما عن الجانب الإسرائيلي، فرغم النداءات المتوالية لحركة السلام الإسرائيلية لتخرج إلى العلن رافضة لسياسات حكومتهم الحالية وممارساتها اللاإنسانية في غزة ضد سكانها المدنيين، لم نسمع منهم صوتاً.

غني عن البيان أن حكومة إسرائيلية كتلك الحالية وتحت رئاسة بنيامين نتنياهو لا يمكن أن تكون مفاوضاً مقبولاً للسلام العادل، تماماً كما أن مفاوضاً فلسطينياً منقسماً ضعيفاً لن يكون مفاوضاً فعّالاً يأتي للشعب الفلسطيني بحقوقه.

كل هذا يجب أن يتغير... فهل يكفي عام 2024 لإحداث ذلك؟

قد يقتصر هذا العام، على الأقل، على إحداث الحركة نحو موقف عربي أفضل، ووضع فلسطيني أكثر صحة، كما أنه قد يشهد تغييراً جذرياً في الحكومة الإسرائيلية، لكنه مع ذلك لن يكون كافياً لإحداث ما نرجوه من حسم.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
TT

دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)

اصطبغت علاقة الإدارة السورية الجديدة بالقوى الفاعلة في محافظة السويداء، معقل الطائفة الدرزية، بطابع غلبت عليه حالة من الشد والجذب، والتصعيد في مقابل تصعيد مضاد بهدف توجيه رسائل تدفع عملياً لفتح حوار يجنب سوريا المزيد من الفوضى الأمنية في مقابل انتزاع مكاسب تتعلق بشكل النظام السياسي وتوزيع السلطات والحفاظ على الخصوصيات المحلية في آن واحد.

وقد وضعت الأحداث الأخيرة التي جرت في الساحل السوري، معقل الطائفة العلوية، قضية الدروز على نار حامية وإن بدا ظاهرياً على الأقل أنها هدأت بعد أحداث كثيرة ومتفرقة شهدتها الأسابيع الأخيرة محافظة السويداء وصولاً إلى منطقة جرمانا، حيث الكثافة الدرزية في محيط العاصمة دمشق.

وكان التصعيد بلغ ذروته بمنع الفصائل العسكرية «الدرزية» قوات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق من دخول مدينة السويداء، ومنطقة جرمانا جنوب شرقي العاصمة، للقبض على «قتلة» أحد عناصر الأمن العام عند أحد مداخل المنطقة في الأول من مارس (آذار) الماضي، في أحداث سبقت مباشرة أحداث الساحل الدموية.

هذا، وتشهد السويداء بين الحين والآخر احتجاجات رافضة لسلطة أحمد الشرع اتخذ بعضها نهجاً خطراً كمثل حادثة رفع العَلم الإسرائيلي، أو طلب الحماية من إسرائيل في مقابل بيانات وتصريحات لقوى أخرى أكثر ثقلاً محلياً وإقليمياً تدعو إلى الحوار ومنع التصعيد الطائفي كما ورفض التصريحات الإسرائيلية التي عرضت تقديم الحماية للدروز.

انفتاح دونه عقبات

مصدر في حكومة الشرع قال لـ«الشرق الأوسط» إن التقدم الذي تحرزه الحكومة في مجالات عدة بدأ ينعكس على العلاقة مع الدروز. وأشار المصدر، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إلى أن «الأوضاع في السويداء تسير بشكل إيجابي، وإن هناك تقدماً في أكثر من جانب»، وإن أبناء السويداء «هم جزء لا يتجزأ من سوريا». يأتي ذلك في وقت بدأت تتسرب أنباء عن «اتفاق متعجل» يتم إقراره بين الشرع وأعيان من الطائفة الدرزية على غرار اتفاقه مع الزعيم الكردي مظلوم عبدي، من دون إمكانية تأكيد ذلك بعد بشكل حاسم.

فتى درزي يرفع أعلاماً قرب ملصق كبير للشيخ حكمت الهجري في ساحة الكرامة في السويداء (أ.ب)

ولفت المصدر إلى «أن الحكومة منفتحة على الحوار، لكنها تواجه عقبات قد تتطلب وقتاً لحلها»، مشدداً على أن «حل أي خلافات يتم بين السوريين أنفسهم دون أي تدخل خارجي. فالحكومة السورية تدير شؤون بلدها باستقلالية تامة».

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية بقيادة «هيئة تحرير الشام» على الحكومة الانتقالية المؤقتة، ازداد المشهد تعقيداً بعد تصريحات تصعيدية لبعض رجال الدين الدروز الفاعلين ترفض الامتثال لحل الفصائل المسلحة وتسليم السلاح ودمج عناصرها أفراداً في وزارة الدفاع؛ ما يعكس واقع «الهشاشة» وغياب الثقة في العلاقة بين الطرفين.

وفي خطوة تصب باتجاه تجنب التصعيد، سارع الرئيس السوري أحمد الشرع ومنذ منتصف ديسمبر الماضي إلى استقبال وفد من كبار رجال الدين الدروز، من بينهم الشيخ سليمان عبد الباقي قائد «تجمع أحرار جبل العراق» وسلمان الهجري نجل الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري.

وكما وكان الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أول زائري الشرع على رأس وفد من الوجهاء والأعيان الروحيين، بما يحمل ذلك من رمزية لا تخفى عن طبيعة العلاقات التاريخية بين السلطة (أي سلطة) في دمشق والطائفة الدرزية.

ومع ذلك، ظلت القوى الدرزية الفاعلة على الأرض، سواء الدينية أو الاجتماعية أو المسلحة منقسمة في مواقفها من العهد الجديد، وحول رؤيتها لمستقبلها في كنف السلطة الوليدة.

وفي محاولة إسرائيلية لتأجيج الخلافات بين الطائفة الدرزية والحكومة الانتقالية، استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاشتباكات بين قوات الأمن العام ومسلحي جرمانا للتهديد بالتدخل العسكري في حال تعرض الدروز لأي أذى. لكن الإدارة السورية وظفت علاقاتها مع بعض القوى الدرزية في السويداء لقيادة مفاوضات أسفرت عن التهدئة مع مسلحي جرمانا. كما وجاء إعلانها عن اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، الرئيس السّابق للاستخبارات العامّة في سوريا، والمتّهم باغتيال الزعيم الدرزيّ كمال جنبلاط عام 1977 قبل أيام قليلة من الذكرى السنوية لاغتياله، بمثابة رسالة واضحة للزعامة الدرزية «الرسمية» المتمثلة بآل جنبلاط ومن ورائها عموم أبناء الطائفة.

دروز إدلب... علاقة غير ودية

في الواقع، هذه الأحداث ليست وليدة الأمس. فالوجود الدرزي لا يقتصر على معاقل محمية إلى حد بعيد كالسويداء وجرمانا، وإنما هناك أيضاً دروز إدلب وتحديداً في مناطق جبل السمّاق الذين تعرضوا لانتهاكات وعمليات قتل عشوائية في 2015 بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على المنطقة. وأبرز تلك العمليات كانت في قرية «قلب لوزة» على يد فصائل «جهادية» متحالفة مع جبهة النصرة حينذاك.

مسلحون دروز أمام آلية عسكرية ينتظرون وصول قوات الأمن العام عند مدخل ضاحية جرمانا قرب دمشق (أ.ب)

وبعد فك الارتباط بتنظيم القاعدة في يوليو (تموز) 2016، حاولت «جبهة النصرة» التي تحولت تدريجياً إلى «هيئة تحرير الشام» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، النأي بنفسها عن «التشدد» وتجنب «التصنيف» على لوائح الإرهاب، مستفيدة من تجربة حكم تنظيم الدولة وتعامله مع المجتمعات المحلية وخسارته «الحاضنة الاجتماعية». وعليه، شكلت «هيئة تحرير الشام» في مدينة إدلب «حكومة الإنقاذ» لادارة المناطق الخاضعة لسيطرتها وتسيير شؤون السكان الذين تجاوزت اعدادهم الأربعة ملايين.

ومع التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية وخفة حدة العمليات القتالية، وفي محاولة لمنع أي تصعيد سواء بين الفصائل المسلحة، أو بين المجتمعات المحلية، ولإبراز الوجه الجديد للهيئة بصفتها سلطة «الأمر الواقع»، التقى زعيمها «أحمد الشرع» أكثر من مرة بوجهاء وأعيان المحافظة، ومن بينهم «الدروز» الذين تلقوا منه وعوداً بإرجاع حقوقهم وممتلكاتهم وتأمين الخدمات الأساسية لهم وحمايتهم. وهو ما جرى جزئياً ولكن عادت الأحداث وتسارعت واتخذت منعطفات مختلفة مع سقوط نظام بشار الأسد، حيث لا تزال ملامح العملية السياسية وشكل النظام السياسي وهويته بانتظار ما تحدده صيغة دستور المرحلة الانتقالية التي يفترض أن يتوافق عليها السوريون.

مشهد معقّد

ما يزيد المشهد تعقيداً، أن أجزاءً كبيرة من البلاد لا تزال خارج سيطرة الحكومة الحالية، كما أن السلاح لا يزال منتشراً بيد مجموعات مسلحة منظمة أو سكان محليين والدروز بطبيعة الحال ليسوا استثناء.

لذلك؛ فقد سلطت أحداث الساحل الأخيرة ثم الاتفاق مع المكون الكردي، الضوء على التحدي الأبرز أمام الإدارة الجديدة وهو الإبقاء على وحدة المجتمع السوري والحفاظ على تماسك نسيجه المتنوع وكيفية إدارة الأزمات والاحتقان الناتج من ذلك التنوع والاختلافات.

لافتة رفعها الدروز السوريون في 25 فبراير: «السويداء لن تكون خنجركم المسموم في ظهر سوريا» رداً على التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية (أ.ب)

ويقول مضر هائل لـ«الشرق الأوسط»، وهو من أبناء السويداء النشاطين سياسياً وأحد أبرز منظمي تظاهرات ساحة الكرامة بين 2023 و2024: «الحكومة الحالية هي حكومة أمر واقع، ويجب أن نتجه نحو حكومة منتخبة وأن يشارك الجميع في وضع دستور لهذا البلد وأن تأتي تلك الحكومة من إرادة الشعب. في هذه الحالة، لن يبقى لأحد ذريعة برفض الاعتراف بحكومة دمشق. نحن دائماً كنا مع جميع فئات المجتمع السوري في الثورة ضد النظام، لكن يجب ألا نستبدل نظاماً بآخر فقط، بل يجب أن نبني دولة تحترم الجميع ويكون الجميع تحت قانونها».

ويضيف: «هناك من يستغل التصريحات الإسرائيلية بخصوص حماية الدروز ليثير النعرات الطائفية»، ويقول: «انظروا، هؤلاء عملاء»، وبالتالي ينفذ أجندته غير الوطنية. لا أحد يريد أن يكون مع إسرائيل، لكن بالحوار والتفاهم، وبناء دولة تشاركية، يمكننا قطع الطريق على إسرائيل وغيرها من الطامعين».

أزمة ثقة... لا تمنع المصالحة

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السياسي اللبناني مكرم رباح الذي لفت إلى أن الثقة بين الطائفة الدرزية والإدارة السورية الجديدة لا تتعلق فقط بالمسألة الدرزية. وقال رباح: «من المعروف أن النظام السوري السابق استخدم الجماعات التكفيرية لتخويف الدروز، وهذا يشكل هاجساً دائماً لدى الدروز المتمسكين بأرضهم وسلاحهم. والمشكلة الأساسية تكمن في إصرار الرئيس أحمد الشرع على المركزية، وهذا الأمر يثير قلق الدروز، في حين أن نظام البعث نفسه كان قد منحهم نوعاً من الاستقلالية ضمن إطار تحالف الأقليات».

أحمد الشرع خلال استقباله وفداً برئاسة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق (رويترز)

وهنا يبرز السؤال عما إذا كان الشرع سيتمسك بهذه المركزية بعد عقد اتفاق مع الأكراد وهو ما سيتحدد أكثر عندما تظهر بنود الاتفاق وشروطه.

ويؤكد الباحث أن إسرائيل تلعب دوراً في توتر العلاقة بين السويداء ودمشق، لكنه يستبعد أن يكون أحداً من دروز سوريا مستعداً للدخول في مغامرة كهذه. «فإسرائيل تستخدم هذا الملف كورقة في حربها المستمرة في المنطقة، كما تسعى للضغط على الشرع لتقديم تنازلات».

ويقول رباح: «مطالب الدروز هي نفس مطالب كل السوريين. هناك خصوصية للطائفة الدرزية، لكن الإدارة الجديدة ربما لم تحاول التعرف عليها. وفي حال أدركت حكومة الشرع هذه الخصوصية، ستتمكن من التعاطي الإيجابي مع الملف الدرزي».

واعتبر رباح أن وليد جنبلاط يلعب دوراً أساسياً في الملف الدرزي بسوريا، حيث كان أحد المبادرين لمقابلة الرئيس الشرع. لكن هناك أيضاً شخصيات درزية عدة مؤثرة، مثل الشيخ يوسف الجربوع، وحكمت الهجري، ويحيى الحناوي، وكلهم سيتعاملون مع الشرع باعتباره رئيس الجمهورية السورية، نظراً لما يتمتعون به من تأثير كبير كمشايخ عقل.

ورأى أن هناك عوامل تدفع نحو حل الملف الدرزي وتسرّع المصالحة الكاملة بين جميع الأطراف، مثل وضع خريطة واضحة للانتقال السياسي، ومشاركة الدروز في العملية السياسية، ومنح نوع من اللامركزية المحلية. كما أن بعض المبادرات الإيجابية من الرئيس الشرع قد تساهم في تحسين العلاقة بشكل أسرع.

السياسة ومرجعية المشايخ

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السوري وائل علوان فقال: «العلاقة بين الطرفين لا تتعلق بعدم الثقة، فهناك خصوصية للمجتمع في السويداء، ليست الحكومة فقط من يراعيها، بل كل المجتمع السوري يراعي تلك الخصوصية».

ولفت علوان إلى أنه خلال الأعوام التي تلت اندلاع الثورة في 2011، كان هناك نزاع داخلي في السويداء بين المرجعية الدينية التقليدية التي كانت في بيت الهجري والحناوي وبيت الجربوع، حيث كانوا موالين للسلطة، وبين الثوار في السويداء الذين كانوا ضد النظام السوري. لكن كان الثوار يفتقدون التغطية الدينية من أحد تلك المراجع المذكورة، وبقي المرجع الديني صاحب الكلمة العليا.

اجتماع الزعيم الدرزي السوري الشيخ حكمت الهجري (وسط) مع أفراد من طائفته في السويداء يوم 20 فبراير (رويترز)

ويضيف علوان: «في السنوات الأخيرة، كان حكمت الهجري، رجل الدين الأبرز، معارضاً للنظام، وبذلك أخذ دوراً أكبر بكثير من الحناوي والجربوع، وهما من أبرز المراجع الدينية الأساسية لدى دروز سوريا. ولعب الهجري دوراً كبيراً في السويداء، لكن لم يكن على علاقة جيدة مع البلعوس الذي يمثل التيار المعارض الثوري ضد النظام السوري. حيث كان هناك تنافس وصراع بين المراجع الدينية التقليدية وبين المكونات الجديدة الثورية، أي التي عارضت النظام السوري وخالفت رأي بعض رجال الدين».

معتبراً أن الفترة الأخيرة التي عارض فيها الهجري نظام بشار الأسد، فتحت خطاً مع علاقة مع موفق طريف، وهو أحد الزعماء الدينيين الدروز في إسرائيل. وبقي البلعوس وسليمان عبد الباقي على علاقة مع وليد جنبلاط في لبنان مع مجموعات عسكرية متحالفة مع البلعوس. وهذان خطان متباينان، خط الهجري مع طريف يقابل خط البلعوس وجنبلاط، وهما متباينان تماماً، وكلا الخطين استعان بحليف خارجي.

انقسامات داخلية

يشير علوان إلى أنه بعد سقوط الأسد، أصبح من الواضح أن هناك انقساماً في المشهد، مرجحاً أن تتحالف الحكومة السورية الجديدة مع تيار البلعوس وجماعته، وأن يصبح الهجري أكثر معارضة لها.

ويذهب الباحث إلى أن إسرائيل تخدم دور الهجري وتعدّه حليفاً؛ وهذا ما أثر سلباً على العلاقة بالمجتمع السوري الأوسع، معتبراً أن مطالب أهل السويداء لم تتغير وهي احترام خصوصية المجتمع الدرزي والهرمية الدينية وعدم دخول أحد من خارجهم ليحكمهم.

من المؤكد أن جميع التحديات التي تواجهها الحكومة الانتقالية هي ذات أبعاد إقليمية أو دولية، إلى جانب التداعيات المحتملة للأوضاع الداخلية «غير المستقرة» على مستقبل البلاد ووحدة المجتمع. وتمثل إسرائيل وتهديداتها وتعهداتها بالتدخل لحماية الدروز، التحدي الأكبر لقدرة الحكومة على التعاطي مع مثل هذه الملفات.

لكن عاملي التمسك بالمركزية و«انعدام الثقة» ولو جزئياً يجعلان ملف الطائفة الدرزية ومن خلفه ملفات بقية المكونات السورية أبرز التحديات التي تواجه «الشرع» ووحدة المجتمع السوري وسيادة البلد ووحدته الترابية.