ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
TT

ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)

تشعّبت الانتماءات والولاءات والخسارة واحدة: الوطن والدولة.

لكن بدايةً وقبل أي إشعار آخر، تبقى غزة، ليس كمساحة بل كشعب فلسطيني يئنّ موتاً ووجعاً وجوعاً وعوزاً تحت وابل الآلة الإسرائيلية التي تحترف القتل وتتقن الغطرسة. إنها لحظة الوقوف تهيباً أمام هول المأساة التي ذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى والمصابين من المدنيين. إنها لحظة اختبار المجتمع الدولي المدعو فوراً إلى وقف جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، لا بل ضد الدولة الفلسطينية بالذات.

وهي لحظة اختبار الأمة الفلسطينية المدعوة إلى انبثاق مرجعية وطنية، جامعة محررة ومتحررة، يكون التزامها المجرّد بالقضية، وولاؤها المطلق لفلسطين من دون إشراك. إنها المرجعية المرجوة التي تفرض نفسها حكماً كمُحاور مأذون يمثل حصراً الحق الفلسطيني. هذا هو المدخل الطبيعي لوقف المأساة وعودة الحق إلى أصحابه، وخلاف ذلك لن يكون سوى مُدّعي سلطة، أيّاً كانت إنجازاته وبطولاته، فاقد الثقة الوطنية والدولية، وبالتالي فاقد الفاعلية لارتباطه فئوياً وجهوياً، ولربما وطنياً بما هو أبعد من فلسطين.

المطلوب الآن وبإلحاح لمنع هذه السردية القاتلة للقضية الفلسطينية، وقف الانقسامات في القيادة إيذاناً لتأمين وحدة المرجعية ووحدة الشعب، وإسقاط الـ«إيغو» لضمان انتصار القضية، وإلا تصبح إسرائيل المستفيد الأول والأخير، العائمة على بحر الخلافات الفلسطينية والدم الفلسطيني، والقادرة على إعاقة أي دعم عربي إقليمي ودولي.

والتصريحات الأخيرة للقادة في إسرائيل أصبحت واضحة لجهة رفضها قيام دولة فلسطين بالمطلق. هذه هي الفرصة السانحة وقد تكون الأخيرة للسلطة الفلسطينية وللمجلس الوطني الفلسطيني للالتئام والتحرر من القيود وجمع الشمل الفلسطيني والضغط باتجاه دولة فلسطينية مستقلة تسترجع أبناءها - كل أبنائها - من الشتات كما فعلت إسرائيل منذ قيامها في عام 1948...

أما بعد...

لعلّ تجارب التاريخ واضحة لجهة تفكك بعض الدول والكيانات. إن مشكلة بعض العالم الغربي في الماضي، والعربي في الماضي والحاضر هي مشكلة غموض في الانتماء وعدم ثبات في الولاء لمفهوم الوطن والدولة.

ومهما تلوّن الانتماء يبقى انتماءً سواء للشخص أو للحزب أو للطائفة أو للمذهب أو للآيديولوجية المستوردة أو المستوطنة، على حساب الانتماء للوطن الجامع داخلياً والمعترف به دولياً. الانتماء - الولاء للدولة العادلة والمسؤولة يبقى جامعاً، مشتركاً، موحَّداً وموحِدّاً، يبقى حوكمة لا تحكّماً، يبقى تكريساً لمرجعية السلطة ومركزيتها وحصانتها. أما الانتماء - الولاء للحزب أو للشخص أو للطائفة أو للخارج، فيغدو مثقلاً بمتفرعات قاتلة ليس أقلها تعطيل مفهوم المواطنة المنزّهة واستبدال نزعة التبعية على أشكالها به، والالتزام بعقيدة مستوردة أو مستحدثة، والاستزلام لشخص يسهم أتباعه في تأليهه.

إن انتماء كهذا يبقى مفتقراً إلى الصدقية والفاعلية ولا يَثْبُت ولا يدوم، بل هو مصدر ضرر حضاري وإنساني أكيد. وأنا أكتب كرئيس سابق لحزب، وكابن لمؤسس حزب، فإذا لم يكن الحزب للوطن يصبح عبئاً على الوطن، يصبح فاعلاً في الوطن لكن على الوطن.

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول. وتجربة الإخوان المسلمين في الزمن الحديث لا تزال ماثلة لجهة الخلافات والانقسامات والحروب التي ولدتها وورثتها، وكذلك الفاشية والنازية والشيوعية التي أرست مفهوم الولاء لحزب، بل لشخص أمثال موسوليني وهتلر وستالين، الأمر الذي استدركه الديكتاتور فرنكو، فأجاز ولو متأخراً الانتقال من نظامه الاستبدادي إلى الشرعية الوطنية التاريخية المتمثلة بالملكية الإسبانية، فاستقرّت إسبانيا حتى اليوم. وينسحب الأمر ولو بشكل مختلف على المواجهة بين الرأسمالية والشيوعية التي ولدت الحروب الباردة والساخنة، والحروب بالمباشر أو بالواسطة (proxy war).

وفي العالمين العربي والخارجي، كم من شعارات وشعبويات أطلقتها بعض الأنظمة، ظاهرها جذّاب وواقعها كذّاب، ترويجها توحيدي وفعلها تقسيمي، دعايتها تنموية، ورعايتها خارجية، وحقيقتها طائفية تدميرية أدّت فيما أدّت إليه إلى شرذمة العالم العربي قبل أن يستفيق بعضه لاحقاً ويقرر ركوب الحضارة والحداثة من الباب الواسع. والعينات كثيرة، من البعث الاشتراكي في الظاهر، الممذهب في الواقع، سنيّاً في العراق وعلوياً في سوريا، إلى الحالة الحوثية في اليمن.

الرئيس حافظ الأسد مودعاً الرئيس أمين الجميل في مطار دمشق (أرشيفية)

أكتب منطلِقاً من التجربة اللبنانية، هذا الوطن الذي دفع غالياً كلفة جنوحه وانتمائه المتعدد، وفاتورة الأنماط الغريبة المستوردة إليه أو المستوطنة فيه، فوقعت أحياناً بعض الفئات اللبنانية في فخّها، على حساب الاستقرار والسلام اللبنانيين.

ففي عام 1958، هزّت الناصرية مشروع الوحدة في لبنان، فاهتز التوازن الداخلي. وفي عام 1969، أسهم اتفاق القاهرة في اقتسام السيادة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسنة 1975، كشر مشروع التوطين عن أنيابه فكانت الحرب وكانت المقاومة اللبنانية. وفي عام 1989، شكل اتفاق الطائف نوعاً من ترميم ناقص للبنيان لم تكتمل أعمدته بسبب تعدد الولاءات التي استفاد منها نظام الوصاية السائد في حينه، وعبّد الطريق لتيار الثورة الإيرانية التي استطاعت أن تحدث خرقاً في البيئة اللبنانية، لا سيما فيما يتعلّق بمفهوم الولاء للوطن.

أفضى تعدد ولاءات اللبنانيين في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات

إن تعدد ولاءات اللبنانيين أفضى في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات، بحيث لا ينتخب رئيس إلا بعد مفاوضات خارجية تفضي إلى تسويات داخلية، ولا تؤلف حكومات إلا باستشارات تنحو إلى أبعد من النص الدستوري، ولا يعيّن ناطور إلا ضمن تفاهمات مسبقة.

وبقدر ما أسهم اتفاق الطائف الذي صار دستوراً في إطفاء النزاعات المسلحة، بقدر ما أرسى مشكلة في السياسة، خصوصاً لجهة الحاجة الدائمة إلى مرجعية خارجية، وربما مجموعة مرجعيات لإيجاد التوافق السياسي بين المؤسسات الدستورية الثلاث بفعل الخلاف على الأساسيات؛ مثل الولاء والكيان والهوية والنظام السياسي، وحمل كل طائفة مشروعاً للبنان يستدعي تدخلاً خارجياً، في أحسن الأحوال سياسياً، وفي الغالب عسكرياً، وفي الأغلب مزيجاً من السياسي والعسكري.

هذا ما يحدث اليوم بين اللجنة الخماسية الدولية التي تحاور الداخل اللبناني شكلاً وإيران أساساً، للوصول إلى مساحة مشتركة تتيح انتخاب رئيس للجمهورية. والدرس هنا يفيد بأنه ليس مهماً أن ينسحب التيار الناصري، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجيشان السوري والإسرائيلي، والباسدران الإيراني من لبنان، بل أن ينسحب اللبنانيون من الخارج ومن التبعية له، وأن يرفضوا نظام الوصاية وتبعاتها على لبنان واللبنانيين.

إن لبنان يحتاج اليوم إلى معالجة ثلاثية الأبعاد لتأمين قيام الدولة واستقرارها:

الأولى تحويل حزب الله إلى مشروع سياسي، ما يفترض نزع سلاحه أسوة بحل الميليشيات التي سبق اعتمادها خلال مرحلة تطبيق اتفاق الطائف، واستبدال الفكر السياسي الذي يحكم حزب الله من منطق استملاك الدولة إلى ثقافة المشاركة النديّة والمتوازنة في الدولة.

الثانية منع توطين اللاجئين الفلسطينيين الذي تذكيه حروب إسرائيل؛ وآخرها الحرب في غزة من خلال تأمين حق العودة عملاً بالقرار الدولي رقم 194، وتوزيع فائض الفلسطينيين على الدول العربية.

الثالثة منع استقرار النازحين السوريين والعمل على إعادتهم إلى سوريا من خلال نقل المساعدات الأممية إلى الداخل السوري بدلاً من صرفها للسوريين في لبنان، كطُعم يبقيهم نزلاء إلى آجال غير مسماة.

تأسيساً على ما تقدّم، نبلغ النتيجة الأساسية وهي مزدوجة: فمن جهة تجب حماية الدين في مكانة جلّى بين المؤمن وربّه، خصوصاً أن التعددية الطائفية والمذهبية هي الغالبة في مجتمعاتنا، والامتناع من جهة ثانية عن «سوق» الله إلى معترك السياسة والاستثمار على اسمه لجني الأرباح السياسية.

ويحضرني هنا نوعان من استغلال الدين لمآرب الشخص أو الحزب؛ النوع الترهيبي والنوع الترغيبي، والاثنان يخدمان المرجعية السياسية بالقوة أو بالحسنى، بالعصا أو بالجزرة على حساب الدين والمجتمع والإنسان كهوية خالصة. الاثنان يُخضعان الإنسان مكرهاً أو مغرراً به، ويستخدمانه باسم الدين أو العقيدة لأغراض مخالفة لأبسط القيم الأساسية التي اعتدنا على تسميتها قيم الديمقراطية وقِيَم الجمهورية.

إن الدين ليس الحل السياسي، بل يصبح مشكلة في الانتماء، بل مشكلة في الوجود إذا أسيء استخدامه أو إذا قُبض عليه بالسياسة.

آن الأوان لسقوط الأنظمة غير الرشيدة...

آن الأوان لسيادة القانون وإعمال الحوكمة الرشيدة بكل مرافقها، وانتصار الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورفاهه...

آن الأوان لدسترة الأنظمة وأنسنة السياسة، وقد بدأت طلائعها تثمر ولا عودة إلى الوراء.

فتعالوا نصلح معاً ميثاق الحياة.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».