ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
TT

ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)

تشعّبت الانتماءات والولاءات والخسارة واحدة: الوطن والدولة.

لكن بدايةً وقبل أي إشعار آخر، تبقى غزة، ليس كمساحة بل كشعب فلسطيني يئنّ موتاً ووجعاً وجوعاً وعوزاً تحت وابل الآلة الإسرائيلية التي تحترف القتل وتتقن الغطرسة. إنها لحظة الوقوف تهيباً أمام هول المأساة التي ذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى والمصابين من المدنيين. إنها لحظة اختبار المجتمع الدولي المدعو فوراً إلى وقف جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، لا بل ضد الدولة الفلسطينية بالذات.

وهي لحظة اختبار الأمة الفلسطينية المدعوة إلى انبثاق مرجعية وطنية، جامعة محررة ومتحررة، يكون التزامها المجرّد بالقضية، وولاؤها المطلق لفلسطين من دون إشراك. إنها المرجعية المرجوة التي تفرض نفسها حكماً كمُحاور مأذون يمثل حصراً الحق الفلسطيني. هذا هو المدخل الطبيعي لوقف المأساة وعودة الحق إلى أصحابه، وخلاف ذلك لن يكون سوى مُدّعي سلطة، أيّاً كانت إنجازاته وبطولاته، فاقد الثقة الوطنية والدولية، وبالتالي فاقد الفاعلية لارتباطه فئوياً وجهوياً، ولربما وطنياً بما هو أبعد من فلسطين.

المطلوب الآن وبإلحاح لمنع هذه السردية القاتلة للقضية الفلسطينية، وقف الانقسامات في القيادة إيذاناً لتأمين وحدة المرجعية ووحدة الشعب، وإسقاط الـ«إيغو» لضمان انتصار القضية، وإلا تصبح إسرائيل المستفيد الأول والأخير، العائمة على بحر الخلافات الفلسطينية والدم الفلسطيني، والقادرة على إعاقة أي دعم عربي إقليمي ودولي.

والتصريحات الأخيرة للقادة في إسرائيل أصبحت واضحة لجهة رفضها قيام دولة فلسطين بالمطلق. هذه هي الفرصة السانحة وقد تكون الأخيرة للسلطة الفلسطينية وللمجلس الوطني الفلسطيني للالتئام والتحرر من القيود وجمع الشمل الفلسطيني والضغط باتجاه دولة فلسطينية مستقلة تسترجع أبناءها - كل أبنائها - من الشتات كما فعلت إسرائيل منذ قيامها في عام 1948...

أما بعد...

لعلّ تجارب التاريخ واضحة لجهة تفكك بعض الدول والكيانات. إن مشكلة بعض العالم الغربي في الماضي، والعربي في الماضي والحاضر هي مشكلة غموض في الانتماء وعدم ثبات في الولاء لمفهوم الوطن والدولة.

ومهما تلوّن الانتماء يبقى انتماءً سواء للشخص أو للحزب أو للطائفة أو للمذهب أو للآيديولوجية المستوردة أو المستوطنة، على حساب الانتماء للوطن الجامع داخلياً والمعترف به دولياً. الانتماء - الولاء للدولة العادلة والمسؤولة يبقى جامعاً، مشتركاً، موحَّداً وموحِدّاً، يبقى حوكمة لا تحكّماً، يبقى تكريساً لمرجعية السلطة ومركزيتها وحصانتها. أما الانتماء - الولاء للحزب أو للشخص أو للطائفة أو للخارج، فيغدو مثقلاً بمتفرعات قاتلة ليس أقلها تعطيل مفهوم المواطنة المنزّهة واستبدال نزعة التبعية على أشكالها به، والالتزام بعقيدة مستوردة أو مستحدثة، والاستزلام لشخص يسهم أتباعه في تأليهه.

إن انتماء كهذا يبقى مفتقراً إلى الصدقية والفاعلية ولا يَثْبُت ولا يدوم، بل هو مصدر ضرر حضاري وإنساني أكيد. وأنا أكتب كرئيس سابق لحزب، وكابن لمؤسس حزب، فإذا لم يكن الحزب للوطن يصبح عبئاً على الوطن، يصبح فاعلاً في الوطن لكن على الوطن.

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول. وتجربة الإخوان المسلمين في الزمن الحديث لا تزال ماثلة لجهة الخلافات والانقسامات والحروب التي ولدتها وورثتها، وكذلك الفاشية والنازية والشيوعية التي أرست مفهوم الولاء لحزب، بل لشخص أمثال موسوليني وهتلر وستالين، الأمر الذي استدركه الديكتاتور فرنكو، فأجاز ولو متأخراً الانتقال من نظامه الاستبدادي إلى الشرعية الوطنية التاريخية المتمثلة بالملكية الإسبانية، فاستقرّت إسبانيا حتى اليوم. وينسحب الأمر ولو بشكل مختلف على المواجهة بين الرأسمالية والشيوعية التي ولدت الحروب الباردة والساخنة، والحروب بالمباشر أو بالواسطة (proxy war).

وفي العالمين العربي والخارجي، كم من شعارات وشعبويات أطلقتها بعض الأنظمة، ظاهرها جذّاب وواقعها كذّاب، ترويجها توحيدي وفعلها تقسيمي، دعايتها تنموية، ورعايتها خارجية، وحقيقتها طائفية تدميرية أدّت فيما أدّت إليه إلى شرذمة العالم العربي قبل أن يستفيق بعضه لاحقاً ويقرر ركوب الحضارة والحداثة من الباب الواسع. والعينات كثيرة، من البعث الاشتراكي في الظاهر، الممذهب في الواقع، سنيّاً في العراق وعلوياً في سوريا، إلى الحالة الحوثية في اليمن.

الرئيس حافظ الأسد مودعاً الرئيس أمين الجميل في مطار دمشق (أرشيفية)

أكتب منطلِقاً من التجربة اللبنانية، هذا الوطن الذي دفع غالياً كلفة جنوحه وانتمائه المتعدد، وفاتورة الأنماط الغريبة المستوردة إليه أو المستوطنة فيه، فوقعت أحياناً بعض الفئات اللبنانية في فخّها، على حساب الاستقرار والسلام اللبنانيين.

ففي عام 1958، هزّت الناصرية مشروع الوحدة في لبنان، فاهتز التوازن الداخلي. وفي عام 1969، أسهم اتفاق القاهرة في اقتسام السيادة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسنة 1975، كشر مشروع التوطين عن أنيابه فكانت الحرب وكانت المقاومة اللبنانية. وفي عام 1989، شكل اتفاق الطائف نوعاً من ترميم ناقص للبنيان لم تكتمل أعمدته بسبب تعدد الولاءات التي استفاد منها نظام الوصاية السائد في حينه، وعبّد الطريق لتيار الثورة الإيرانية التي استطاعت أن تحدث خرقاً في البيئة اللبنانية، لا سيما فيما يتعلّق بمفهوم الولاء للوطن.

أفضى تعدد ولاءات اللبنانيين في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات

إن تعدد ولاءات اللبنانيين أفضى في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات، بحيث لا ينتخب رئيس إلا بعد مفاوضات خارجية تفضي إلى تسويات داخلية، ولا تؤلف حكومات إلا باستشارات تنحو إلى أبعد من النص الدستوري، ولا يعيّن ناطور إلا ضمن تفاهمات مسبقة.

وبقدر ما أسهم اتفاق الطائف الذي صار دستوراً في إطفاء النزاعات المسلحة، بقدر ما أرسى مشكلة في السياسة، خصوصاً لجهة الحاجة الدائمة إلى مرجعية خارجية، وربما مجموعة مرجعيات لإيجاد التوافق السياسي بين المؤسسات الدستورية الثلاث بفعل الخلاف على الأساسيات؛ مثل الولاء والكيان والهوية والنظام السياسي، وحمل كل طائفة مشروعاً للبنان يستدعي تدخلاً خارجياً، في أحسن الأحوال سياسياً، وفي الغالب عسكرياً، وفي الأغلب مزيجاً من السياسي والعسكري.

هذا ما يحدث اليوم بين اللجنة الخماسية الدولية التي تحاور الداخل اللبناني شكلاً وإيران أساساً، للوصول إلى مساحة مشتركة تتيح انتخاب رئيس للجمهورية. والدرس هنا يفيد بأنه ليس مهماً أن ينسحب التيار الناصري، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجيشان السوري والإسرائيلي، والباسدران الإيراني من لبنان، بل أن ينسحب اللبنانيون من الخارج ومن التبعية له، وأن يرفضوا نظام الوصاية وتبعاتها على لبنان واللبنانيين.

إن لبنان يحتاج اليوم إلى معالجة ثلاثية الأبعاد لتأمين قيام الدولة واستقرارها:

الأولى تحويل حزب الله إلى مشروع سياسي، ما يفترض نزع سلاحه أسوة بحل الميليشيات التي سبق اعتمادها خلال مرحلة تطبيق اتفاق الطائف، واستبدال الفكر السياسي الذي يحكم حزب الله من منطق استملاك الدولة إلى ثقافة المشاركة النديّة والمتوازنة في الدولة.

الثانية منع توطين اللاجئين الفلسطينيين الذي تذكيه حروب إسرائيل؛ وآخرها الحرب في غزة من خلال تأمين حق العودة عملاً بالقرار الدولي رقم 194، وتوزيع فائض الفلسطينيين على الدول العربية.

الثالثة منع استقرار النازحين السوريين والعمل على إعادتهم إلى سوريا من خلال نقل المساعدات الأممية إلى الداخل السوري بدلاً من صرفها للسوريين في لبنان، كطُعم يبقيهم نزلاء إلى آجال غير مسماة.

تأسيساً على ما تقدّم، نبلغ النتيجة الأساسية وهي مزدوجة: فمن جهة تجب حماية الدين في مكانة جلّى بين المؤمن وربّه، خصوصاً أن التعددية الطائفية والمذهبية هي الغالبة في مجتمعاتنا، والامتناع من جهة ثانية عن «سوق» الله إلى معترك السياسة والاستثمار على اسمه لجني الأرباح السياسية.

ويحضرني هنا نوعان من استغلال الدين لمآرب الشخص أو الحزب؛ النوع الترهيبي والنوع الترغيبي، والاثنان يخدمان المرجعية السياسية بالقوة أو بالحسنى، بالعصا أو بالجزرة على حساب الدين والمجتمع والإنسان كهوية خالصة. الاثنان يُخضعان الإنسان مكرهاً أو مغرراً به، ويستخدمانه باسم الدين أو العقيدة لأغراض مخالفة لأبسط القيم الأساسية التي اعتدنا على تسميتها قيم الديمقراطية وقِيَم الجمهورية.

إن الدين ليس الحل السياسي، بل يصبح مشكلة في الانتماء، بل مشكلة في الوجود إذا أسيء استخدامه أو إذا قُبض عليه بالسياسة.

آن الأوان لسقوط الأنظمة غير الرشيدة...

آن الأوان لسيادة القانون وإعمال الحوكمة الرشيدة بكل مرافقها، وانتصار الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورفاهه...

آن الأوان لدسترة الأنظمة وأنسنة السياسة، وقد بدأت طلائعها تثمر ولا عودة إلى الوراء.

فتعالوا نصلح معاً ميثاق الحياة.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟