أمن العالم والمنطقة مرتبطان وعلى العراق استعادة دوره المحوري

موظف في هيئة الانتخابات العراقية يحمل صندوقاً في مركز بالكرخ لفرز الأصوات الانتخابات المحلية في 23 ديسمبر (أ.ف.ب)
موظف في هيئة الانتخابات العراقية يحمل صندوقاً في مركز بالكرخ لفرز الأصوات الانتخابات المحلية في 23 ديسمبر (أ.ف.ب)
TT

أمن العالم والمنطقة مرتبطان وعلى العراق استعادة دوره المحوري

موظف في هيئة الانتخابات العراقية يحمل صندوقاً في مركز بالكرخ لفرز الأصوات الانتخابات المحلية في 23 ديسمبر (أ.ف.ب)
موظف في هيئة الانتخابات العراقية يحمل صندوقاً في مركز بالكرخ لفرز الأصوات الانتخابات المحلية في 23 ديسمبر (أ.ف.ب)

يطوي العالم عام 2023 في ظل هيمنة الصراعات والحروب، واستمرار الحرب الأوكرانية، وتصاعد التوتر بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية، ومؤخراً الحرب على غزة، تترافق مع استمرار مؤشرات تراجع النمو الاقتصادي العالمي؛ فهو بحق عام من التحولات العنيفة والخطيرة التي تُهدد السلم والأمن الدوليين إذا تُركت دون كابح، ونتطلع إلى أن يكون العام الجديد منطلقاً لحسم هذه الأزمات.

ووسط السجالات القائمة حول نشوء نظام جديد ثنائي أو متعدد القطبية من عدمها، يقف العالم أمام مُفترق طرق في مواجهة تحديات تستدعي تحرّكاً جادا لفرض الاستقرار عبر مواثيق وتفاهمات تمنع التصعيد أولاً، وتضع مساراً للخروج من الأزمات المتعددة ثانياً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تصاعد الأزمات الدولية على محاور متعددة؛ من التوترات الجيوسياسية والصراعات المسلحة والحروب الاقتصادية لن تكون مطلقاً في صالح الخطر الوجودي الذي يهدد الكرة الأرضية برمتها، ألا وهو أزمة المناخ وتداعياتها على الأمن الغذائي والمائي والهجرة، حيث إن مواجهة هذا الخطر لن تتحقق من دون الأمن والاستقرار الدوليين، وإزالة هواجس الشك، لا سيما بين الدول الكبرى التي تتحمل الجزء الأكبر من مهمة مواجهة التداعيات الخطيرة للتغيرات المناخية.

وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى النجاح الذي حققه مؤتمر المناخ «كوب 28» على مستوى التنظيم من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى مستوى النتائج، حيث إن انعقاده في الشرق الأوسط التي هي واحدة من أكثر مناطق العالم تأثراً بتغيرات المناخ أمر جدير بالدعم، لا سيما أن مُخرجاته تُمثل انطلاقة واعدة لتحقيق هدف «صفر انبعاثات»، بحلول عام 2050، تماشياً مع العلم، والخطوات الحاسمة في زيادة دعم الطاقة المتجددة وتفعيل صندوق الخسائر والأضرار.

في منطقة الشرق الأوسط التي لا تعاني من تداعيات المناخ فحسب، بل تُعرف بمصدر قلق وتهديد دائم للسلم والأمن الدوليين، يمكن تلمُّس هواجس الخوف المتصاعدة إزاء التطورات الدولية الأخيرة، زادتها الحرب الإسرائيلية على غزة، لتؤكد أنه لا سلام ولا استقرار في هذه المنطقة التاريخية في قلب العالم من دون حل جذري وعادل للقضية الفلسطينية؛ فلقد أثبتت الحرب الإسرائيلية على غزة، وبشكل لا يقبل الشك، أن بقاء القضية الفلسطينية معلّقة، واستمرار مظلومية الشعب الفلسطيني، ومحاولة تصفية القضية بالمراهنة على عامل الوقت، أمر محكوم بالفشل، بل سيبقى يشكل تهديداً دائماً للسلم والأمن الدوليين، كما أن هذه الحرب وتداعياتها تؤكد أن الوقت قد حان لضمان الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية عبر تأسيس دولة فلسطينية مستقلة، وإنهاء معاناة شعب صبر لعقود طويلة.

دمار إثر غارة إسرائيلية على قطاع غزة (أ.ف.ب)

وإحدى نتائج هذه الحرب، مع أزمات إقليمية مترابطة، دحض السردية القائلة إن منطقة الشرق الأوسط لم تعد أولوية للولايات المتحدة والدول الكبرى، حيث إن عودة الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري بالمنطقة مجدداً يقابله انخراط لافت لقوى كبرى، كالصين وروسيا، سياسياً واقتصادياً وتجارياً، يؤكد محورية الشرق الأوسط وأهميته للعالم أجمع.

إن عودة الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط نتيجة حرب غزة، أمنياً وسياسياً، يشير إلى تأجيل التحوّل الأميركي نحو الشرق الأقصى بعيداً عن الشرق الأوسط، حيث إن الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، ولو لفترة معينة، يكشف اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، وأهمية الشرق الأوسط للولايات المتحدة والعالم أجمع. إن شرق أوسط محكوماً بأزمات متناسلة بلا آفاق استقرار دائم يؤكد أن السلم والأمن الدوليين سيبقيان مثلومين من دون حل، وهذا ليس صعب المنال.

العراق في قلب المتغيرات

وعلى بلد مثل العراق عانى لعقود طويلة من الحروب والصراعات والإرهاب، ويسعى للنهوض وتجاوز مآسي الماضي، أن يكون مستعداً لتبوؤ مكانه الطبيعي والمحوري فيه، حيث إن التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة التي شهدها عام 2023 وما سيليها من تطورات مقبلة في العام الجديد تمثل اختباراً حقيقياً للعراق، فالحرب الأوكرانية وتداعياتها على العالم أجمع بما فيه العراق، ولو بشكل محدود، وأخيراً الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية المحتملة تُشكل عوامل ضغط قد تعوق الاستقرار الضروري للانطلاق بمشاريع اقتصادية تنموية واعدة للعراق ودول المنطقة.

انتهينا قبل أيام قليلة من انتخابات مجالس محافظات طال انتظارها، بعد 10 سنوات من التأجيل والتعطيل والتأخير كان نتيجته كسر شرعية وجودها، وأفضت إلى قرار نيابي بإلغائها، ليس لتأخر انتخاباتها فحسب، بل بسبب الإخفاق في عمل هذه المجالس حيث عدها طيف واسع من العراقيين مؤسسة غير فاعلة لم تنجُ من ظواهر سوء الإدارة والفساد.

تجب الإشارة إلى أهمية مجالس المحافظات، بوصفها مبدأ دستورياً يُقر اللامركزية الإدارية، ولضرورات الحكم الرشيد والمتطلبات الخدمية والاقتصادية المتباينة لكل محافظة، والأهم ضمان بناء توازن في السلطة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والمحافظات يمنع خطورة تنامي نظام سلطوي مركزي على المدى البعيد.

لا بد هنا من الإشادة بجهود الحكومة في الإيفاء بإجراء الانتخابات المحلية، وتبقى مخرجات هذه الانتخابات في تشكيل مجالس محافظات تمارس مهامها بفاعلية هو الأهم، فعلى هذه المجالس تدارك الإخفاقات التي سجلتها خلال السنوات الماضية نتيجة عوامل عدة لا تتحملها فقط مجالس المحافظات، بل مرتبطة بإجراءات السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن إرث البيروقراطية المركزية المتشددة، والخشية من أن يؤدي اتساع وتشّعب الموازنات المالية إلى مفاقمة الفساد، والشحة في تشريعات ضرورية أسفرت عن عرقلة المحافظات في إدارة شؤونها.

وفي حين مضت الاستعدادات لإجراء الانتخابات بانسيابية، فإننا لا يمكن أن نتجاهل واقع عزوف العراقيين عن المشاركة في الانتخابات، وشكّلت في هذه الانتخابات أكثر من نصف الناخبين، فالأغلبية التي تقاطع الانتخابات تهدد شرعية الحكم، أُضيف إليها مقاطعة جمهور التيار الصدري المهم في المجتمع، فالانتخابات في نهاية المطاف ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة ومسار سلمي يَضمنُ مشاركة العراقيين في تجديد خياراتهم وتحقيق تطلعاتهم.

إن تفعيل الدور المهم لمجالس المحافظات، ومعالجة حالة الانسداد السياسي التي تواجه البلد في أعقاب كل عملية انتخابية، وحسم الأزمة القائمة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، تستدعي إصلاحاً واسعاً يبدأ من إعادة النظر في الدستور وتعديله وفق السياقات الدستورية والقانونية؛ بالاستفادة من الإخفاقات والتعقيدات التي أفرزها التطبيق العملي، وكما اقترحت سابقاً، مثلاً يمكن إصلاح النظام النيابي والانتقال إلى نظام شبه رئاسي، وأن يكون انتخاب المحافظ بشكل مباشر من سكان محافظته، وبما يعزز المنظومة الديمقراطية والمساءلة الشعبية، وإيجاد حل جذري وبنيوي للأزمة المستدامة بين بغداد وإقليم كردستان.

اقتصادياً، يبقى العراق أمام اختبار مهم رغم الوفرة المالية المتحققة، التي هي بطبيعة المال مؤقتة؛ ففي ظل التقلبات الاقتصادية العالمية وتوقعات تراجع النمو الاقتصادي في العام الجديد، وفقاً لـ«صندوق النقد الدولي»، تترافق مع تصاعد التوترات الدولية والإقليمية، لا سيما الحرب الروسية - الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والانتخابات الرئاسية الأميركية، واتفاقات المناخ، ينبغي على العراق الاستعداد لذلك جيداً.

مظاهرات احتجاجية أمام البنك المركزي في بغداد على هبوط قيمة الدينار العراقي في يناير 2023 (أ.ف.ب)

يشهد العراق في الوقت الحالي انتعاشاً اقتصادياً بفضل الوفرة المالية المتحققة نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالمية، ويُتوقع أن يستمر ذلك لفترة قد تقصر أو تطول، ولكن لا مناص من الشروع في تحقيق التحوّل الاقتصادي، إذ من الخطير استمرار اقتصادنا الريعي غير المستدام المعتمد على النفط، في ظل تزايد سكاني من بين الأعلى عالمياً بمعدل تجاوز مليون نسمة سنوياً، الجزء الأكبر منهم من الشباب، وما يفرضه من تزايد الطلب على الوظائف وفرص العمل، حيث إن هذه الزيادة السكانية لن تُضيف إلى الازدهار الاقتصادي الكثير، رغم إيجابية الدخل القومي السنوي، من دون ترتيبات مستدامة.

كما أن تصاعد الالتزامات المناخية العالمية؛ بالتخلي عن الوقود الأحفوري والانتقال نحو الطاقات المتجددة، وانعكاس ذلك على توقعات تراجع الطلب العالمي على النفط خلال السنوات العشر المقبلة، يستوجب التخطيط المبكر لتغيير شامل في أسس اقتصادنا، ويرتبط ذلك أيضاً بضرورة مواجهة أخطر تهديد للبلاد يتمثل في التغير المناخي وآثاره الاقتصادية وأضراره البيئية الكبيرة على جميع أنحاء العراق.

إن الإسراع في إجراءات اقتصادية تُركِّز على تعظيم الموارد غير النفطية يمثل أولوية قصوى للعراق، عبر الانخراط في التجارة البينية؛ بالاستفادة من موقعنا الجغرافي وتشجيع الاستثمار الحقيقي ودعم القطاع الخاص والنهوض بقطاع الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة وإصلاح أنظمة الضرائب والجمارك.

وبالتوازي مع هذه الترتيبات، لا بد من تعزيز برنامج مكافحة ظاهرة الفساد؛ فلا إصلاح حقيقياً من دون مكافحة الفساد، ولا اجتثاث للإرهاب إلا باستئصال الفساد الذي يمثل منبعاً أساسياً لتمويله، فلا بد من إجراءات استثنائية تقوم على استرجاع ما تم نهبه وتهريبه من أموال العراقيين إلى الخارج، عبر تشريعات جريئة وتنسيق دولي فاعل لمكافحة الفساد، على غرار التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب.

إلا أن التحدي الأخطر والآني الذي يواجه العراق هو التجاوز على الدولة وانتهاك سيادتها واستباحة هيبتها؛ فما شهدناه من استهداف للبعثات الدبلوماسية ومؤسسات حكومية عراقية وقواعد عسكرية تستضيف مستشاري التحالف الدولي، بناء على دعوة الحكومة العراقية، مؤشر خطير يضر بمصالح العراق وشعبه. موقف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في هذه القضية موضع تقدير، وينبغي علينا دعمه ومساندته في التصدي الفاعل لهذه التجاوزات وكبح جماح الخارجين على القانون؛ فقرار السلم والحرب هو قرار الدولة ومؤسساتها الدستورية، لا قرار جماعة خارجة عن القانون غير حاسبةٍ العواقب على البلد وشعبه. القرار الوطني، ومن خلال المؤسسات الدستورية، هو المخول حصراً بإقرار الحاجة إلى التحالف الدولي من عدمه، وذلك بناء على مستلزمات مصلحة البلد وأمنه واستقراره.

تهدد أدوار الفصائل الخارجة على القانون سيادة العراق (أ.ف.ب)

إن موقع العراق الجغرافي في قلب المنطقة يحمل من المفارقات الكثير؛ إما أن يكون نقمة للعراقيين وكل المنطقة عبر حروب عبثية وساحة صراع وتناحر إقليمية ودولية، وقد اختبرنا هذا المسار لعقود خلت وكان الخاسر فيها الجميع، أو أن يكون نعمة للعراقيين والمنطقة والعالم أجمع؛ فهذا الموقع الجغرافي بثرواته الوفيرة وتنوعه الديموغرافي والبيئي يمكنه أن يجمع دول الشرق الأوسط اقتصادياً وتجارياً واجتماعياً وبيئياً، عبر ترابطات متينة تقوم على خدمة العراقيين وتبادل المصالح بين شعوب كل المنطقة التي جزعت من العنف والصراعات، وتتطلع إلى مستقبل مزدهر من التنمية الاقتصادية وفرص العمل.

يتوق العراقيون بشدة إلى معالجات جذرية للخلل البنيوي في منظومة الحكم، وتجاوز ما خلّفه العقدان الماضيان من إخفاقات، عبر حوار وطني حقيقي وإصلاح يحقِّق لهم حكماً رشيداً يضمن حقوق جميع المكونات ويحفظ خصوصياتهم، عبر إعلاء مبدأ المواطنة، وليس لنا خيار في العراق سوى تعزيزِ السياسة الخارجية القائمة على النأي عن الصراعات والمحاور المتقاطعة، والعمل على بناء علاقات متوازنة مع الجميع، والمصلحة الإقليمية اليوم مرتبطة بدعم عودة العراق إلى دوره المحوري، وإنهاء التنافسات على أرضه.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».