الفيصل اتخذ قرارات تاريخية حافظت على أروقة المسجد الحرام

الفهد يقود التوسعة السعودية الثانية وترميم الكعبة المشرفة

TT

الفيصل اتخذ قرارات تاريخية حافظت على أروقة المسجد الحرام

صورة تظهر العمران السعودي للتوسعة الأولى وذلك عام 1976
صورة تظهر العمران السعودي للتوسعة الأولى وذلك عام 1976

في المرحلة الثانية من التوسعة السعودية الأولى (1381هـ - 1961م إلى 1388هـ - 1968م)، تم بناء باقي الأقبية وتسقيفها، واستكمال أعمال المسعى وباقي الأسقف، وإكمال أعمال بناء الدور الأرضي لجميع الأروقة في كل جهات المسجد الحرام. كما تم إنشاء ثلاث منارات، واحدة بجانب الصفا، واثنتين بجانبي باب الملك عبد العزيز كما أزيل عقد باب بني شيبة من المطاف. وفي أثناء هذه المرحلة بدأ عهد الملك فيصل الذي تولى الحكم في 27 جمادى الآخرة 1384هـ الموافق 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1964م.

الملك فيصل في زيارة لمشاريع توسعة المسجد الحرام ويرافقه المقاول السعودي محمد بن لادن وذلك في عام 1966

هيئة هندسية استشارية إسلامية عالمية للمسجد الحرام

استمرت أعمال التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام في عهد الملك فيصل وشهدت قرارات مهمة، حيث جرى إعادة هيكلة المشروع وتغيير المكتب الاستشاري المصري (محمود عمر ويحيى مصطفى)، وفي العاشر من جمادى الأولى سنة 1386هـ الموافق 25 أغسطس (آب) 1966م تم تعيين (اتحاد المهندسين الاستشاريين) من الباكستان كاستشاري جديد للمشروع، وذلك بهدف إنجازه في التاريخ الذي حددته اللجان الحكومية المختصة وهو جمادى الآخرة من عام 1390هـ - 1970م، ولكن حدث تعديل كبير في تخطيط المشروع وذلك في عام 1387هـ - 1967م، عندما أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز أمره بألا تهدم الأروقة القديمة، ما اقتضى تغييرات وتعديلات في تصميم المبنى السعودي الجديد لربطه بمبنى الأروقة القديم وكان ذلك تحديا هندسيا، فاقترح المسؤولون في وزارة المالية والاقتصاد الوطني دعوة أشهر المعماريين والمهندسين العالميين من مختلف الدول الإسلامية، لإجراء الدراسات اللازمة وإيجاد الحلول الهندسية، وتم تشكيل هيئة هندسية إسلامية عالمية للنظر في موضوع ربط مبنى الأروقة القديمة بالمبنى الجديد المتمثل بالأروقة السعودية، واستقبل الملك فيصل أعضاء هذه الهيئة في صباح يوم السبت 11 رجب 1387هـ الموافق 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1967م في قصر شبرا بالطائف، وضمت الهيئة في عضويتها كلا من: الدكتور ريحا مسارا من تركيا، والدكتور محمد علي أديبي من إيران والمهندس محمد طاهر الجويني من مصر، والدكتور عمر عزام من المملكة العربية السعودية، والدكتور إحسان بربوتي من العراق، والمهندس حاجي محمد باسو من المغرب، والمهندس محمد فياض الدين من الهند، والمهندس خاجا عظيم الدين من باكستان.

خبر نشرته صحيفة أم القرى للاجتماع الذي عقده الملك فيصل مع الهيئة الهندسية الإسلامية العالمية التي دعيت للنظر في ربط مبنى الحرم بالمبنى الجديد

وبعد عقد عدة اجتماعات، خلصوا إلى أن البناء القديم قد استنفد عمره الافتراضي وأن بقاءه يقتضي إصلاحات وتجديدات كبيرة، وأوصت الهيئة بأن يحتفظ بالأروقة القديمة في الجهة الغربية من المسجد الحرام من باب العمرة إلى باب الملك عبد العزيز، لأن هذا الجزء مواز تقريباً للتوسعة الجديدة وينسجم مع التخطيط العام، أما الأجزاء الأخرى كلها فينبغي هدمها، كما أوصت اللجنة بعمل عقود مقنطرة بعرض خمسة أمتار في واجهة المبنى الجديد في الجهات الثلاث التي هدمت بالطراز المعماري نفسه للأروقة القديمة بالحجر الشميسي، وذلك للحفاظ على الشكل الجمالي والمعماري لأروقة المسجد الحرام.

خبر نشرته صحيفة أم القرى عن القرارات المهمة للهيئة

قرار الملك فيصل التاريخي للحفاظ على هوية المسجد الحرام

بعد أن أبلغ الملك فيصل بما توصلت له الهيئة الاستشارية لم يوافق على هدم الرواق القديم الذي بلغ عمره أربعمائة عام، وأصدر قراره التاريخي بعدم هدمه وبذل كل الجهود للمحافظة عليه، ومراعاة انسجامه مع العمارة الجديدة، بغض النظر عن اعتبارات التكاليف التي قد يتطلبها هذا المجهود.

ويؤكد الدكتور منصور الدعجاني أن هذا القرار التاريخي للملك فيصل حافظ على بقاء أحد أهم الآثار المعمارية الإسلامية، الذي يزخر بكثير من الشواهد التاريخية، من نقوش وكتابات وأعمدة يمتد تاريخها إلى عهد الخليفة العباسي محمد المهدي، وما يحويه من عناصر معمارية تعود إلى العصر العباسي، والعصر المملوكي، والعصر العثماني، وما يمثله كذلك في وجدان المسلمين من خلال الصورة الذهنية التي تكونت عن المسجد الحرام منذ قرون من خلال كتب الرحلات، والرسومات، والصور الفوتوغرافية .

خبر نشرته صحيفة أم القرى عن أعضاء الهيئة الهندسية الإسلامية العالمية التي دعيت للنظر في ربط مبنى الحرم بالمبنى الجديد

واستكمالاً لتوسعة المطاف بإزالة الزوائد التي كانت فيه، تم خلال هذه المرحلة إزالة مبنى مقام إبراهيم واستبدال غطاء بلوري زجاجي للمقام به، وكان ذلك في 18 رجب 1387هـ الموافق 4 أكتوبر 1967م، وفي المرحلة الثالثة (1389هـ - 1969م إلى 1393هـ - 1973م) ، تم هدم المباني في الجانبين الغربي والشمالي للتوسعة، وتم الشروع في بناء الأروقة في تلك الجهات وفي المنطقة الممتدة من باب العمرة إلى باب الفتح.

التصميم الدائري للتوسعة السعودية الأولى الذي تم رفضه

أروقة المسجد الحرام بعد التوسعة

مع تكملة بناء منارتي باب الفتح، وكذلك إكمال بناء الدور الأول من المسعى وتشييد قبة الصفا، وإكمال بناء المنارة الواقعة عندها وجعلها مثل طراز المنارات الست الأخرى. وبعد الانتهاء من بناء المسعى، أصبح المسجد الحرام محاطاً بالأروقة الجديدة المبنية بالخرسانة المكسوة بالرخام، من جميع جهاته، ومكوناً من طوابق عدة (أقبية، دور أرضي، ودور أول، وأسطح)، وأصبح المسعى مكوناً من دورين وأسطح، واعتمد في إنشاء عقود المسجد الحرام العقود المدببة ذات المركزين وبين كل عمودين خمسة أمتار للتناسب معمارياً وجمالياً مع الأروقة التاريخية التي تتصف بالصفة المعمارية ذاتها، وبالمسافة بين الأعمدة نفسها. وتم في هذه المرحلة إنشاء الجناحين الشمالي والجنوبي بين البناء القديم والجديد للربط والانسجام بينهما، واستبدلت بأركان المبنى القديم الأربعة انحدارات قصيرة لتنسجم مع المبنى الجديد، وبذلك عدل الشكل الرباعي لصحن الحرم إلى شكله المثمن.

واقتضت الضرورة تجديد بعض أجزاء الأروقة القديمة ودمجها في التوسعة السعودية الأولى، وإزالة زيادتي دار الندوة وباب إبراهيم حتى يكون البناء في خطوط مستقيمة، كما تم في هذه المرحلة إنشاء مبنى المكبرية في جنوب ساحة المطاف ملاصقة لواجهة الرواق الجنوبي.

الملك خالد في حج عام 1978 وكانت يتابع أعمال التوسعة السعودية الأولى

المرحلة الرابعة للتوسعة وتولي الملك خالد

في المرحلة الرابعة ( 1393ه- 1973م إلى 1396ه - 1976م)، التي امتدت إلى عهد الملك خالد الذي تولى الحكم في 13 ربيع الأول 1395ه – 25 مارس (آذار) 1975م، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل المشروع كان التسليم الابتدائي لأعمال المشروع من المقاول إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني في 17 ربيع الثاني 1394هـ الموافق 23 أبريل (نيسان) 1974م، حيث لوحظت عيوب في التنفيذ في بعض المواقع، ومنها وجود فراغات تصل إلى حوالي 20 متراً بين المبنيين القديم والجديد في الجانبين الشمالي الغربي والجنوب الشرقي، وذلك بسبب الأجزاء التي هدمت في المبنى القديم.

وهنا يقول الدكتور منصور الدعجاني: «تم ترميم المبنى القديم بإعادة بناء الأجزاء التي هدمت منه وربطها بالمبنى الجديد، فانعدمت بذلك الزوايا القائمة أو شبه القائمة التي كانت ظاهرة في أطراف الصحن في أركان الأروقة القديمة، وحل محلها ما أطلق عليه الشتلات، لتنسجم مع البناء الجديد، وأصبحت العقود بوجود أربعة أعمدة رخام بين دعامتين مثمنتين، خلافاً للطريقة المتبعة من قبل في توزيع الأعمدة والدعائم، بحيث يغلب على جميع العقود وجود دعامتين بينهما ثلاثة أعمدة، وحوفظ بشكل كبير عند إضافة هذه الشتلات على التجانس التام بين المباني الأصلية والمباني المجددة في الرواق القديم، لذلك لا يجد المشاهد للأروقة فوارق واضحة بينهما، حيث إن المباني الأصلية بنيت من أعمدة رخامية وعقود مبنية بالحجر، وقباب مبنية بالطوب، أما الأجزاء المجددة فبنيت بالخرسانة المسلحة وبأعمدة منتظمة وكثيرة الأضلاع وكمرات جديدة تكسوها من الخارج طبقة من البياض الإسمنتي المصقول الذي يغطي الخرسانة المسلحة، أما العقود فقد بنيت من الحجر نفسه (الشميسي)، وتيجان الأعمدة عملت في قوالب من الإسمنت، وأما القباب فقد بنيت من الطوب الأحمر مكسواً بستار خفيف استعمل فيه الإسمنت وخليط من الجير مع البياض الإسمنتي وقد استخدم في أعمال التجديد الحجر الشميسي نفسه».

صورة تظهر تبليط المطاف في عهد الملك خالد بن عبد العزيز

تناسق معماري وهندسي في العمارة

وتم التسليم النهائي للمشروع في عهد الملك خالد يوم 7 رجب 1396هـ - 4 يوليو (تموز) 1976م. وجاءت الأروقة السعودية الجديدة حول الجزء الذي احتفظ به من الأروقة القديمة على شكل مربع مشطوف الزوايا متخذة الشكل المثمن، وهذه الزوايا المشطوفة يوجد بها المداخل الرئيسية الثلاثة للمسجد الحرام حينذاك، وهي: باب الملك عبد العزيز في الجهة الجنوبية، وباب الفتح في الجهة الشمالية الشرقية، وباب العمرة في الجهة الشمالية الغربية. ويتكون المبنى من طابقين بسقوف عالية، حيث يبلغ ارتفاع الدور الأرضي عشرة أمتار ونصف، والدور الأول عشرة أمتار، أما الأقبية (البدرومات) فارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف، وبني المسعى الذي يحد المسجد الحرام من الجهة الشرقية من دورين أول وثان دون قبو لأن مجرى تصريف السيول يمر من تحته. وتعتبر فكرة ربط الأروقة السعودية بالأروقة التاريخية مع إعادة بناء ما هدم منها دون ملاحظة أي فوارق واضحة بين البناء الأصلي والمجدد، وإيجاد هذا التناسق المعماري الجميل؛ إنجازاً معمارياً فريداً في تاريخ عمارة المسجد الحرام بشكل خاص، وتاريخ العمارة والفن المعماري على وجه العموم. وكانت هذه أول مرة تتعدد فيها أدوار المسجد الحرام وتتم إنارته بالكامل بأحدث الطرق الفنية، وتستخدم المراوح الكهربائية لتلطيف الهواء وتركب فيه الأنظمة الكهربائية والميكانيكية والأنظمة الصوتية المتكاملة ويزود بنظام إطفاء الحريق وينفذ فيه خزانات وشبكات لماء زمزم ولإمداد المياه وأخرى لتصريف المياه والسيول، إضافة لشبكات الطرق والميادين المحيطة ودورات المياه العمومية التي أنشئت حول المسجد الحرام.

إدارة التشغيل والصيانة بالمسجد الحرام أعمال صيانة مكائن التكييف في أروقة المسجد الحرام بما يضمن استمرارية تبريد الأجواء على مدار الساعة

التكييف يدخل المسعى لأول مرة

واستكمالاً للتوسعة السعودية الأولى ولتوفير الراحة لقاصدي المسجد الحرام، بدأت في عهد الملك خالد عام 1398هـ - 1978م توسعة إضافية للمطاف فألغيت الحصاوي، والمشايات، وأزيل المنبر الرخامي والمظلة التي بجوار مقام إبراهيم كما تم هدم المبنى البارز للمكبرية في الجهة الجنوبية، واستبدل مبنى جديد به في المكان نفسه داخل الرواق القديم، كما تم بناء مكبرية أخرى في الجهة الشمالية للمسجد الحرام، وتقرر نقل مدخل قبو بئر زمزم من موقعه إلى موقع أبعد شرق الساحة الشرقية للمطاف، وتسقيف المساحة التي يحتلها المدخل السابق بمستوى صحن المطاف، وتبليط المطاف كاملاً برخام الثاسوس (نسبة إلى جزيرة ثاسوس اليونانية) لخصائصه الفريدة التي تجعله دائم البرودة حتى في أشد الأوقات حرارة، ما يسهل على الطائفين والمصلين في أوقات النهار. كما تم رفع مستوى الأروقة عن منسوب صحن المطاف وذلك لدرء أخطار السيول عند نزول الأمطار، وبناء درج في جميع جهات المسجد الحرام للنزول من الأروقة إلى صحن المطاف الذي أصبح يشغل كامل الفناء المكشوف داخل الحرم، وزادت بذلك مساحة المطاف من 4150 مترا مربعا إلى 7119 مترا مربعا، وتضاعف عدد استيعابه للطائفين من 14000 إلى 28000 طائف في الوقت نفسه. وإضافة إلى المراوح الكهربائية، تم تبريد المسعى بالمكيفات الصحراوية ولأول مرة في تاريخ المسجد الحرام، وتوفير حافظات مياه زمزم المبردة في جميع أرجاء المسجد الحرام. كما أمر الملك خالد بصنع باب جديد للكعبة المشرفة بدلاً من الباب الذي تم صنعه في عهد الملك عبد العزيز، وتولى صنع الباب الجديد شيخ الصاغة في مكة أحمد بن إبراهيم بدر وتم تركيبه عام 1399ه – 1979م. كما تم توسعة الميادين المحيطة والطرق المؤدية للمسجد الحرام وشق عدد من الأنفاق ولأول مرة لتسهيل حركة المرور والوصول للمسجد الحرام. وفي عهد الملك خالد تم عام 1401ه – 1981م بناء قصر الصفا على جبل أبي قبيس المطل على المسجد الحرام ليكون مقرا للملك وضيوف الدولة وأنشئت به مصليات يؤدون فيها الصلاة مع الحرم مما يخفف من الزحام.

الملك خالد في زيارة للمسجد الحرام في نهاية التوسعة السعودية الأولى

ربع قرن لاستكمال التوسعة السعودية الأولى

لقد استمر (مشروع جلالة الملك عبد العزيز لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته) أو ما اصطلح على تسميته (التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام) لحوالي ربع قرن ومر بعهود ومراحل متعددة، وشمل كثيرا من التفاصيل والمواقف والقرارات، كما كان فيه كثير من التجارب والدروس المستفادة والخبرات التراكمية والتطورات المعرفية ليس في الجوانب المعمارية والهندسية فحسب؛ بل وفي كل الجوانب الأخرى المرتبطة بخدمة الحرمين الشريفين. لقد كان مشروعا استراتيجيا وتوسعة تأسيسية أشرف عليها الملوك وتابعها المسؤولون السعوديون على جميع المستويات وشارك في إنجازها أكثر من 55 ألفاً من الخبراء والمهندسين والفنيين والموظفين والعمال، كما كان نقلة نوعية في تاريخ توسعة وعمارة الحرم المكي إذ بلغ إجمالي مساحة مباني التوسعة إضافة إلى مساحة الميادين المحيطة حوالي (200000 متر مربع)، أي ما يزيد على ستة أضعاف مساحته السابقة، تستوعب في أوقات الذروة ما يصل إلى 400 ألف مصل، وبتكلفة إجمالية بلغت مليار ريال ( 266 مليون دولار).

الفهد يقود التوسعة السعودية الثانية

الملك فهد يطلع على مجسم لتوسعة الحرم المكي الثانية

بعد عدة أعوام من استكمال أعمال التوسعة السعودية الأولى، كانت الحاجة ملحة إلى توسعة جديدة للمسجد الحرام بسبب زيادة عدد الحجاج، فأصدر الملك فهد أمره بالبدء في عمل الدراسات والتصميمات اللازمة للمشروع ورسم الخطط التنفيذية التفصيلية. كما تم وضع جداول زمنية محددة لكل مرحلة من مراحل المشروع.

وضع الملك فهد حجر الأساس للتوسعة السعودية الثانية للمسجد الحرام (توسعة الملك فهد) يوم الثلاثاء 2 صفر 1409ه – 15 يناير (كانون الثاني) 1989م، ويتضمن المشروع إضافة جزء جديد إلى مبنى التوسعة السعودية الأولى من الناحية الغربية في منطقة السوق الصغيرة بين باب العمرة وباب الملك عبد العزيز، وإحداث ساحات جديدة، وذلك لرفع الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام إلى أقصى حد ممكن. سبق ذلك أمر الملك فهد عام 1406هـ -1986م بتنفيذ مشروع تحسين سطح التوسعة السعودية الأولى بالمسجد الحرام وعمل سلالم كهربائية حديثة لتسهيل وصول الحجاج والمصلين إليه، وتجهيزه للصلاة والطواف في أوقات المواسم.

وبعد الانتهاء من الجانب الإنشائي والمعماري للتوسعة شرع في الجانب الفني والجمالي حيث كسيت الجدران والأعمدة بالرخام والحجر الصناعي واستخدمت الأشكال الهندسية الجميلة، وتم تبليط السطح بالرخام ليستخدم من قبل المصلين ووصل بالعمارة السابقة للمسجد والمسعى.

وغطيت أرضيات المسجد بالرخام الأبيض تتخلله خطوط من الرخام الأسود بأشكال هندسية جميلة، وتم الربط بالتوسعة السعودية الأولى بمداخل واسعة تسهل الحركة بين التوسعتين السعودية الأولى والثانية، وتعتبر (توسعة الملك فهد) الزيادة الحادية عشرة في مساحة المسجد الحرام. ويشتمل المشروع على مئذنتين بارتفاع 89 متراً، تتشابهان في تصميمهما المعماري وفي المواد المستخدمة مع المآذن السبع القائمة، لتصبح عدد المآذن في المسجد الحرام تسع مآذن.

وتم إنشاء باب رئيسي جديد من ثلاث فتحات من الناحية الغربية للمسجد الحرام باسم (باب الملك فهد) بالإضافة إلى 18 مدخلاً فرعياً، لتصبح عدد أبواب المسجد الحرام أربعة أبواب رئيسية وهي باب الملك عبد العزيز، وباب العمرة، وباب الفتح، وباب الملك فهد، إضافة إلى 79 مدخلاً فرعياً موزعة على جميع جهات المسجد الحرام. وتميزت هذه التوسعة عن التوسعات السابقة بأنها وضعت نظاماً خاصاً للتهوية والتكييف، حيث جمعت قواعد الأعمدة وتيجانها بين الناحية الجمالية والوظيفية، فتمت الاستفادة من تفريغ الحشوات الزخرفية في تيجان الأعمدة لتصبح فتحات لمكيفات الهواء، وكذلك قواعد الأعمدة صممت بشكل مثمن مائل وبها فتحات للتكييف، كما تمت إضاءة المسجد الحرام بالثريات والفوانيس ومصابيح الفلورسنت المصنوعة بمواصفات خاصة وبطابع إسلامي فريد ووضعت كشافات عالية الإضاءة في محيط سطح المسجد الحرام، وذلك لإضاءة الساحة الداخلية للمسجد والأسطح.

أعمال صيانة مستمرة للمسجد الحرام طوال اليوم

ويقول الدكتور منصور الدعجاني: «لم يحدث أي تغيير في الشكل الهندسي والمعماري للأروقة القديمة في هذه التوسعة، حيث إن الزيادة ربطت بالتوسعة السعودية الأولى، لذلك لم يستدع الأمر التعرض للأروقة القديمة بأي شكل من الأشكال، كما حدث في التوسعة السعودية الأولى عندما اقتضت الضرورة إزالة زيادتي دار الندوة وزيادة باب إبراهيم، وإزالة الزوايا القائمة في الأروقة القديمة لتنسجم مع البناء المثمن الجديد، إلا أن عهد الملك فهد الذي امتد لأربعة وعشرين عاما شهد أعمال صيانة مستمرة لأعمدة وعقود وشرافات وقباب أروقة المسجد الحرام، وقد استُبدلت كثير من الشرافات (العرائس) ودعمت بعضها بصفائح من الحديد للحفاظ عليها، كما وضعت مكبرات الصوت على واجهات الأروقة ولونت بألوان قريبة من ألوان الحجر الشميسي، وذلك لتحقيق الانسجام مع العناصر المعمارية للأروقة التاريخية القديمة».

وتم كذلك تحسين الساحات المحيطة بالمسجد الحرام وتجهيزها لتوفير مساحات إضافية لأداء الصلاة في أوقات الذروة، وإنشاء مجمعات لدورات المياه، واستكمال شبكات الطرق والأنفاق المؤدية إلى الحرم، وإنشاء محطات كهرباء لتزويد المسجد الحرام بالطاقة الكهربائية، وتوفير ماء زمزم المبرد، وتركيب الأنظمة الصوتية، وأنظمة البث الإذاعي والتلفازي، وكاميرات المراقبة.

صورة للكعبة المشرفة التقطت عام 1997 وقد رفعت الكسوة لأعمال الترميم (غيتي)

في عهد الفهد ترميم الكعبة المشرفة

كما تم في عهد الملك فهد عمل ترميمات شاملة للكعبة المشرفة اكتملت أعمالها في عام 1417ه – 1997م. وتزامن مع انطلاق هذه التوسعة عام 1409ه – 1989م تأسيس شركة مكة للإنشاء والتعمير (شركة مساهمة عامة) لتطوير العقارات المجاورة للمسجد الحرام، ما أسهم في رفع مستوى المرافق السكنية والخدمات الفندقية والأسواق حول الحرم.

صورة تظهر التوسعة السعودية الأولى بعد ضم المسعى للتوسعة

6 مراحل لإنجاز التوسعة السعودية الثانية

وتم إنجاز التوسعة السعودية الثانية عبر ست مراحل، وانتهى العمل فيها رسمياً في الثلاثين من ذي القعدة 1413ه - 22 أبريل 1993م ، وبذلك أصبح مجموع مساحة المسجد الحرام مع الساحات والميادين المحيطة حوالي 400 ألف متر مربع وارتفعت الطاقة الاستيعابية للمسجد والساحات في أوقات المواسم إلى حوالي 800 ألف مصل. وقد بلغت تكاليف مشروع التوسعة السعودية الثانية للحرم المكي الشريف ما يزيد على 30 مليار ريال (8 مليارات دولار).

* غداً في الحلقة الرابعة والأخيرة من تحقيق عمارة المسجد الحرام... ما قصة أساتذة وطلاب كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك سعود في مشروع التوسعة السعودية الثالثة؟


مقالات ذات صلة

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

الخليج الأمير سعود بن مشعل أكد ضرورة تكثيف التنسيق بين كافة القطاعات لتهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات (إمارة منطقة مكة المكرمة)

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

نحو تهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات وتسهيل طرق الحصول عليها وتحسين المرافق التي تحتضن هذه الشعيرة العظيمة، أعلنت السعودية عن بدء التخطيط الزمني لحج 1446هـ.

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا الحجاج المصريون النظاميون يؤدون مناسك الحج (أرشيفية - وزارة التضامن الاجتماعي)

مصر تلغي تراخيص شركات سياحية «متورطة» في تسفير حجاج «غير نظاميين»

ألغت وزارة السياحة والآثار المصرية تراخيص 36 شركة سياحة، على خلفية تورطها في تسفير حجاج «غير نظاميين» إلى السعودية.

أحمد عدلي (القاهرة)
الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.