الفيصل اتخذ قرارات تاريخية حافظت على أروقة المسجد الحرام

الفهد يقود التوسعة السعودية الثانية وترميم الكعبة المشرفة

TT

الفيصل اتخذ قرارات تاريخية حافظت على أروقة المسجد الحرام

صورة تظهر العمران السعودي للتوسعة الأولى وذلك عام 1976
صورة تظهر العمران السعودي للتوسعة الأولى وذلك عام 1976

في المرحلة الثانية من التوسعة السعودية الأولى (1381هـ - 1961م إلى 1388هـ - 1968م)، تم بناء باقي الأقبية وتسقيفها، واستكمال أعمال المسعى وباقي الأسقف، وإكمال أعمال بناء الدور الأرضي لجميع الأروقة في كل جهات المسجد الحرام. كما تم إنشاء ثلاث منارات، واحدة بجانب الصفا، واثنتين بجانبي باب الملك عبد العزيز كما أزيل عقد باب بني شيبة من المطاف. وفي أثناء هذه المرحلة بدأ عهد الملك فيصل الذي تولى الحكم في 27 جمادى الآخرة 1384هـ الموافق 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1964م.

الملك فيصل في زيارة لمشاريع توسعة المسجد الحرام ويرافقه المقاول السعودي محمد بن لادن وذلك في عام 1966

هيئة هندسية استشارية إسلامية عالمية للمسجد الحرام

استمرت أعمال التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام في عهد الملك فيصل وشهدت قرارات مهمة، حيث جرى إعادة هيكلة المشروع وتغيير المكتب الاستشاري المصري (محمود عمر ويحيى مصطفى)، وفي العاشر من جمادى الأولى سنة 1386هـ الموافق 25 أغسطس (آب) 1966م تم تعيين (اتحاد المهندسين الاستشاريين) من الباكستان كاستشاري جديد للمشروع، وذلك بهدف إنجازه في التاريخ الذي حددته اللجان الحكومية المختصة وهو جمادى الآخرة من عام 1390هـ - 1970م، ولكن حدث تعديل كبير في تخطيط المشروع وذلك في عام 1387هـ - 1967م، عندما أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز أمره بألا تهدم الأروقة القديمة، ما اقتضى تغييرات وتعديلات في تصميم المبنى السعودي الجديد لربطه بمبنى الأروقة القديم وكان ذلك تحديا هندسيا، فاقترح المسؤولون في وزارة المالية والاقتصاد الوطني دعوة أشهر المعماريين والمهندسين العالميين من مختلف الدول الإسلامية، لإجراء الدراسات اللازمة وإيجاد الحلول الهندسية، وتم تشكيل هيئة هندسية إسلامية عالمية للنظر في موضوع ربط مبنى الأروقة القديمة بالمبنى الجديد المتمثل بالأروقة السعودية، واستقبل الملك فيصل أعضاء هذه الهيئة في صباح يوم السبت 11 رجب 1387هـ الموافق 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1967م في قصر شبرا بالطائف، وضمت الهيئة في عضويتها كلا من: الدكتور ريحا مسارا من تركيا، والدكتور محمد علي أديبي من إيران والمهندس محمد طاهر الجويني من مصر، والدكتور عمر عزام من المملكة العربية السعودية، والدكتور إحسان بربوتي من العراق، والمهندس حاجي محمد باسو من المغرب، والمهندس محمد فياض الدين من الهند، والمهندس خاجا عظيم الدين من باكستان.

خبر نشرته صحيفة أم القرى للاجتماع الذي عقده الملك فيصل مع الهيئة الهندسية الإسلامية العالمية التي دعيت للنظر في ربط مبنى الحرم بالمبنى الجديد

وبعد عقد عدة اجتماعات، خلصوا إلى أن البناء القديم قد استنفد عمره الافتراضي وأن بقاءه يقتضي إصلاحات وتجديدات كبيرة، وأوصت الهيئة بأن يحتفظ بالأروقة القديمة في الجهة الغربية من المسجد الحرام من باب العمرة إلى باب الملك عبد العزيز، لأن هذا الجزء مواز تقريباً للتوسعة الجديدة وينسجم مع التخطيط العام، أما الأجزاء الأخرى كلها فينبغي هدمها، كما أوصت اللجنة بعمل عقود مقنطرة بعرض خمسة أمتار في واجهة المبنى الجديد في الجهات الثلاث التي هدمت بالطراز المعماري نفسه للأروقة القديمة بالحجر الشميسي، وذلك للحفاظ على الشكل الجمالي والمعماري لأروقة المسجد الحرام.

خبر نشرته صحيفة أم القرى عن القرارات المهمة للهيئة

قرار الملك فيصل التاريخي للحفاظ على هوية المسجد الحرام

بعد أن أبلغ الملك فيصل بما توصلت له الهيئة الاستشارية لم يوافق على هدم الرواق القديم الذي بلغ عمره أربعمائة عام، وأصدر قراره التاريخي بعدم هدمه وبذل كل الجهود للمحافظة عليه، ومراعاة انسجامه مع العمارة الجديدة، بغض النظر عن اعتبارات التكاليف التي قد يتطلبها هذا المجهود.

ويؤكد الدكتور منصور الدعجاني أن هذا القرار التاريخي للملك فيصل حافظ على بقاء أحد أهم الآثار المعمارية الإسلامية، الذي يزخر بكثير من الشواهد التاريخية، من نقوش وكتابات وأعمدة يمتد تاريخها إلى عهد الخليفة العباسي محمد المهدي، وما يحويه من عناصر معمارية تعود إلى العصر العباسي، والعصر المملوكي، والعصر العثماني، وما يمثله كذلك في وجدان المسلمين من خلال الصورة الذهنية التي تكونت عن المسجد الحرام منذ قرون من خلال كتب الرحلات، والرسومات، والصور الفوتوغرافية .

خبر نشرته صحيفة أم القرى عن أعضاء الهيئة الهندسية الإسلامية العالمية التي دعيت للنظر في ربط مبنى الحرم بالمبنى الجديد

واستكمالاً لتوسعة المطاف بإزالة الزوائد التي كانت فيه، تم خلال هذه المرحلة إزالة مبنى مقام إبراهيم واستبدال غطاء بلوري زجاجي للمقام به، وكان ذلك في 18 رجب 1387هـ الموافق 4 أكتوبر 1967م، وفي المرحلة الثالثة (1389هـ - 1969م إلى 1393هـ - 1973م) ، تم هدم المباني في الجانبين الغربي والشمالي للتوسعة، وتم الشروع في بناء الأروقة في تلك الجهات وفي المنطقة الممتدة من باب العمرة إلى باب الفتح.

التصميم الدائري للتوسعة السعودية الأولى الذي تم رفضه

أروقة المسجد الحرام بعد التوسعة

مع تكملة بناء منارتي باب الفتح، وكذلك إكمال بناء الدور الأول من المسعى وتشييد قبة الصفا، وإكمال بناء المنارة الواقعة عندها وجعلها مثل طراز المنارات الست الأخرى. وبعد الانتهاء من بناء المسعى، أصبح المسجد الحرام محاطاً بالأروقة الجديدة المبنية بالخرسانة المكسوة بالرخام، من جميع جهاته، ومكوناً من طوابق عدة (أقبية، دور أرضي، ودور أول، وأسطح)، وأصبح المسعى مكوناً من دورين وأسطح، واعتمد في إنشاء عقود المسجد الحرام العقود المدببة ذات المركزين وبين كل عمودين خمسة أمتار للتناسب معمارياً وجمالياً مع الأروقة التاريخية التي تتصف بالصفة المعمارية ذاتها، وبالمسافة بين الأعمدة نفسها. وتم في هذه المرحلة إنشاء الجناحين الشمالي والجنوبي بين البناء القديم والجديد للربط والانسجام بينهما، واستبدلت بأركان المبنى القديم الأربعة انحدارات قصيرة لتنسجم مع المبنى الجديد، وبذلك عدل الشكل الرباعي لصحن الحرم إلى شكله المثمن.

واقتضت الضرورة تجديد بعض أجزاء الأروقة القديمة ودمجها في التوسعة السعودية الأولى، وإزالة زيادتي دار الندوة وباب إبراهيم حتى يكون البناء في خطوط مستقيمة، كما تم في هذه المرحلة إنشاء مبنى المكبرية في جنوب ساحة المطاف ملاصقة لواجهة الرواق الجنوبي.

الملك خالد في حج عام 1978 وكانت يتابع أعمال التوسعة السعودية الأولى

المرحلة الرابعة للتوسعة وتولي الملك خالد

في المرحلة الرابعة ( 1393ه- 1973م إلى 1396ه - 1976م)، التي امتدت إلى عهد الملك خالد الذي تولى الحكم في 13 ربيع الأول 1395ه – 25 مارس (آذار) 1975م، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل المشروع كان التسليم الابتدائي لأعمال المشروع من المقاول إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني في 17 ربيع الثاني 1394هـ الموافق 23 أبريل (نيسان) 1974م، حيث لوحظت عيوب في التنفيذ في بعض المواقع، ومنها وجود فراغات تصل إلى حوالي 20 متراً بين المبنيين القديم والجديد في الجانبين الشمالي الغربي والجنوب الشرقي، وذلك بسبب الأجزاء التي هدمت في المبنى القديم.

وهنا يقول الدكتور منصور الدعجاني: «تم ترميم المبنى القديم بإعادة بناء الأجزاء التي هدمت منه وربطها بالمبنى الجديد، فانعدمت بذلك الزوايا القائمة أو شبه القائمة التي كانت ظاهرة في أطراف الصحن في أركان الأروقة القديمة، وحل محلها ما أطلق عليه الشتلات، لتنسجم مع البناء الجديد، وأصبحت العقود بوجود أربعة أعمدة رخام بين دعامتين مثمنتين، خلافاً للطريقة المتبعة من قبل في توزيع الأعمدة والدعائم، بحيث يغلب على جميع العقود وجود دعامتين بينهما ثلاثة أعمدة، وحوفظ بشكل كبير عند إضافة هذه الشتلات على التجانس التام بين المباني الأصلية والمباني المجددة في الرواق القديم، لذلك لا يجد المشاهد للأروقة فوارق واضحة بينهما، حيث إن المباني الأصلية بنيت من أعمدة رخامية وعقود مبنية بالحجر، وقباب مبنية بالطوب، أما الأجزاء المجددة فبنيت بالخرسانة المسلحة وبأعمدة منتظمة وكثيرة الأضلاع وكمرات جديدة تكسوها من الخارج طبقة من البياض الإسمنتي المصقول الذي يغطي الخرسانة المسلحة، أما العقود فقد بنيت من الحجر نفسه (الشميسي)، وتيجان الأعمدة عملت في قوالب من الإسمنت، وأما القباب فقد بنيت من الطوب الأحمر مكسواً بستار خفيف استعمل فيه الإسمنت وخليط من الجير مع البياض الإسمنتي وقد استخدم في أعمال التجديد الحجر الشميسي نفسه».

صورة تظهر تبليط المطاف في عهد الملك خالد بن عبد العزيز

تناسق معماري وهندسي في العمارة

وتم التسليم النهائي للمشروع في عهد الملك خالد يوم 7 رجب 1396هـ - 4 يوليو (تموز) 1976م. وجاءت الأروقة السعودية الجديدة حول الجزء الذي احتفظ به من الأروقة القديمة على شكل مربع مشطوف الزوايا متخذة الشكل المثمن، وهذه الزوايا المشطوفة يوجد بها المداخل الرئيسية الثلاثة للمسجد الحرام حينذاك، وهي: باب الملك عبد العزيز في الجهة الجنوبية، وباب الفتح في الجهة الشمالية الشرقية، وباب العمرة في الجهة الشمالية الغربية. ويتكون المبنى من طابقين بسقوف عالية، حيث يبلغ ارتفاع الدور الأرضي عشرة أمتار ونصف، والدور الأول عشرة أمتار، أما الأقبية (البدرومات) فارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف، وبني المسعى الذي يحد المسجد الحرام من الجهة الشرقية من دورين أول وثان دون قبو لأن مجرى تصريف السيول يمر من تحته. وتعتبر فكرة ربط الأروقة السعودية بالأروقة التاريخية مع إعادة بناء ما هدم منها دون ملاحظة أي فوارق واضحة بين البناء الأصلي والمجدد، وإيجاد هذا التناسق المعماري الجميل؛ إنجازاً معمارياً فريداً في تاريخ عمارة المسجد الحرام بشكل خاص، وتاريخ العمارة والفن المعماري على وجه العموم. وكانت هذه أول مرة تتعدد فيها أدوار المسجد الحرام وتتم إنارته بالكامل بأحدث الطرق الفنية، وتستخدم المراوح الكهربائية لتلطيف الهواء وتركب فيه الأنظمة الكهربائية والميكانيكية والأنظمة الصوتية المتكاملة ويزود بنظام إطفاء الحريق وينفذ فيه خزانات وشبكات لماء زمزم ولإمداد المياه وأخرى لتصريف المياه والسيول، إضافة لشبكات الطرق والميادين المحيطة ودورات المياه العمومية التي أنشئت حول المسجد الحرام.

إدارة التشغيل والصيانة بالمسجد الحرام أعمال صيانة مكائن التكييف في أروقة المسجد الحرام بما يضمن استمرارية تبريد الأجواء على مدار الساعة

التكييف يدخل المسعى لأول مرة

واستكمالاً للتوسعة السعودية الأولى ولتوفير الراحة لقاصدي المسجد الحرام، بدأت في عهد الملك خالد عام 1398هـ - 1978م توسعة إضافية للمطاف فألغيت الحصاوي، والمشايات، وأزيل المنبر الرخامي والمظلة التي بجوار مقام إبراهيم كما تم هدم المبنى البارز للمكبرية في الجهة الجنوبية، واستبدل مبنى جديد به في المكان نفسه داخل الرواق القديم، كما تم بناء مكبرية أخرى في الجهة الشمالية للمسجد الحرام، وتقرر نقل مدخل قبو بئر زمزم من موقعه إلى موقع أبعد شرق الساحة الشرقية للمطاف، وتسقيف المساحة التي يحتلها المدخل السابق بمستوى صحن المطاف، وتبليط المطاف كاملاً برخام الثاسوس (نسبة إلى جزيرة ثاسوس اليونانية) لخصائصه الفريدة التي تجعله دائم البرودة حتى في أشد الأوقات حرارة، ما يسهل على الطائفين والمصلين في أوقات النهار. كما تم رفع مستوى الأروقة عن منسوب صحن المطاف وذلك لدرء أخطار السيول عند نزول الأمطار، وبناء درج في جميع جهات المسجد الحرام للنزول من الأروقة إلى صحن المطاف الذي أصبح يشغل كامل الفناء المكشوف داخل الحرم، وزادت بذلك مساحة المطاف من 4150 مترا مربعا إلى 7119 مترا مربعا، وتضاعف عدد استيعابه للطائفين من 14000 إلى 28000 طائف في الوقت نفسه. وإضافة إلى المراوح الكهربائية، تم تبريد المسعى بالمكيفات الصحراوية ولأول مرة في تاريخ المسجد الحرام، وتوفير حافظات مياه زمزم المبردة في جميع أرجاء المسجد الحرام. كما أمر الملك خالد بصنع باب جديد للكعبة المشرفة بدلاً من الباب الذي تم صنعه في عهد الملك عبد العزيز، وتولى صنع الباب الجديد شيخ الصاغة في مكة أحمد بن إبراهيم بدر وتم تركيبه عام 1399ه – 1979م. كما تم توسعة الميادين المحيطة والطرق المؤدية للمسجد الحرام وشق عدد من الأنفاق ولأول مرة لتسهيل حركة المرور والوصول للمسجد الحرام. وفي عهد الملك خالد تم عام 1401ه – 1981م بناء قصر الصفا على جبل أبي قبيس المطل على المسجد الحرام ليكون مقرا للملك وضيوف الدولة وأنشئت به مصليات يؤدون فيها الصلاة مع الحرم مما يخفف من الزحام.

الملك خالد في زيارة للمسجد الحرام في نهاية التوسعة السعودية الأولى

ربع قرن لاستكمال التوسعة السعودية الأولى

لقد استمر (مشروع جلالة الملك عبد العزيز لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته) أو ما اصطلح على تسميته (التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام) لحوالي ربع قرن ومر بعهود ومراحل متعددة، وشمل كثيرا من التفاصيل والمواقف والقرارات، كما كان فيه كثير من التجارب والدروس المستفادة والخبرات التراكمية والتطورات المعرفية ليس في الجوانب المعمارية والهندسية فحسب؛ بل وفي كل الجوانب الأخرى المرتبطة بخدمة الحرمين الشريفين. لقد كان مشروعا استراتيجيا وتوسعة تأسيسية أشرف عليها الملوك وتابعها المسؤولون السعوديون على جميع المستويات وشارك في إنجازها أكثر من 55 ألفاً من الخبراء والمهندسين والفنيين والموظفين والعمال، كما كان نقلة نوعية في تاريخ توسعة وعمارة الحرم المكي إذ بلغ إجمالي مساحة مباني التوسعة إضافة إلى مساحة الميادين المحيطة حوالي (200000 متر مربع)، أي ما يزيد على ستة أضعاف مساحته السابقة، تستوعب في أوقات الذروة ما يصل إلى 400 ألف مصل، وبتكلفة إجمالية بلغت مليار ريال ( 266 مليون دولار).

الفهد يقود التوسعة السعودية الثانية

الملك فهد يطلع على مجسم لتوسعة الحرم المكي الثانية

بعد عدة أعوام من استكمال أعمال التوسعة السعودية الأولى، كانت الحاجة ملحة إلى توسعة جديدة للمسجد الحرام بسبب زيادة عدد الحجاج، فأصدر الملك فهد أمره بالبدء في عمل الدراسات والتصميمات اللازمة للمشروع ورسم الخطط التنفيذية التفصيلية. كما تم وضع جداول زمنية محددة لكل مرحلة من مراحل المشروع.

وضع الملك فهد حجر الأساس للتوسعة السعودية الثانية للمسجد الحرام (توسعة الملك فهد) يوم الثلاثاء 2 صفر 1409ه – 15 يناير (كانون الثاني) 1989م، ويتضمن المشروع إضافة جزء جديد إلى مبنى التوسعة السعودية الأولى من الناحية الغربية في منطقة السوق الصغيرة بين باب العمرة وباب الملك عبد العزيز، وإحداث ساحات جديدة، وذلك لرفع الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام إلى أقصى حد ممكن. سبق ذلك أمر الملك فهد عام 1406هـ -1986م بتنفيذ مشروع تحسين سطح التوسعة السعودية الأولى بالمسجد الحرام وعمل سلالم كهربائية حديثة لتسهيل وصول الحجاج والمصلين إليه، وتجهيزه للصلاة والطواف في أوقات المواسم.

وبعد الانتهاء من الجانب الإنشائي والمعماري للتوسعة شرع في الجانب الفني والجمالي حيث كسيت الجدران والأعمدة بالرخام والحجر الصناعي واستخدمت الأشكال الهندسية الجميلة، وتم تبليط السطح بالرخام ليستخدم من قبل المصلين ووصل بالعمارة السابقة للمسجد والمسعى.

وغطيت أرضيات المسجد بالرخام الأبيض تتخلله خطوط من الرخام الأسود بأشكال هندسية جميلة، وتم الربط بالتوسعة السعودية الأولى بمداخل واسعة تسهل الحركة بين التوسعتين السعودية الأولى والثانية، وتعتبر (توسعة الملك فهد) الزيادة الحادية عشرة في مساحة المسجد الحرام. ويشتمل المشروع على مئذنتين بارتفاع 89 متراً، تتشابهان في تصميمهما المعماري وفي المواد المستخدمة مع المآذن السبع القائمة، لتصبح عدد المآذن في المسجد الحرام تسع مآذن.

وتم إنشاء باب رئيسي جديد من ثلاث فتحات من الناحية الغربية للمسجد الحرام باسم (باب الملك فهد) بالإضافة إلى 18 مدخلاً فرعياً، لتصبح عدد أبواب المسجد الحرام أربعة أبواب رئيسية وهي باب الملك عبد العزيز، وباب العمرة، وباب الفتح، وباب الملك فهد، إضافة إلى 79 مدخلاً فرعياً موزعة على جميع جهات المسجد الحرام. وتميزت هذه التوسعة عن التوسعات السابقة بأنها وضعت نظاماً خاصاً للتهوية والتكييف، حيث جمعت قواعد الأعمدة وتيجانها بين الناحية الجمالية والوظيفية، فتمت الاستفادة من تفريغ الحشوات الزخرفية في تيجان الأعمدة لتصبح فتحات لمكيفات الهواء، وكذلك قواعد الأعمدة صممت بشكل مثمن مائل وبها فتحات للتكييف، كما تمت إضاءة المسجد الحرام بالثريات والفوانيس ومصابيح الفلورسنت المصنوعة بمواصفات خاصة وبطابع إسلامي فريد ووضعت كشافات عالية الإضاءة في محيط سطح المسجد الحرام، وذلك لإضاءة الساحة الداخلية للمسجد والأسطح.

أعمال صيانة مستمرة للمسجد الحرام طوال اليوم

ويقول الدكتور منصور الدعجاني: «لم يحدث أي تغيير في الشكل الهندسي والمعماري للأروقة القديمة في هذه التوسعة، حيث إن الزيادة ربطت بالتوسعة السعودية الأولى، لذلك لم يستدع الأمر التعرض للأروقة القديمة بأي شكل من الأشكال، كما حدث في التوسعة السعودية الأولى عندما اقتضت الضرورة إزالة زيادتي دار الندوة وزيادة باب إبراهيم، وإزالة الزوايا القائمة في الأروقة القديمة لتنسجم مع البناء المثمن الجديد، إلا أن عهد الملك فهد الذي امتد لأربعة وعشرين عاما شهد أعمال صيانة مستمرة لأعمدة وعقود وشرافات وقباب أروقة المسجد الحرام، وقد استُبدلت كثير من الشرافات (العرائس) ودعمت بعضها بصفائح من الحديد للحفاظ عليها، كما وضعت مكبرات الصوت على واجهات الأروقة ولونت بألوان قريبة من ألوان الحجر الشميسي، وذلك لتحقيق الانسجام مع العناصر المعمارية للأروقة التاريخية القديمة».

وتم كذلك تحسين الساحات المحيطة بالمسجد الحرام وتجهيزها لتوفير مساحات إضافية لأداء الصلاة في أوقات الذروة، وإنشاء مجمعات لدورات المياه، واستكمال شبكات الطرق والأنفاق المؤدية إلى الحرم، وإنشاء محطات كهرباء لتزويد المسجد الحرام بالطاقة الكهربائية، وتوفير ماء زمزم المبرد، وتركيب الأنظمة الصوتية، وأنظمة البث الإذاعي والتلفازي، وكاميرات المراقبة.

صورة للكعبة المشرفة التقطت عام 1997 وقد رفعت الكسوة لأعمال الترميم (غيتي)

في عهد الفهد ترميم الكعبة المشرفة

كما تم في عهد الملك فهد عمل ترميمات شاملة للكعبة المشرفة اكتملت أعمالها في عام 1417ه – 1997م. وتزامن مع انطلاق هذه التوسعة عام 1409ه – 1989م تأسيس شركة مكة للإنشاء والتعمير (شركة مساهمة عامة) لتطوير العقارات المجاورة للمسجد الحرام، ما أسهم في رفع مستوى المرافق السكنية والخدمات الفندقية والأسواق حول الحرم.

صورة تظهر التوسعة السعودية الأولى بعد ضم المسعى للتوسعة

6 مراحل لإنجاز التوسعة السعودية الثانية

وتم إنجاز التوسعة السعودية الثانية عبر ست مراحل، وانتهى العمل فيها رسمياً في الثلاثين من ذي القعدة 1413ه - 22 أبريل 1993م ، وبذلك أصبح مجموع مساحة المسجد الحرام مع الساحات والميادين المحيطة حوالي 400 ألف متر مربع وارتفعت الطاقة الاستيعابية للمسجد والساحات في أوقات المواسم إلى حوالي 800 ألف مصل. وقد بلغت تكاليف مشروع التوسعة السعودية الثانية للحرم المكي الشريف ما يزيد على 30 مليار ريال (8 مليارات دولار).

* غداً في الحلقة الرابعة والأخيرة من تحقيق عمارة المسجد الحرام... ما قصة أساتذة وطلاب كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك سعود في مشروع التوسعة السعودية الثالثة؟


مقالات ذات صلة

«المدّ البشري»... فيلم يُوثّق رحلة الحج عبر حكايات 6 عائلات من العالم

يوميات الشرق 6 حكايات متنوّعة من قلب المشاعر المقدَّسة (لقطة من الفيلم)

«المدّ البشري»... فيلم يُوثّق رحلة الحج عبر حكايات 6 عائلات من العالم

تتكشَّف قصص ممزوجة بالخوف، والشوق، والأمل، والفقد، ليظهر مفهوم الحج بأبعاد جديدة، في رحلة تتحرّك بالروح قبل القدم...

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق هيثم مساوا يُقدّم ورشة عمل بعنوان «التحدّيات الصحية في المنافذ الجوّية» (الشرق الأوسط)

جدة تحتضن «هاكاثون الابتكار الصحي» للارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن

يستعرض الهاكاثون 4 مسارات رئيسية. تشمل المنتجات الصحية، والخدمات الصحية، وتجربة المريض، والإعلام الصحي...

أسماء الغابري (جدة)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (واس)

ولي العهد السعودي يتلقى رسالة من الرئيس الإيراني

تلقى الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، رسالة خطية، من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق 
قبو زمزم يظهر في صحن المطاف عام 1970 (دارة الملك عبد العزيز)

تطوّر الحج في معرض بـ«دارة الملك عبد العزيز»

يروي معرض «100 عام من العناية بالحرمين»، في دارة الملك عبد العزيز، تطور رحلة الحج منذ عام 1925 حتى اليوم، مِن وقت المشقة إلى تجربة آمنة وروحانية، عبر سرد بصري.

أسماء الغابري (جدة)
الخليج عرضت جهات حكومية أحدث مشروعاتها وبرامجها التطويرية لخدمة ضيوف الرحمن (الشرق الأوسط)

وزير الحج السعودي: إجراءات مبكرة لضمان تجربة استثنائية للحجاج

أعلن وزير الحج الدكتور توفيق الربيعة إتمام التعاقد لأكثر من مليون حاج في المشاعر المقدسة حتى الآن، في «إنجاز غير مسبوق يتحقق قبل الموسم بـ6 أشهر».

أسماء الغابري (جدة)

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.