في العهد السعودي... استتب الأمن فتضاعف الحجاج وازدحم المسجد الحرام

الملك عبد العزيز شكّل لجنة لمتطلبات الحرم المكي وأمر بإنشاء مصنع لكسوة الكعبة

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
TT

في العهد السعودي... استتب الأمن فتضاعف الحجاج وازدحم المسجد الحرام

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً

فور ضم المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - مكة المكرمة في العام 1343هـ -1924م، إلى حكمه جعل خدمة المسجد الحرام على رأس أولوياته، وأكد اهتمامه «بأقدس بلاد الله، مسطع النور، ومهبط الوحي، ومنشأ الهدى»، كما شرع في عمل ما يتطلبه الحرم من إصلاحات وترميمات عاجلة، فتم في العام 1344هـ - 1925م، ترميم عموم المسجد الحرام، وإصلاح كل ما يقتضي إصلاحه، ومن ذلك: ترميم جدران المسجد وأرضه وأعمدته، وإصلاح المماشي وحاشية المطاف، وطلاء مقام إبراهيم، وإصلاح الأبواب وصيانة القباب وغيرها من الأعمال. وفي العام 1345هـ - 1927م زاد عدد الحجاج زيادة كبيرة بسبب استتباب الأمن واستقرار الأوضاع.

الملك عبد العزيز ممتطياً جواده أثناء خروجه من المسجد الحرام بعد نحو شهرين من ضم مكة المكرمة تحت رايته وذلك عام 1343هـ - 1924م التقطها المصور شفيق محمود بشرف وتعدّ من نوادر الصور

نصب الخيام والسرادقات لاستيعاب الحجاج

وبسبب زيادة عدد الحجاج ازدحم المسجد الحرام بالمصلين؛ مما أدى إلى عدم استيعاب الأروقة تلك الأعداد الكبيرة، خصوصاً في أوقات النهار، فأمر الملك عبد العزيز بنصب الخيام والسرادقات والصواوين في حصاوي المسجد الحرام التي تلي المطاف ليستظل بها المصلون وحجاج بيت الله الحرام، فاستوعبت أكثر من عشرة آلاف حاج، وكانت حلولاً مؤقتة لضيق الوقت ودخول موسم الحج، كما أمر برصف المسعى وكان شارعاً خارج المسجد الحرام، وتم رصفه ولأول مرة في تاريخه بالحجر الصوان المربع، وتؤكد المصادر أنه كان أول شارع يرصف في مكة على الإطلاق. كما شكّل إدارة خاصة بمسمى مجلس إدارة الحرم للقيام بإدارة شؤون المسجد الحرام والإشراف على خدماته.

العهد السعودي والاهتمام بالمسجد الحرام

صدرت أوامر الملك عبد العزيز عام 1346هـ - 1927م بإجراء عمارة عموم المسجد الحرام داخلياً وخارجياً على نفقته الخاصة، حيث رُممت أرضيات الأروقة من جهاته الأربع مع زيادتي «دار الندوة» و«باب إبراهيم»، ورسم أيضاً بلاط أبواب المسجد الحرام وجدرانه داخلياً وخارجياً، وكذلك الدَّرَج المؤدية إلى أبواب المسجد الحرام، ونُظفت قباب الأروقة باطناً وظاهراً، كما طُليت العقود والأعمدة، وصُبغت بألوان مختلفة بحسب ألوانها الأصلية التي تناسب الحجر الشميسي الذي بُنيت منه، والذي له ألوان مختلفة، منها الأسود والأصفر البرتقالي والأحمر العنابي والرمادي، كما تم تنظيف الأعمدة الرخام وإزالة ما علق فيها من غبار وأتربة حتى عادت إلى لونها الأصلي الناصع البياض، كما رُمّم أسفل جدران المسجد الحرام والأعمدة المبنية بالحجر الصوان وأبواب المسجد الحرام وبطون القبب والطواجن بالرخام الأبيض المائل للون الأزرق بعد أن أضيفت إليه زهرة النيل الزرقاء ليزداد رونقاً وجمالاً، واستمر العمل في ترميم وإصلاح المسجد الحرام عاماً كاملاً، وصُرف على هذه الإصلاحات ما يقارب (2000 جنيه ذهب) تبرع بها الملك عبد العزيز. كما أمر بعمل مظلات ثابتة على دائرة الحصوة مما يلي الأروقة من الجهات الأربع ليستظل تحتها المصلون ولتكون بديلاً للخيام، وجدد سبيل زمزم القديم، وأمر أن يُعمل سبيلان جديدان لسقيا قاصدي المسجد الحرام.

دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة

صورة تبين كسوة الكعبة في عهد الملك عبد العزيز

وفي عام 1346هـ -1928م أمر الملك عبد العزيز بإنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة في حي أجياد، حيث كانت كسوة الكعبة تأتي من مصر لقرون عدة في العصرين المملوكي والعثماني، واستمر ذلك حتى دخلت مكة في حكم الملك عبد العزيز عام 1343هـ -1925م، ولتأخر وصول الكسوة في تلك السنة بسبب الأوضاع السياسية، أمر الملك عبد العزيز بصناعة كسوة الكعبة في الأحساء، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تُكسى فيها الكعبة من الأحساء؛ ففي عهد الإمام سعود بن عبد العزيز في الدولة السعودية الأولى كانت كسوة الكعبة تصنع في الأحساء، وفي عام 1347هـ - 1929م أمر بإضاءة عموم المسجد الحرام بالكهرباء وزيادة عدد مصابيحه حتى بلغت ألف مصباح كهربائي.

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً

لجنة لعمارة وإصلاح المسجد الحرام

في عام 1354هـ - 1935م أصدر الملك عبد العزيز أوامره بتشكيل لجنة برئاسة الشيخ عبد الله بن عبد القادر الشيبي، نائب رئيس مجلس الشورى، وعَهِد إلى هذه اللجنة إجراء الكشف المستمر على عموم ما يلزم المسجد الحرام من عمارة وإصلاح وحصر ما يتطلبه ذلك، وبعد إجراء الكشف اللازم قررت اللجنة ما يلي:

أولاً: إصلاح الأرضية المفروشة بالحجر الصوّان الواقعة حول صحن المطاف وداخل الحصاوي والمماشي، ورصفها من جديد رصفاً جيداً متقناً باستخدام الإسمنت والنورة والحصحاص.

ثانياً: إصلاح أرضية أروقة المسجد الحرام، وتجديد الطبطاب القديم وحشو الفراغات بالنورة بصفة متقنة.

ثالثاً: إزالة الجص الموجود على جميع جدران المسجد الحرام وإصلاحها بالإسمنت والنورة لمنع تسرب الرطوبة، وكذلك إصلاح العقد الموالي لباب الصفا.

رابعاً: ترخيم عموم المسجد الحرام من داخله وخارجه والأبواب، وبيت زمزم، وترميم الشقوق الموجودة في بعض قباب المسجد الحرام .

خامساً: تجديد الأصبغة الموجودة بعموم أبواب المسجد الحرام، بما فيها الجدار الواقع خارج المسجد من باب بازان إلى باب العباس، وتحديد الأصبغة التي بداخل أروقة المسجد الحرام مع الأعمدة المثمنة المبنية بالحجر الشميسي كما كانت عليه في السابق بالألوان المختلفة، الأحمر العنابي، والأسود، والأصفر، والبرتقالي، والرمادي.

سادساً: إصلاح عموم أبواب المسجد الحرام بالخشب الجاوي القوي، وصبغ واجهة هذه الأبواب بالأصباغ المناسبة، وقدّر لذلك مبلغ (12483 ريالاً عربياً سعودياً)، وعرض هذا الأمر على الملك عبد العزيز، الذي أصدر موافقته على إجراء هذا التعمير، وتبرع بنصف المبلغ المقدر لهذه الإصلاحات والترميمات، والنصف الآخر قامت مديرية الأوقاف بصرفه من صندوقها. وشدّد الملك عبد العزيز على أن يكون مباشرة العمل سريعة وتحت مراقبة وإشراف اللجنة المتقدم ذكرها. واستمرت عناية الملك عبد العزيز بعمارة وخدمة المسجد الحرام؛ ففي عام 1363هـ - 1944م أمر بصناعة باب جديد للكعبة المشرفة بدلاً من بابها القديم، وكلف بصنعه شيخ الصاغة في مكة محمود يوسف بدر، وتم تركيبه في 15 ذي الحجة 1366هـ - 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1947م، وفي العام نفسه تم استكمال بناء سقيفة المسعى وتجديد الجزء القديم منها.

كما تم تركيب مكبرات الصوت لأول مرة في المسجد الحرام يوم الجمعة 17 ذي الحجة 1366هـ – 31 أكتوبر 1947م.

صورة التقت عام 1930م تبين اكتظاظ المصلين والحجاج في المسجد الحرام بعد استتباب الأمن في عهد الملك عبد العزيز (غيتي)

عودة التوسعات للمسجد الحرام بعد توقف ألف عام

وفي عام 1368هـ - 1949م، صدر بيان عن عزم الملك عبدالعزيز توسعة الحرمين الشريفين بدءاً بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، وتم البدء في توسعة المسجد النبوي في شهر شوال عام 1370هـ – يوليو (تموز) 1951م، وكلف المدير العام للعمائر والإنشاءات الحكومية محمد بن لادن، التنفيذ. وذكر الدكتور بدر كريم أن المعلم محمد بن لادن قال له في مقابلة إذاعية لاحقة: «إن الملك عبد العزيز كلفه أن يبدأ في وضع التصاميم اللازمة لتوسعة المسجد الحرام».

لقد كانت توسعة الحرمين وبناؤهما بالشكل الذي يعكس مكانتهما والطراز الذي يمثل هويتهما ويلائم ما يتطلع إليه قاصدوهما، وما يشعر به المسلمون تجاههما، أحد الأماني العظيمة للملك المؤسس - رحمه الله -، والتي حققها أبناؤه الملوك من بعده.

أول هيئة فنية وهندسية لتصاميم الحرم

ويذكر الدكتور منصور الدعجاني في دراسته التاريخية المعنونة «أروقة المسجد الحرام بمكة المكرمة»، أنه تم تكوين هيئة فنية وهندسية لعمل التصاميم والمخططات اللازمة لهذا المشروع الإسلامي العملاق قبل البدء في التوسعة؛ وذلك لما رأه الملك عبد العزيز من تزايد أعداد الحجاج عاماً بعد آخر، بسبب استتباب الأمن في العهد السعودي وتطور وسائل النقل مما سهل السفر، وتحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، واستقلال بعض الدول الإسلامية، كل هذه الأسباب وغيرها أسهمت في مضاعفة عدد الحجاج القادمين من الخارج أربعة أضعاف في غضون عشرين عاماً، واستمرت في الازدياد، حيث بلغت في عام 1370ه – 1951م نحو 100 ألف حاج، ووصلت إلى أكثر من 200 ألف حاج في عام 1374ه – 1955م، هذا عدا حجاج الداخل. كما أن المنازل والأسواق كانت قد أحاطت بالمسجد وفصلت بينه وبين المسعى الذي كان طريقاً ضيقة تقوم على جانبيها الدُّور والمحال التجارية، إضافة إلى وجود عدد من الأبنية التي تعيق الحركة داخل صحن المطاف، وهي مباني المقامات الحنفي والحنبلي والمالكي، ومبنى المقام الشافعي وبئر زمزم ومظلة المؤذنين، ومبنى مقام إبراهيم، وعقد باب بني شيبة، والمنبر، وكان المسجد الذي لا تتجاوز طاقته القصوى 50 ألف مصلٍ، يزدحم بالمصلين خاصة في مواسم الحج؛ الأمر الذي يتطلب توسعته لاستيعاب تلك الأعداد الكبيرة من قاصديه.

ويضيف الدعجاني: شرع الفنيون والمهندسون في عمل الدراسات والمخططات اللازمة لذلك، وبُدئ في تحديد المساحات التي سيقام عليها المشروع، وأعداد الدور والمتاجر التي تحتاج إلى إزالة لصالح المشروع، وتقدير التكاليف والتي تشمل نزع الملكية والبناء، وبينما كانت هذه الأعمال تجري وافت المنية الملك عبد العزيز قبل الشروع في التوسعة، حيث توفي - رحمه الله - في الطائف في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول 1373هـ - الموافق التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1953م.

الملك عبد العزيز مؤدياً فريضة الحج يرافقه ولي عهده (الأمير) الملك سعود وذلك في حج عام 1353هـ - 1935م

الملك سعود ومتابعة مشروع توسعة المسجد الحرام

وفي بداية عهد الملك سعود، أنهت اللجان الفنية والهندسية الدراسات والمخططات والتصاميم الأولية لمشروع توسعة المسجد الحرام، وتم حصر العقارات التي سيتم نزع ملكيتها لصالح المشروع، وصدر بيان رسمي يعلن البدء في مشروع التوسعة في شهر محرم 1375ه - أغسطس (آب) 1955م، وأصدر الملك سعود أمراً بتشكيل لجنة عليا للإشراف على المشروع، برئاسة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وقتذاك (الأمير) الملك فيصل، يتبعها لجنة لمراقبة التنفيذ ولجنة لتثمين العقارات. وأنشئ مكتب بمسمى مكتب «مشروع صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته» للإشراف على التنفيذ والتنسيق ومتابعة الأعمال المرتبطة بالمشروع، وكان من أهداف التوسعة السعودية التالي:

1- رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف بإزالة المباني الموجودة في صحن المطاف.

2- رفع الطاقة الاستيعابية للمصلين بزيادة المساحات التي تؤدى فيها الصلاة.

3- رفع الطاقة الاستيعابية للمسعى ببنائه ودمجه ضمن مباني المسجد الحرام.

4- تحسين الأحوال لتأدية شعائر الطواف والسعي والصلاة بيسر وسلامة.

5- وضع الحلول الجذرية لمعالجة الأخطار التي كانت تهدد سلامة المسجد وقاصديه كالحرائق والسيول من خلال: استخدام مواد البناء غير القابلة للاشتعال وأنظمة مكافحة الحريق، وعمل مجاري تصريف السيول.

6- توفير الخدمات المتكاملة من طرق وميادين لتسهيل الوصول إلى المسجد، إضافة إلى توفير المياه والصرف والتهوية والإنارة ودورات المياه لراحة قاصديه.

رؤية شاملة لمشروع التوسعة العاشرة

منذ بدايات «مشروع جلالة الملك عبد العزيز لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته» كانت هناك رؤية شاملة لكل ما يتعلق بالمشروع من النواحي التخطيطية والفنية والهندسية ومراعاة للهوية العمرانية والجوانب الصحية والأمنية والسلامة، وإذا أدركنا أن المساجد التي أسست خارج الجزيرة العربية في العراق والشام ومصر وغيرها كانت قد بُنيت وفق نموذج بناء الحرمين الشريفين (الأروقة والفناء المكشوف) كما يشير إلى ذلك الدكتور حسن الباشا في دراسته «أثر عمارة عثمان بن عفان في المسجد الحرام في تخطيط المساجد وفي العمارة الإسلامية»، ومؤسس نظام الأروقة في المساجد وفق النموذج المكي هو الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ خلصنا إلى أننا أمام عمارة عربية مكية متفردة ليست بعيدة عن معمار «دار الندوة» التي توحي المعلومات المتعلقة بها أنها تقوم على الأروقة كما أورد ذلك الدكتور يحيى بن جنيد في بحثه المعنون «جدلية الرواق: أزمنة العمارة المكية للمسجد الحرام». وفي تقديري أن هناك جانبين لم يستوفيا حقهما من البحث والتوثيق والدراسة في تاريخ الحرمين الشريفين، وهما الجانب العمراني وما يتعلق بأثر عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي في العمارة الإسلامية، والجانب التعليمي كون الحرمين الشريفين أقدم الجامعات الإسلامية، ولعلني أعود في بحث مستقل إلى هذين الجانبين. أما ما يتعلق بفرادة تصميم عمارة المسجد الحرام وأصلها المكي والرؤية السعودية حول ذلك، فيشير تقرير توثيقي عن مشروع التوسعة السعودية الأولى أصدرته وزارة المالية والاقتصاد الوطني (الجهة المشرفة على المشروع) وأعدّه اتحاد المهندسين الاستشاريين في باكستان (استشاري المشروع)، وأنقل بعض ما جاء فيه هنا بتصرف، إلى أن «فرادة الأسلوب المعماري الذي تم إنجازه في التوسعة السعودية وتميز طابعه من حيث النسق والجمع بين الأساليب الإسلامية المختلفة والطراز التاريخي التليد، فهو على الشكل الذي صُمّم وأنجز به، منعدم النظير في العالم الإسلامي. وكان طبيعياً أن تأتي هذه المهمة الفريدة، مهمة عمارة المسجد الحرام، بطابع فريد. وجدير بنا للمزيد من تفهم هذا الأسلوب الفريد أن نستعرض بإيجاز المظاهر التي يشترك بها مبنى الحرم في التوسعة السعودية الأولى مع المساجد الكبرى في العالم الاسلامي، ثم نوضح بالمقارنة ذلك التناسق الفريد الذي تجلى عنه البناء بطابعه الذي تم عليه».

مخطط للحرم المكي الشريف والمسجد الحرام وذلك في عهد الملك عبد العزيز عام 1931م (غيتي)

التصميم والإبداع المعماري في التوسعة

إن الأروقة ذات الأعمدة في بناء الحرم الجديد تحاكي بوضوح الطراز العربي العريق في بناء المساجد (الذي انطلق من الحرمين الشريفين) إلى المسجد الكبير في الكوفة ومساجد العراق والشام، ثم مساجد مصر وشمال أفريقية والأندلس. ومن حيث الخطة والتصميم، نجد أن الشكل المُثمّن الأضلاع يحاكي قبة الصخرة في القدس، ولكننا لا نلبث هنا حتى ندرك الفرق الشاسع بين بنيان الحرم المكي والمساجد الأخرى، نجد أول ما نجد أن جميع المساجد يتوخى في بنائها توجيه المؤمنين في صلاتهم نحو مكة المكرمة والكعبة المشرّفة؛ وبذا ينصبّ تصميمها على شكل هندسي قائم الزوايا، قياساً على وجهة المحراب. أما الحرم المكي فيستوجب بناؤه الإحاطة بالكعبة المشرفة والدوران حولها من جميع جوانبها. وبذا يكون كل حيز في المبنى منبعثاً من المركز، من الكعبة المشرفة.

إن الشكل المُثمّن في التصميم يسهّل أداء هذه الغاية رمزاً وعملاً. ومع ذلك، فهو يختلف في صورته الثمانية عن كثير من الأبنية المثمنة الشكل، كقبة الصخرة مثلاً، وعن الأبنية المربعة أو المستطيلة الشكل كمسجد الكوفة.

ثم إننا لو أمعنا النظر في الأروقة ذات الأعمدة لوجدناها تختلف عن مثيلاتها من المباني التاريخية؛ ذلك أنها مقسمة أقساماً منفصلة عن بعضها بعضاً، منها ما هو خاص بالصلاة ومنها ما هو خاص بمرور المصلين مما يلطف الشعور بالجزء، الذي يستوعبه الشكل في الأبنية الأخرى، زد إلى ذلك تصميم البناء على طابقين بسقوف عالية مما يوضح الفارق بجلاء، كما أن المآذن السبع التي تعلو جنبات المسجد تفوق في عددها مآذن المساجد الأخرى، فضلاً عما تسبغه من الجلال الذي يتسم به هذا المكان المقدس.

الأروقة التاريخية وترميم الكعبة المشرّفة

والميزة الأخيرة التي أضفت على البنيان حلته الفريدة هي طابعه المتكامل، فاستبقاء «الأروقة التاريخية» التي يرجع عهدها إلى أربعمائة سنة خلت (بُنيت عام 984هـ - 1576م)، وضمها في نسق مع البنيان الجديد إنما هو انجاز معماري يضاهي في تصوره وواقعه أعظم الإنجازات في تاريخ الفن المعماري. وهكذا تجلى الحرم المكي بأسلوبه النهائي وحلته الفريدة عن حس بالأزل لا يعرف الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل؛ لأن الباعث من جميع معالمه صادر من الكعبة المشرفة.

لقد مرّ المشروع بمراحل متعددة كما واجه تحديات فنية، وكانت هذه التوسعة التي بدأت في عهد الملك سعود هي العاشرة في تاريخ المسجد الحرام، وهي عمارة لم يشهد الحرم المكي لها مثيلاً وذلك من حيث المساحة، ومواد البناء المستخدمة، والجوانب المعمارية، وفخامة البناء، والإنجاز المحكم. ومر المشروع الذي أُسند تنفيذه إلى مدير الأبنية والإنشاءات المعلم محمد بن لادن بمراحل متعددة؛ إذ كلف بن لادن المهندس المعماري فهمي مؤمن (مصمم مشروع عمارة المسجد النبوي) تصميم مشروع عمارة الحرم المكي، فجاء تصميمه الابتدائي مبنى مستديراً بصفوف دائرية حول الكعبة، وكُلّف المهندس المعماري محمد طاهر الجويني عمل تصميم بديل، وكانت فكرته البديلة أن يجعل المسجد مربع الشكل مع مربعات متمركزة حول الصحن، وكان التصميمان المبدئيان يتضمنان إزالة كامل المباني والأروقة القديمة في الحرم. وتم اعتماد الفكرة البديلة وبدأ التنفيذ على ذلك الأساس. وضع الملك سعود حجر الأساس للتوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام يوم الخميس 23 شعبان 1375ه – 24 مارس (آذار) 1956م، وكان العمل قد بدأ في النصف الخارجي من المبنى الجديد وتركت العمارة القديمة لتأدية الصلوات فيها ريثما يتم الانتهاء من المبنى الجديد وشملت المرحلة الأولى (1375ه - 1955م إلى 1381ه - 1961م) إزالة المباني المحيطة بالحرم من الجهة الجنوبية، وتحويل الطرق والشوارع، والبدء في بناء الأروقة الجنوبية بأدوارها المتعددة (القبو والدور الأرضي والدور الأول)، كما شملت جميع أعمال الخرسانة في المسعى، ومجرى السيل المغطى، وباب الملك عبد العزيز، وباب العمرة، كما تم تشطيب أماكن مختلفة من تلك المباني، وتركيب الأبواب والشبابيك وتوسعة المطاف، وذلك بإزالة مباني المقامات الحنفي والحنبلي والمالكي، مع الإبقاء على المقام الشافعي لكونه فوق بيت بئر زمزم، والذي أزيل في عام 1383هـ - 1963م، وتم عمل قبو لبئر زمزم في الجهة الشرقية من المطاف، كما تم خلال هذه المرحلة وفي العام 1377ه – 1958م ترميم الكعبة المشرفة، وشمل ذلك إزالة أخشاب السقف العلوي وإعادة بنائه، وتجديد السقف الخشبي الداخلي، وترميم الجدران الداخلية وإصلاح رخامها.

* غداً في الحلقة الثالثة... لماذا رفض الملك فيصل مقترح الهيئة الإستشارية الهندسية الإسلامية العالمية بهدم الأروقة، وما هو القرار التاريخي الذي أصدره وأصبح تحدياً أمام المهندسين.


مقالات ذات صلة

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

الخليج الأمير سعود بن مشعل أكد ضرورة تكثيف التنسيق بين كافة القطاعات لتهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات (إمارة منطقة مكة المكرمة)

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

نحو تهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات وتسهيل طرق الحصول عليها وتحسين المرافق التي تحتضن هذه الشعيرة العظيمة، أعلنت السعودية عن بدء التخطيط الزمني لحج 1446هـ.

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا الحجاج المصريون النظاميون يؤدون مناسك الحج (أرشيفية - وزارة التضامن الاجتماعي)

مصر تلغي تراخيص شركات سياحية «متورطة» في تسفير حجاج «غير نظاميين»

ألغت وزارة السياحة والآثار المصرية تراخيص 36 شركة سياحة، على خلفية تورطها في تسفير حجاج «غير نظاميين» إلى السعودية.

أحمد عدلي (القاهرة)
الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».