يعدّ ألان تورنغ العالم الإنجليزي الشهير في الرياضيات والمنطق في منتصف القرن الماضي مؤسس علوم الكومبيوتر، أول من استخدم مصطلح «الذكاء الاصطناعي»، الذي يشير إلى مجال علوم الكومبيوتر الموجهة للدراسات المتخصصة في معالجة المشكلات المعرفية بطريقة مشابهة للذكاء البشري متمثلة في مهارات التعرف والتعلم والإبداع للحد الذي يسمح للذكاء الاصطناعي بالاستجابة للمحادثة البشرية وكتابة نصوص أصلية ومبتكرة.
ومن هنا بدأت التخصصات المختلفة سواء كانت طبية أو هندسية أو تعليمية أو غيرها من المجالات في البحث عن طرق الاستفادة من الذكاء الاصطناعي.... وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة... هل من الممكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي الأشخاص الذين يعانون صعوبات في التواصل؟ ما هو دور الذكاء الاصطناعي في تغيير تخصص علاج أمراض النطق واللغة؟ هل من الممكن أن يقوم الذكاء الاصطناعي بدور اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة؟
الذكاء الاصطناعي واضطرابات النطق
التقت «صحتك» الدكتور وائل عبد الخالق الدكروري، رئيس قسم اضطرابات التواصل في «مجمع عيادات العناية النفسية» بالرياض، أكاديمي وباحث ومستشار لعدد من الهيئات والأستاذ المشارك بكلية الطب جامعة الفيصل بالرياض والسفير الدولي للجمعية الأميركية للنطق والسمع وعضو لجنة الشؤون الدولية بالجمعية الأميركية للنطق والسمع؛ وذلك للإجابة عن كل التساؤلات التي تتعلق بموضوع علاقة الذكاء الاصطناعي بعلاج أمراض النطق واللغة ومناقشتها مناقشة علمية.
أوضح الدكتور الدكروري بأنه ومن دون شك ستتم إعادة تعريف وظيفة اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة والتي كان يسهل تعريفها نسبياً عبر محددات تعتمد على التعليم والتدريب ونوعية الخدمات التي تقدمها والتي تستهدف التركيز على تنمية وتطوير مهارات التواصل والتفاعل عند الأشخاص الذين يعانون قصوراً في مهاراتهم التواصلية، إلا أنه من عجائب التكنولوجيا متمثلة في الذكاء الاصطناعي (AI)، أن نضع هذا التعريف ونمط الخدمات على المحك، حيث يواجه اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة، مثل أي شخص آخر يمارس عملاً ما، ابتكارات وتحولات مستمرة من شأنها أن تغير الطريقة التي يمارس بها مهنته، فضلاً عن تطورات جذرية على المستويين القريب والمتوسط!
إن الذكاء الاصطناعي (AI) هو منهج إحصائي يستفيد من البيانات لإنشاء أدوات يمكنها تحسين الممارسة الإكلينيكية في مجال علاج أمراض النطق واللغة وفي ظل التطورات التقنية السريعة سيحتاج اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة إلى فهم أدوات الذكاء الاصطناعي الإكلينيكية ومعرفة حدودها وطرق استخدامها بشكل فعال. لقد اخترق الذكاء الاصطناعي علم أمراض النطق واللغة؛ مما ساعد في إنشاء تطبيقات وأدوات «أكثر ذكاءً»، وساعد في التوثيق، وجعل من السهل على علماء واختصاصيي علاج أمراض النطق واللغة التعرف على اضطرابات النطق في وقت مبكر.
ومع أن الواقع الافتراضي من خلال الخدمات والجلسات المقدمة عن بعد لم يصبح بعد سمة منتظمة لعلاج أمراض النطق واللغة، على الرغم من زيادة الاعتماد على الجلسات الافتراضية، حيث أصبح الانتقال من الجلسات الشخصية التقليدية إلى الجلسات الافتراضية أمراً شائعاً خلال فترات الحجر أثناء مرحلة انتشار كورونا.
جلسات علاج افتراضية
أضاف الدكتور وائل الدكروري أن الأمر المثير للاهتمام بشكل خاص في هذا التطور هو أن الأبحاث تؤكد أن علاج النطق عبر الجلسات الافتراضية فعال تماماً مثل العلاجَين الشخصي والتقليدي، ولكن ليس مع كل أنواع الاضطرابات أو المراحل العمرية المختلفة. وهذا هو ما يوضح المزايا الحقيقية وفاعلية التفاعل البشري المباشر. إن معظم الباحثين لا يعتقدون أنه سيأتي اليوم الذي سيحدث فيه ذلك، بمعنى لن يتم الاستغناء الكامل عن الخدمات والجلسات المباشرة، ولكن مع تحسن تكنولوجيا الواقع الافتراضي وانتشار استخدامها، فمن المتوقع أن يأتي ذلك اليوم، قريباً أو بعيداً.
إن هذا التكامل في الاتجاهات التكنولوجية والخدمية معاً سيعيد صياغة علم أمراض النطق واللغة بوصفه مجالاً يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا والذي سيضع الباحثين والاختصاصيين في علاج أمراض النطق واللغة في طليعة الابتكار. على الرغم من صعوبة التنبؤ بشكل ونمط التغييرات التي سوف يؤثر بها الذكاء الاصطناعي على تخصص علاج أمراض النطق واللغة، سوف يتم تشكيل أنماط الخدمات تشخيصية كانت أم علاجية.
تطبيق الذكاء الاصطناعي
يقول الدكتور وائل الدكروري إنه سيتم تقديم تطبيقات الذكاء الاصطناعي من منظورين: المنظور الأول للأشخاص الذين يعانون قصوراً في قدراتهم التواصلية، والمنظور الآخر لاختصاصي علاج أمراض النطق واللغة.
• بالنسبة للأشخاص الذين يعانون قصوراً في قدراتهم التواصلية، فإن الأدوات والأجهزة التفاعلية القائمة على تقديم مساعدات التواصل البديل للأشخاص الذين يعانون محدودية التواصل اللفظي استفادت من تطور الذكاء الاصطناعي، وسوف تستفيد أكثر من التطور الكبير في تعلم الآلة؛ مما سينعكس على فاعلية هذه الأجهزة والتطبيقات كلما تطورت قدراتها بشكل كبير على تلبية احتياجات كل شخص على الرغم من أي قصور أو محدودية في قدرات أو حواس باختلاف أنواعها.
كما أصبحت الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية والتطبيقات التفاعلية شائعة في جلسات علاج أمراض النطق واللغة لكل الفئات العمرية، وهو ما سوف يؤدي إلى توسيع وتطوير الموارد المتاحة للاختصاصيين في علاج أمراض النطق واللغة. ومن الجدير بالذكر أن نوضح أن الأطفال عادةً ما يستجيبون جيداً لهذه الأدوات التكنولوجية ويفضلون التفاعل والتعامل معها كما يمكنهم أيضاً استخدامها خارج الجلسات إما بمفردهم أو مع أولياء الأمور أو مع باقي أفراد الأسرة للتعلم والممارسة؛ مما يؤدي إلى تسريع تقدمهم، ولكن مع الحذر الشديد من الإغراق المفرط في ذلك لأنه قد يؤثر بدرجة ما على التفاعل والسلوك الاجتماعي. كما يُتوقع تطور استخدام الروبوتات في عمليات التشخيص والتدخلات العلاجية لكل الفئات العمرية.
إن التكنولوجيا والتطبيقات المبنية على مفاهيم وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تغطي الكثير من المستويات التي يتعامل معها اختصاصيو علاج أمراض النطق واللغة، مثل مهارات النطق، ومهارات النظام الصوتي، وتنمية المفردات وتنمية مهارات النحو والصرف، ومهارات السرد ومهارات التفاعل الاجتماعي وغيرها من المهارات التواصلية؛ مما يؤكد أننا سوف نشهد تغييرات هائلة في مستقبل علوم التواصل واضطراباته.
التقييم والتشخيص
بالنسبة إلى اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة، فمن المتوقع أن استخدام الذكاء الاصطناعي سيساعد اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة في القيام بتفويض بعض المهام والخدمات الروتينية للمساعدين أو حتى لأفراد الأسرة في ظل سعي الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة لأتمتة المهام بهدف توفير الوقت والمجهود. ومن الجدير بالذكر أن نستدعي التجربة الأميركية في أتمتة الوظائف التصنيعية ما بين 1998 و2010 والتي أسفرت عن توفير ثلث العمالة، وكمثال على ذلك ففي قطاعات المال والبنوك حلت أجهزة الصراف الآلي محل الصرافين في البنوك، حيث ساهمت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في تطور الخدمات البنكية بشكل هائل.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا باحثاً عن الإجابة هو كيف يمكن لنا أن نتخيل الخدمات البنكية من دون كل هذا القدر من الأتمتة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟
يجيب عن السؤال الدكتور الدكروري بأنه لا شك في كون الأتمتة والذكاء الاصطناعي هما وعداً أكيداً بتحرير اختصاصيي علاج أمراض النطق واللغة من أداء مهام متكررة ومحددة، فقد ظهرت بشكل عملي تطبيقات الذكاء الاصطناعي وفاعليته في مساعدة الاختصاصي على أداء عمله بشكل أكثر فاعلية، بحيث أصبح باستطاعته قضاء وقت أطول في الخدمة المباشرة لمرضاه. ولنبدأ بالتوثيق الإكلينيكي، حيث بدأ ظهور تطبيقات تعمل مساعداً شخصياً للاختصاصيين والتي تستفيد من خوارزميات التعليم الآلي مما يمكّن الاختصاصي من تسجيل الملاحظات ومن ثم يستطيع الذكاء الاصطناعي من فهم وتحليل تلك الملاحظات وتعبئة النماذج الصحيحة.
ويأتي بعد ذلك التقييم والتشخيص، وهما يعدّان من المهارات الإكلينيكية الأهم لاختصاصيي علاج أمراض النطق واللغة والتي تتطلب الكثير من التدريب والممارسة لسنوات حتى يتم صقلها بشكل فعال. إن من المتوقع تغيير نمط الخدمات عن طريق الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بتحليل العينات اللغوية والصوتية على مستويات مختلفة، بحيث يتم عرض النتائج التفصيلية للعينات التي تم تسجيلها للمرضي بشكل لحظي ومن المتوقع قريباً أن تتطور قدرات الذكاء الاصطناعي على إجراء تقييم للغة والكلام على المستويات المسحية أو التشخيصية عن بعد وبشكل موثوق مما سيسمح باستخدام هذه الأدوات بإجراء تقييمات أكثر لأعداد أكثر من المرضى، وإدارة الحالات عن بعد، وحل أكثر دقة للميزات على المقاييس المستمرة، فضلاً عن التخفيف من مشكلات الموثوقية التي تعاني منها التقييمات الذاتية.
الذكاء الاصطناعي يساعد في التعرف على اضطرابات النطق في وقت مبكر
دعم الممارسات الطبية
• ما هي الهيكلة المتوقعة لمستقبل اختصاصي أمراض النطق واللغة؟ ماذا يعني كل هذا بالنسبة إلى اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة؟
أوضح الدكتور الدكروري أنه من المتوقع أن يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ممارسات الاختصاصي بأن يصبح أكثر كفاءة، وأن يقضي المزيد من الوقت مع المرضى؛ لأن الذكاء الاصطناعي سيساعد في التوثيق، كما سيكون لدى الاختصاصي أدوات جديدة تحت تصرفه لتقييم المرضى وتشخيصهم باختلاف حالاتهم وتحسين النتائج التي يمكن الوصول إليها، كما إن الاختصاصي سوف يلعب دوراً أكبر وأكثر تكاملاً في الكشف المبكر عن الاضطرابات التواصلية المختلفة من دون التقيد بالحدود الجغرافية فالدور الذي يقوم به اختصاصي علاج أمراض النطق واللغة من تشخيص وعلاج وتأهيل لن يمكن الاستغناء عنه، وخير دليل على ذلك هو مثال من القطاع الطبي، حيث تستطيع أجهزة الحاسوب المزودة بتكنولوجيا متطورة من قراءة الملايين من صور التصوير بالرنين المغناطيسي، وهو ما يفوق ما يمكن أن يراه أي طبيب في حياته. ومع ذلك، لا يزال صاحب القرار في التشخيص المعتمد والحاسم هو الطبيب المختص، كما أن الطبيب هو الذي يجب أن يتحدث مع المريض وعائلته حول الآثار المترتبة على التشخيص وخيارات العلاج.
* استشاري طب المجتمع