لم تكن باريس تتوقع أن يُضطر رئيسها إلى الإعلان عن تأجيل انعقاد ما يسمى «مؤتمر حل الدولتين» قبل أيام قليلة من انعقاده، وقد عملت من أجله الدبلوماسية الفرنسية، منذ أسابيع عديدة، من أجل توفير أفضل الظروف لانعقاده، خصوصاً من أجل التوصل إلى نتائج واضحة تقرّب من الهدف المنشود. وما ضاعف من أهميته أن فرنسا كانت تنوي، بهذه المناسبة، الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهي الخطوة التي أجّلتها منذ أمد طويل، وتحديداً منذ أن صوّت مجلس النواب الفرنسي في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2014، على قرار يدعو الحكومة للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
إلا أن الهجمات التي أطلقتها إسرائيل، ليل الخميس - الجمعة، ضد المواقع العسكرية والنووية والحكومية الإيرانية، أطاحت هذا السيناريو. ومساء الجمعة، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن تأجيل المؤتمر إلى موعد لاحق، معتبراً أن خيار التأجيل أملته «البراغماتية واعتبارات الأمن».
تبرير ماكرون للتأجيل
وقال ماكرون ما حرفيته: «ما الجدوى من عقد مؤتمر كهذا يُفترض أن أترأسه بالتشارك مع ولي عهد المملكة العربية السعودية؛ حيث كان رئيس السلطة الفلسطينية سيعمد إلى تقديم التزامات قوية تتجاوز حتى مضمون الرسالة التي سبق أن كتبها (ووجّهها إلى باريس والرياض)، وهي بحد ذاتها التزامات تاريخية وتصريحات تاريخية، إذا كان جميع قادة المنطقة، ولأسباب واضحة، مضطرين للبقاء في بلدانهم؟ واليوم، أشار لي كل من ولي العهد ورئيس السلطة الفلسطينية إلى أنهما ليسا في وضع يسمح لهما من الناحية اللوجستية أو الأمنية أو السياسية بالسفر والمشاركة».
ولذا، فقرار التأجيل «لا يتعدى كونه لأسباب براغماتية (ونابعاً) من وضوح الرؤية».
بيد أن ماكرون سارع إلى التأكيد أن القمة التي كان انعقادها مرتقباً ما بين 17 و20 يونيو (حزيران) في الأمم المتحدة وبرئاسة مشتركة سعودية ــ فرنسية، لن تُلغى، بل إنها «ستلتئم في أقرب وقت وسوف يتم تحديد موعد جديد في الأيام القليلة المقبلة بالتشاور مع قادة المنطقة، خصوصاً مع المملكة السعودية».
وأضاف ماكرون: «هذا التأجيل لا يمكن أن يغيّر من عزمنا على المضي قدماً نحو تنفيذ حل الدولتين، مهما كانت الظروف». وإزاء التساؤلات التي برزت في الأيام الأخيرة عن استدارة في الموقف الفرنسي لجهة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بمناسبة مؤتمر نيويورك، أراد ماكرون أن يقطع الشك باليقين بقوله: «لقد أعلنت عن عزمي على الاعتراف بدولة فلسطين. وهذا العزم كامل، وهو قرار سيادي».
الضغوط الإسرائيلية لإفشال المؤتمر
بعد انطلاقة الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، بدا بوضوح أن الاهتمام بالملف الفلسطيني سيتراجع حكماً. وترى مصادر سياسية في باريس أن قمة حل الدولتين كانت أولى ضحاياها «ليس فقط بسبب تأجيلها إلى موعد غير معروف، بل لأن رئيس الوزراء يرى في الحرب مع إيران طريقاً لتحقيق هدفين متلازمين: الأول حَرْف الأنظار عن الحرب التي تتواصل فصولها في غزة وعن تواصل تساقط عشرات القتلى والجرحى كل يوم، بل أيضاً إعادة رصّ الصفوف في الداخل حول سياساته، وإعادة الغربيين إلى حظيرة دعم إسرائيل».
ويضيف مصدر آخر أن الحرب التي وصفها بنيامين نتنياهو بـ«الوجودية» بالنسبة لإسرائيل، والتي يتبنى الغربيون سرديتها، كما فعل المستشار الألماني ورئيس الوزراء البريطاني، ولكن أيضاً الرئيس الفرنسي، وبالطبع الرئيس الأميركي، تجعل ممارسة الضغوط على نتنياهو في ملف غزة أمراً بالغ الصعوبة.
أما بالنسبة للموعد البديل للمؤتمر، فمن الصعب التكهّن به، باعتبار أن حرب إسرائيل - إيران لن تنتهي غداً، ولا أحد يعلم كيف ستنتهي، وما إذا كانت الأسرة الدولية ستكون مهتمة بالعودة للنظر في الملف الفلسطيني.
حقيقة الأمر أن الضغوط التي مارستها إسرائيل من أجل منع انعقاد القمة أو إفراغها من محتواها ليست سراً. نتنياهو رفض دوماً مبدأ قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وفي الخريف الماضي، صوّت الكنيست على قرار يرفض قيامها.
وبعد أن ازداد الاهتمام بمؤتمر نيويورك، كان جواب الحكومة الإسرائيلية الإعلان عن إقامة 22 مستوطنة في الضفة الغربية، والهدف الواضح جعل قيام هذه الدولة، التي تضم قطاع غزة المدمّر وتحت الحصار، والضفة الغربية التي تمزقها المستوطنات وعنف المستوطنين، أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً.
وأحد الأسباب التي ركزت عليها الدبلوماسية الفرنسية خلال أشهر تحضير المؤتمر أن غرضه السير بالقمة قبل أن يتم وأد فكرتها وقيامها نهائياً.
الموقف الأميركي من القمة
عندما كانت تُسأل المصادر الفرنسية عن موقف واشنطن من مؤتمر نيويورك، كان الجواب أنه «لا موقف مُعلناً» لواشنطن، وأن باريس تريد إبراز المؤتمر على أنه «تتويج» لجهود ترمب بالدفع نحو شرق أوسط مستقر ويعيش بسلام. وكانت باريس تراهن على لقاء بين الرئيسين الفرنسي والأميركي، بمناسبة «قمة السبع» التي ستُعقد في كندا «ألبرتا» مباشرة قبل مؤتمر نيويورك، لدفع سيد البيت الأبيض لتسهيل المؤتمر إن لم يكن لدعمه.
والحال أن تصويت واشنطن في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار في غزة أحبط باريس. ثم جاء كشف وكالة «رويترز»، الخميس الماضي، عن وجود مذكرة دبلوماسية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية للوقوف بوجه المؤتمر، لتبديد آخر آمال بـ«تفهم» أميركي للمشروع الفرنسي - السعودي.
ومما جاء في المذكرة: «نحث الحكومات على عدم المشاركة في المؤتمر، الذي نراه ضارّاً بالجهود الجارية والمنقذة للحياة لإنهاء الحرب في غزة وإطلاق سراح الرهائن». وجاء في المذكرة أيضاً أن «الولايات المتحدة تعارض أي خطوات للاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية مفترضة؛ إذ إن ذلك يضيف عقبات قانونية وسياسية كبيرة أمام حل النزاع في نهاية المطاف، وقد يؤدي إلى الضغط على إسرائيل أثناء حرب، مما يعني دعم أعدائها».
وذهب السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، إلى القول إنه «لا يعتقد» أن قيام دولة فلسطينية ما زال يعكس السياسة الأميركية إزاء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وللتذكير، فإن السياسة التقليدية الأميركية كانت تنهض على مبدأ قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل.
رهانات فرنسية خاسرة
كان الرهان الفرنسي، من أجل إنجاح القمة، يقوم على مبدأ «المبادلة»، بحيث تقدم الدول العربية والإسلامية «شيئاً» ما مقابل اعترافها بالدولة الفلسطينية، كتطبيع علاقاتها مع إسرائيل أو على الأقل إعلان قبولها السير في مسار كهذا. بيد أن تواصل حرب غزة قضى على هذه التوقعات.
ورهان باريس الثاني كان قوامه استعداد دول أوروبية، مثل بريطانيا وبلجيكا وهولندا أو أخرى مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا... للسير إلى جانبها من أجل إطلاق «دينامية سياسية» في اتجاه إيجاد الظروف الملائمة والملموسة لنجاح حل الدولتين. لكنه لم يكن مضمون النتائج، لا، بل أصبح اليوم رهاناً خاسراً بعد التطورات الحربية الأخيرة.
بيد أن جميع هذه الاعتبارات ليست كافية لثني الرئيس ماكرون عن خطته؛ إذ يعتبر أن لا معطى شرق أوسطياً يجب أن يكون منطلقاً ومساعداً لحل الدولتين. وقال في مؤتمره الصحافي إن «الدينامية التي أطلقتها هذه القمة هي دينامية لا يمكن إيقافها»، معدِّداً مجدداً أهدافها، ومشدداً خصوصاً على أن إسرائيل ستكون المستفيدة منها، بفضل انخراطها وقبولها في منظومة الشرق الأوسط، وبفضل «الهندسة الأمنية» لكل دول الشرق الأوسط.
واضح أن القراءات متفاوتة. والسؤال حول انعقاد القمة ونجاحها مرهون بما ستؤول إليه حرب إسرائيل - إيران، وصورة الشرق الأوسط الجديد التي ستشارك في رسمها.