كان من الممكن أن تتحول استقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، أهارون هاليفا، الاثنين، من منصبه، على خلفية الإخفاقات في رصد ومنع هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى حدث جلل يهز المجتمع الإسرائيلي ويُحدِث فيه زلزالاً سياسياً بدرجة عالية في سلم ريختر.
فهذه هي أضخم شعبة في الجيش الإسرائيلي، ومسؤولة عن رصد تحركات العدو، وتحليل المعلومات الهائلة التي تتجمع لديها، واستخلاص الاستنتاجات إزاء نياتها، ومسؤولة عن التحذير من النشاطات والنيات الحربية، وبناء على تقديراتها يتم وضع الخطط الحربية الإسرائيلية.
وقد تم تحميل هذه الشعبة المسؤولية عن الإخفاقات في حرب أكتوبر 1973، وباتت هذه الحرب عاراً على «أمان» كان صعباً محوه طيلة 50 عاماً. ولذلك فإن الإخفاق في رصد هجوم «حماس» كان ذا أثر مضاعف. وزاد الطين بلة أن هاليفا شخصياً تلقى معلومات عن «تحركات غير عادية» في صفوف «حماس» في الثالثة فجر يوم السابع من أكتوبر، أي قبل 3 ساعات ونصف الساعة من وقوع الهجوم. وكان عندها في رحلة استجمام عائلية في إيلات، لكنه قرّر تأجيل متابعة الموضوع وبقي في الفندق.
أمام هذه المعطيات كان هاليفا ينوي الاستقالة بعد الحرب مباشرة، لكن قيادة الجيش منعته من ذلك، وقيل له إن جميع قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يجب أن يستقيلوا «فهم جميعاً شركاء في الإخفاق». وهي لا تريد أن يتم تعيين قادة مكانهم من طرف نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، خوفاً من أن يلوثوا هذه الأجهزة بالفساد، وأن يرشحوا للمناصب الحساسة أشخاصاً ينفذون إرادة رئيس الحكومة، ويفضلونها على الحسابات العسكرية المهنية. وأعلنوا جميعاً، في حينه، أنهم ينوون الاستقالة بعد الحرب.
ويعتقد بأن هاليفا اختار هذا الموعد للاستقالة، مع رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، في إشارة إلى الجمهور بأن الحرب في غزة قد انتهت منذ فترة طويلة ولم تعد مجدية، مع اتهام الحكومة بالاستمرار فيها فقط؛ لأن مصلحة نتنياهو تقتضي ذلك؛ خدمة لأغراضه الشخصية المرتبطة بمحاكمة الفساد وأغراضه الحزبية.
لكنّ اليمين يفند هذا الزعم ويقول إن هاليفا استقال الآن بسبب إخفاق أمني جديد مسجل على جبينه. فهو فشل أيضاً في معرفة كيفية رد إيران على العملية الإسرائيلية التي نفذت في دمشق، وتمت خلالها تصفية القائد في «الحرس الثوري» محمد رضا زاهدي ومجموعة من كبار المسؤولين معه، في مبنى القنصلية الإيرانية.
وقد جاء لافتاً للنظر أن رسالة الاستقالة التي وجهها هاليفا لرئيس الأركان، تشير إلى تحمل مسؤولية باسم شعبة الاستخبارات، ولا تتطرق للمسؤولية الشخصية. وتحتوي أيضاً على مطلب بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات 7 أكتوبر. فهذه الصيغة تخبئ وراءها مضموناً مهماً، فجميع قادة الجيش والمخابرات أعلنوا أنهم يتحملون المسؤولية الإدارية وليس الشخصية عن الإخفاق.
وفي الوقت نفسه، يعتقدون أن نتنياهو يتحمل المسؤولية الكبرى، ليس فقط بوصفه المسؤول الأول، بل لأنهم كانوا قد حذروه من هجوم من «حماس» و«حزب الله»، ولكنه لم يكترث. فقد أبلغوه أن الإجراءات المتطرفة التي يقودها وزراء اليمين ضد الفلسطينيين، مثل الاقتحامات للمسجد الأقصى، وانفلات المستوطنين واعتداءاتهم على الفلسطينيين، والممارسات ضد الأسرى، وإغلاق آفاق التسوية السياسية، سوف تفجر توتراً كبيراً في وجه إسرائيل. لكن نتنياهو لم يكترث، رغم أنهم حذروه شفهياً، ثم كتبوا تحذيراتهم في مذكرة خطية رسمية سربوها للصحافة، ولم يكترث أيضاً، ولذلك فهو المسؤول الأول عن هجوم «حماس»، وهو أيضاً مسؤول عن تقوية «حماس» على السلطة الفلسطينية، وتعزيز الانقسام.
من جهته، يرفض نتنياهو تحمل أي مسؤولية، ويشغل المجتمع الإسرائيلي في الحرب؛ كي يطيل مدة تأجيل التحقيق، بل يحاول أن يجعله تحقيقاً متواضعاً وموجهاً من لجنة حكومية، ولذلك يركز هاليفا على «لجنة تحقيق رسمية»، أي لجنة مستقلة برئاسة قاض، وتتمتع بصلاحيات قضائية.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه حتى لو شكلت لجنة تحقيق رسمية، فإن نتنياهو سيحاول تقييد نطاق تحقيقاتها؛ كي لا تطاله براثنها. وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها المجتمع السياسي الإسرائيلي ويجعلها نهجاً له. فالمعروف أن الإخفاق الأول عن هذه الحرب وما سبقها من حروب، كان من قِبل السياسة الإسرائيلية التي تعتمد على القوة، وعلى التهرب من التسوية السياسية.
أيضاً في حرب أكتوبر 1973، نجحت القيادة السياسية في التملص من حقيقة أساسية، هي أن مصر كانت قد عرضت مسيرة سياسية للسلام مع إسرائيل، لكن الحكومة برئاسة غولدا مئير رفضت العرض وتمسكت بسياسة القوة الحربية، ولو أنها وافقت لكانت حقنت الكثير من الدماء الإسرائيلية والعربية.
أما حكومة نتنياهو فاتسمت بإجهاض الحلول السلمية، وأجهضت «اتفاقيات أوسلو» التي كانت بمثابة مسار سياسي سلمي، والهدف الذي وضعه رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، لهذه الاتفاقيات هو أن تتحول إلى تسوية دائمة.