طلال حيدر... شاعر النقاء الرعوي والاستعارات المدهشة

اقتطع الشعر من براريه وينابيعه الخام ووضعه في قلب الحداثة

طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
TT

طلال حيدر... شاعر النقاء الرعوي والاستعارات المدهشة

طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك

أصعب ما في الكتابة عن طلال حيدر أنك لا تستطيع ضبطه متلبساً في حالة هدوء، أو وضعية ثابتة، لكي تستطيع القبض على ملامحه. فهو يظهر حيناً في صورة إعصار، ويظهر حيناً آخر متلفعاً بحكمته، ومنكفئاً داخل نفسه كالكهف، ويبدو حيناً ثالثاً مشمساً ورائقاً كصباحات سهل البقاع. وإذا كنت قد أجلت الكتابة عنه مرة إثر أخرى، فليس لأنني لم أعثر في شعره وسيرته على المواد الكافية للكتابة، بل لأن فيه من التعدد بما يشعرك بالتهيب من كثرته، ومن تقلبات المزاج وملابسات الحضور، بما يجعلك عاجزاً عن وضعه في خانة، أو توصيف.

إلا أن ما تقدم لا يعني بأي حال أن طلال حيدر كان مديناً فيما قدمه من أعمال متميزة لموهبته ومزاياه الشخصية وحدها، بل إن تجربته الشعرية قد أخذت طريقها إلى الجدة والابتكار، مستندة إلى مجموعة من العوامل التي لم يكن له من دونها أن يحتل موقع الريادة في القصيدة اللبنانية المحكية. وإذا كان الشعر من بعض وجوهه هو أحد تجليات المكان، وتعبيراته الرمزية، فإن مخيلة صاحب «بياع الزمان» قد استندت إلى ملاعب شاسعة الآفاق، يتشكل ظهيرها المشهدي من سلسلتي جبال شاهقتين، ونهرين متعاكسي المجرى هما العاصي والليطاني، وسهل فسيح، ومبقع بعشرات الألوان.

وحيث لا يوجد شعر غني دون طفولة غنية، كما يقول باشلار، فقد عرف طلال كيف يحول طفولته إلى مصيدة ناجحة للصور والمجازات، وكيف يدرب حواسه الخمس على تعقب الظواهر المتقلبة للطبيعة، معايناً حركة الأرض في مخاضاتها، والرياح في تفتحها، والشموس في اندلاعها الأوليّ، والغيوم في أوكارها الممطرة.

وعلينا أن لا نغفل في الوقت ذاته أن تجربة طلال المميزة قد نشأت في كنف حالة النهوض الاجتماعي والثقافي التي شهدها لبنان بُعيد منتصف القرن الفائت، حيث أتيح للشاب البقاعي الوافد إلى بيروت أن يعاين عصر المدينة الذهبي، وأن يقف عن كثب على السجالات الحادة بين حركات التقليد والتجديد التي شهدتها العاصمة اللبنانية في أواسط القرن الفائت. واللافت أن رغبة الشاعر العارمة في الاطلاع على التراث العربي وتذوق فنونه وآدابه كانت ترافقها رغبة موازية في التفاعل الخلاق مع تيارات الحداثة الوليدة، والتي توزعت تعبيراتها بين الشعر، والمسرح، والموسيقى، وفنون التشكيل.

كما تتبع طلال نشوء مجلة «شعر» ورافق روادها المؤسسين، مشاركاً في ندوتها الأسبوعية، ومتفاعلاً في الوقت ذاته مع انطلاقة مهرجانات بعلبك الدولية، ومع النصوص المحكية التأسيسية لسعيد عقل، وميشال طراد، والأخوين رحباني. وبفضل اشتغاله المضني على تثقيف نفسه، وحرصه الدؤوب على تنويع قراءاته الأدبية والفنية والفلسفية، تمكن الشاعر المغامر من تجاوز الردح الزجلي السائد في تلك الفترة، والقائم على الهجاء، والمديح، والاجترار اللفظي السقيم، ليأخذ القصيدة المحكية نحو مناطق تعبيرية ورؤيوية جديدة، وغير مأهولة.

والواقع أن ما أضافه طلال إلى الشعرية العربية لا تنحصر أهميته في إثبات قدرة القصيدة المحكية على مجاراة الفصحى، ومنافستها في مجال التخييل، والتقاط الصور المجازية المفاجئة في عمقها وطزاجتها، بل في تعقبه المستمر للفولكلور والتراث الشعبي، ولأغاني الرعاة، ومواويل الريف، وصولاً إلى الروح الإسلامية التي تشربها طفلاً ويانعاً، والأهازيج والحداءات المنتشرة في نواحي بلاد الشام وبواديها.

على أن طلال حيدر الذي رفد تجربته بما ادخرته الصحارى العربية في رمالها اللاهبة من شموس متخثرة، وأقواس قزحية، وأعقاب زفرات وأصوات، لم يُبق المواد الأولية التي تلقفها من هذه الأماكن في صورتها الخام، بل أعاد إنتاجها بصورة مختلفة، مستخدماً أسلوب الاختزال، والترميز، والإيماء إلى المعنى، والمباعدة المدهشة بين طرفي الصورة، بما جعل منها قيمة مضافة إلى جمالية الفصحى، وللمشهد الشعري الحداثي برمته. ولعل ما فعله طلال باللغة المحكية يشبه إلى حد بعيد ما فعله الشاعر الإسباني غارسيا لوركا، الذي جاب سهوب الأندلس وجهات إسبانيا الأربع، بحثاً عن تراث أسلافه الشفوي، وعن أشكال التعبير الشعبي والفولكلوري التي اقتبس منها ديوانه المميز «أغاني الغجر».

ولأن حيدر كان يعرف بفطرته السليمة وذكائه الحاد أن الشعر العظيم لا تنتجه مصانع التأليف البارد، ولا التصاميم المتعسفة للعقل، وأنه لا يتأتى من احتكاك المفردات بنفسها فحسب، بل من احتكاكها بالعالم الحقيقي، وتفتح الحواس، فقد اندفع باتجاه الحياة بكامل «شراسته»، وجنونه، ونزوعه الشهواني، غير آبه بالأعراف، والمحظورات، والخطوط الحمراء. ولهذا السبب بدت كتابته مزيجاً شديد الفرادة من الاختزالات اللفظية المنمنمة، والحِكَم المأثورة، والتعريشات القريبة من فن الأرابيسك العربي، والمشهديات المقطعية القريبة من فنون السينما، والتشكيل، كما في أبيات من مثل «هالعمرْ جفْلة فَرسْ والناسْ خيَّاله»، أو «حلوةْ متلْ طلُّوا العربْ رحْ يوصلوا عالشامْ»، فيما كان توتره العصبي وضراوة شغفه بالحياة يمنعان شعره من الوقوع في مزالق التأنق المحض، والزخرفة الساكنة، ويمنحانه قوة التوهج، وثراء الدلالة، وجماليات التأويل.

أما افتتان الشاعر بالأنوثة، فلم يكن ناجماً عن اكتظاظه بالرغبات، أو تعلقه المفرط بالمرأة فحسب، بل لأنه رأى في الأنوثة رمزاً للجمال الكوني، وللحياة في صيغتها الوردية، والقصيدة في تفتحها الملغز. هكذا نتعرف عنده على نساء غابرات احتفظت بهن المخيلات الجمعية، فيما تسمر جمالهن كحروف قديمة على جداريات الزمان الآفل «عبله على ضهر الفرَسْ، حلوهْ متلْ آيهْ، كلّ الحروف مْنكَّسهْ، إلا الألِفْ رايهْ، أللهْ شو حلوه الألِفْ، بسْ تنحكى حْكايهْ، سبعْ لغات العربْ، عندي مْخبَّيهْ، عَكِترْ ما القوس انحنى، صار السهمْ غايهْ».

ولم يجد طلال حرجاً في الإفادة من المصادر الأم لنصوص الحب والعشق، سواء تعلق الأمر بشعر الرقائم والألواح التي تركتها خلفها حضارات السومريين والبابليين والفراعنة، أو تلك التي أفردت لها الكتب المقدسة أسفاراً وآيات وحكايا خاصة بها. وهو ما تبدو تمثلاته واضحة في قول الشاعر: «وجِّكْ قطعان الِمعزَه بْجبل التفاحْ»، الذي يستلهم عبارة «شَعركِ كقطيع معِزٍ يبدو من جبل جلعاد»، الواردة في: «نشيد الأناشيد».

وإذ لا يكف طلال عن المواءمة بين افتتانه بسحر المرأة، وافتتانه الموازي بسحر المكان الصحراوي، يجعل من اللغة نفسها الأقنوم الثالث لهذه المواءمة، وبخاصة صيغة المثنى التي لم يكف عن استخدامها في غير واحدة من قصائده، وبينها قوله: «تتْلفَّتين شْمالْ، يِتْغيّرْ طقسْ سنْتينْ، ويمرقْ عرسْ بالبالْ أحلى من بنات تنينْ، والبنْ شاف الهالْ جايي من اليمنْ دَلُّوا على الخدَّينْ، بسْ يكتملْ بدر الجزيرة فوق نجْد بْخافْ صيبةْ عينْ، لوَّنتْ توبكْ منِ الشمس البِقِتْ فوق الرملْ عامينْ، والرملْ ما بيسأل الصحرا مْنين المدى بِبلِّش ولَويْنْ».

تحولت نصوص كثيرة لطلال حيدر إلى أغنيات معروفة ترددها حناجر الكبار من المغنين والمغنيات

ولم يكن من قبيل الصدفة أن تتحول نصوص كثيرة لطلال حيدر إلى أغنيات معروفة ترددها حناجر الكبار من المغنين والمغنيات، من أمثال فيروز، وصباح، ووديع الصافي، ومرسيل خليفة، بل إن الأمر عائد إلى تصادي هذه النصوص مع أجمل ما ترسخ في الذاكرة العربية من أطياف الأزمنة، والأماكن المفقودة، ومع الترجيعات الدفينة للطفولة الجمعية. ولعل معرفة الشاعر الوثيقة باللغة الفصحى، وبحور الخليل هي التي ساعدته على الإفادة من بعض أوزان الشعر العربي الفصيح، وبخاصة البسيط، والخبب، والاشتغال على البنية الإيقاعية للقصيدة المحكية. كما أنه استفاد إلى أبعد الحدود من البنى الإيقاعية المختلفة لأشكال الفولكلور المحلي، وبينها الحداء، والحوربة، والندب، وأهازيج النصر، وأغاني الحصاد، والأعراس، وهدهدات الأطفال.

إلا أن احتفاء طلال بمباهج الحياة وجمالاتها ولحظاتها الممتعة يجب ألا يصرفنا بالمقابل عما يشيع في شعره من نبرات الشجن والأسى النوستالجي الناجمة عن خسارة مباهج الحياة، وتغيُّر الأحوال، وتقادم السنين. وإذا كنا نرى ظلالاً لهذا الشجن والأسى في الكثير من نصوص طلال حيدر، فإنها تبدو جلية تماماً في قصيدته المؤثرة «هالكان عندن بيت»، التي يقول فيها: «وين أهلي؟ وين طاحونةْ حزنْ خيّي الزغيرْ؟ وين طيارةْ ورقْ نومي على هزّةْ سْريرْ؟ وين الإيديْن الْحطَّت إبريق الشّتي فوق الحصيرْ؟ وين شْبابيك الْفات منها الصوتْ متل الزمهريرْ؟ وِقْع العمرْ ما بين إيد وْبينْ هزَّات السّريرْ».


مقالات ذات صلة

«شهرزاد» في «إكسير»: الموسيقى بين الكروم والغروب صلاةٌ للحبّ والحياة

يوميات الشرق الموسيقى كانت مساحة تتهيّأ فيها الأرواح للسمو (الشرق الأوسط)

«شهرزاد» في «إكسير»: الموسيقى بين الكروم والغروب صلاةٌ للحبّ والحياة

كلّما ارتفعت الموسيقى، بدت الأرض أقل احتمالاً؛ كأنّ النغمة وحدها تُتيح لنا احتمال الحياة. هذا العزف الذي تسلَّل بين الكروم كان معذِّباً بقدر ما كان مُخلّصاً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون تبلغ «جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري» في جميع فروع دورتها العشرين 270 ألف دولار

«البابطين الثقافية» تفتح باب الترشح لجائزة الإبداع الشعري في دورتها الـ20

أعلن مجلس أمناء «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية» عن فتح باب الترشح لجائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
ثقافة وفنون ضد شعرية «الكليشة»

ضد شعرية «الكليشة»

ثمة مجموعات شعرية تستدعي عند قراءتها رجوع القارئ (باحثاً كان أو قارئاً) إلى نوع من المراجعة لمفهوم وشكل قصيدة النثر العراقية والعربية.

علي سعدون
يوميات الشرق قمرٌ شاهد على أمسية أعادت ترتيب العلاقة بين القلب والكلمة (الشرق الأوسط)

شربل روحانا ومارانا سعد: فيضُ الموسيقى بالمعنى

الجمال الفنّي لم يكن في الأداء وحده، وإنما في علاقةٍ متينة مع اللغة العربية، وفي اجتهاد لتقديم القصائد إلى جمهور ذواق يدرك قيمة الكلمة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون الفائزون بجائرة سلطان العويس

إعلان الفائزين بجائزة سلطان العويس الثقافية

أعلنت جائزة سلطان العويس الثقافية، اليوم، فوز الشاعر العراقي حميد سعيد بجائزة «الشعر»، والروائية العراقية إنعام كجه جي بجائزة «القصة والرواية والمسرحية».

«الشرق الأوسط» (الدمام)

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني
TT

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني

منحت سوريا الأدب العربي عبر السنين قامتين من أعلى القامات الشعرية في اللغة العربية: المعري قديماً، وأدونيس حديثاً. على أن هذين الاثنين –وإن احتلّا منزلةً رفيعةً لدي مؤرخي الأدب والمتضلعين في اللغة العربية وآدابها وأنصار الحداثة من شعراء ونقاد وقراء- لم يكونا قط شاعرين «جماهيريين» ولا جزءاً من وعي الرجل العادي أو رجل الشارع، إن كان هذا الأخير يقرأ الشعر أساساً.

فوعورة لغة رهين المحبسين ولزومه ما لا يلزم، وحداثة شاعر التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار وحفول لغته بالإشارات الأسطورية والتاريخية والشخصية، إلى جانب ما اتسم به عمل الرجلين من عمق فلسفي وتأمل ميتافيزيقي كانت كلها بمثابة حائط صلب يَحول بين المتلقي وبين ولوج عالمهما، ويجعلهما شاعرين للنخبة المثقفة او الصفوة القليلة من أصحاب الذائقة الرفيعة والمعرفة الواسعة.

ولأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه، كما يقول علماء الطبيعة، فقد كان من المتوقع أن يولِّد هذا اللون من الشعر بعيد التناول رد فعل عكسياً، وأن يحدو بشعراء آخرين إلى استخدام لغة قريبة من لغة الحياة اليومية، والحكي العادي، وتطعيم الفصحى بالعامية، واجتناب مفردات القواميس وكتب الأدب القديمة.

بندرعبد الحميد

رد الفعل هذا موضوع كتاب صدر في هذه الأيام عنوانه «شعراء سوريون والحداثة الشفوية أو المحكية»، Syrian Poets and Vernacular Modernity، من تأليف دانيل بيهار Daniel Behar الأستاذ المساعد للأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العبرية في القدس.

والكتاب هو أحدث إصدارات سلسلة «دراسات إدنبره في الأدب العربي الحديث» التي تصدر في اسكوتلندا، ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني.

وبصدور كتابها الجديد هذا تكون قائمة إصدارات السلسلة قد ضمت ثلاثين كتاباً عن مختلف الأجناس الأدبية؛ شعراً وقصاً ومسرحاً ونقداً ومقالاً منذ مطلع القرن التاسع عشر حتي يومنا هذا.

أهم معالم الطريق التي يتوقف عندها الكتاب ثلاثة: نزار قباني (1923 - 1998)، ومحمد الماغوط (1934 - 2006)، وشعراء قصيدة النثر مثل منذر المصري، ورياض الصالح الحسين، وبندر عبد الحميد،، وعادل محمود، وصالح دياب.

فنزار قباني هو الشاعر واسع الانتشار (خصوصاً وقد ترنَّم بشعره عبد الحليم حافظ وكاظم الساهر ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي) الذي لمس وترين حساسين في نفوس القراء: الوتر الأول هو الإيروسية والحوار بين الجنسين وتحليل عاطفة الحب والحديث من منظور المرأة (كما في قصيدة «شؤون صغيرة»)، والآخر هو مخاطبة الروح القومية والعاطفة الوطنية واستجاشة الهمم كما في قصائده عن المقاومة الفلسطينية والفدائيين وهوامشه على دفتر نكسة يونيو (حزيران) 1967. وإلى هذين الوترين أضاف وتراً ثالثاً هو النقد الجريء لجوانب من المجتمع العربي كما في قصيدة «خبز وحشيش وقمر».

محمد الماغوط

رمى نزار إلى نحت لغة جديدة وحدد منهجه بقوله: «بعد أن كانت اللغة الشعرية إقطاعية وطبقية ومتجبرة ومتكبرة وغليظة وثقيلة الدم علَّمتُها فن العلاقات العامة، وطريقة الحوار الديمقراطي، وأجبرتُها على النزول إلى المقاهي والمطاعم الشعبية والشوارع الخلفية والاختلاط بالبروليتاريا».

ويتمثل إنجاز نزار في إقامته جسراً بين الشفوي والكتابي، الموروث والحديث، الشرق والغرب، ومحاولته القضاء على الازدواجية اللغوية، ورفعه التكلفة بين الشعر والشعب، فهو يمثل مرحلة انتقالية بين الشفوية والفن العالي.

أما محمد الماغوط فقد أسس الشفوية في سبعينات القرن الماضي، متأرجحاً بين الحداثة والواقعية الاشتراكية، على نحو يذكِّرنا بالشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. كان شعره محاولة جريئة للجمع بين الشفوية وحدة الانفعال النفسي، والانبثاق العضوي التلقائي، والتمرد الفردي. وهو في قصائده يفيد من تقنيات الفن السينمائي، ومن معطفه خرجت ما يسميها عباس بيضون «السلالة الماغوطية».

وشعراء قصيدة النثر بتمردهم على العروض الخليلي وإمعانهم في استخدام مفردات الحياة اليومية يمضون خطوة أبعد في الربط بين الفن والحياة وكتابة شعر واقعي يعكس هموم المواطن العادي ومعاناته ومسراته المتواضعة. إنه شعر - ضد، وكتابة «تحت سقف واطئ» تبتعد عن سبحات الخيال العالية.

رفض هؤلاء الشعراء النظرة الرومانسية إلى الشاعر على أنه بطل خارق للعادة، أو بتعبير علي محمود طه: كائن هبط الأرض كالشعاع السنيّ بعصا ساحر وقلب نبي. فالشاعر إنسان عادي يجول في الأسواق، ويعاني مشكلات الحياة اليومية مثل أبسط مواطن.

ولا يفوت المؤلف أن يشير إلى الصلة بين استخدام هؤلاء الشعراء السوريين اللغة المحكية ومحاولة الكاتب المسرحي المصري توفيق الحكيم في خمسينات القرن الماضي ابتداع «لغة ثالثة» تقوم في منزلة وسط بين الفصحى والعامية.

وكتاب بيهار قائم على أطروحة دكتوراه أُجيزت من جامعة هارفارد الأميركية في 2019، ومن ثم فهو عمل محكم يستوفي شرائط البحث العلمي من دقة وإحاطة ورجوع إلى الأصول. ومؤلفه واسع العلم باللغات يترجم إلى الإنجليزية من العربية والعبرية والألمانية والفرنسية والإسبانية. وكتابه إضافة قيمة إلى سلسلة جليلة ستظل لآماد كثيرة مقبلة مرجعاً لا غنى عنه لكل دارس جاد للأدب العربي الحديث.