«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

جمال القصاص يلوذ بالشعر والمرأة من الشيخوخة والحروب

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة
TT

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة، فإذا كان المفعول به في هذه الجملة الفعلية واضحاً، وهو ياء المتكلم، الذي يعود على الذات الشاعرة، فإن الفاعل يظل دالاً عائماً، فهو ضمير غائب، يمكن حمله على تقديرات لا نهائية، لا يحدها شيء سوى كونها مؤنثة، فهي المرأة، والحياة، والقصيدة، والموسيقى، والشيخوخة والطفولة، والطبيعة، إلى آخر الدوال المشابهة، وكلها تطل برأسها على مدار الديوان، وتمارس حضورها في الذات الشاعرة، في وجودها وكينونتها، وحتى في الندوب التي تتركها في الجسد، ومن ثم فإن هذه الدوال الغائبة كلها في حالة لعب حر مع بعضها من ناحية، ومع الذات الشاعرة من ناحية أخرى، هذه الذات التي تعشق الحواف، وتقف على حافة كل شيء، ولا تنحاز كلية لشيء سوى الحب والشعر، وحتى هذين الأخيرين تبدو العلاقة معهما مسكونة بكثير من المراوغة واللعب والإرجاء.

هذا العنوان المخاتل تتعدد تمثيلاته داخل قصائد الديوان، وكل منها يشير إلى دلالة مغايرة عن الأخرى، فمرة يقول «هي نفس الموسيقى/ تجرحني بخفة... وتعلو»، فالإحالة هنا إلى الموسيقى، لكن هذه الإحالة ليست نهائية، فسرعان ما نجد في قصيدة أخرى إحالة مغايرة، حين يقول «أشياء كثيرة لا أحبها في الشعر/ لا تجرحني بخفة/ لا تعلو ولا تسقط/ لا تفتح في جسدي كتاب الليل أو النهار/ تضع في كفي متاهة تشبهني»، غير أن هذا الاقتران بالشعر ليس نهاية المطاف، فسرعان ما تنفتح دالة تجرحني على إحالة أكثر اتساعاً «سأرحل../ كل شيء يجرحني بخفة ويعلو/ كأني محض رغبة/ محض شبح». فالجملة المفتاحية التي تأتي في العنوان تنزاح دلالاتها من قصيدة لأخرى، وتظل في حالة لعب حر، وفي كل مرة تكتسي دلالات جديدة، ليصبح المعنى في المقطع الأخير أكثر اتساعاً، ولا يقتصر على الموسيقى أو الشعر، إنما أكثر نزوعاً نحو ظلال وجودية وفلسفية.

الديوان الصادر أخيراً عن دار «بتانة للنشر» في القاهرة، في أكثر من ثلاثمائة صفحة، يتكون من اثنتي عشرة قصيدة، كل منها تتكون من مجموعة مقاطع. وعلى مدار هذه القصائد، وفي كل قصيدة على حدة أيضاً، نرى الذات الشاعرة وقد جمعت الحياة من طرفيها، من لحظة الطفولة التي ما زالت حاضرة، كمعنى ونزق ورغبة في الاكتشاف، وحتى شيخوخة الذات، وما بينهما من استعادات للحظات جوهرية في هذه المسيرة الوجودية والعاطفية والجسدية وحتى السياسية، حتى إنه يمكن قراءة الديوان بوصفه سيرة شعرية مشفرة لهذه الذات التي تستعيد الماضي من جهة، ولا تكف عن البدء من جديد، سيرة لمراوغة العالم، لترويضه، لشعرنته، لمحاولة جعل الوجود أكثر ألفة، لإعادة تنظيمه في كلمات، فالشاعر صياد قديم - ومفردة صياد تتكرر أكثر من مرة في عدة قصائد - والقصيدة شبكته التي يلقي بها في لجة الوجود الصاخبة، محاولاً في كل مرة أن يظفر بغنيمة شعرية.

الالتباس والتداخل هو جوهر هذا الخطاب الشعري، فتتقاطع الذات الشاعرة مع الذات الشخصية لجمال القصاص، الذي يحضر باسمه في أكثر من نص، والذاتي يلتبس بالموضوعي ويتداخل معه، والعاطفي يمتزج بالأيروتيكي، والأحداث السياسية بالأزمات الصحية، والشيخوخة بطفولة جديدة. هنا، ذات تدرك تعددها، تدرك أن العالم عجينة نيئة، ألوان متعددة، ظلمة مسكونة بالنور، ونور مشوب بظلمة، ظلال لا متناهية، تتداخل كلها داخل الذات، فتحاول ترويض هذه المتاهة، متاهة الأنا ومتاهة العالم:

«الحياة متاهتنا الصغيرة نشبكها في أصابعنا

نحدثها عن ماض كان يشبهنا عن ظل دائماً يسبقنا

حين نتعب نتمسح في غباره»

رغم ضخامة الديوان، وإمكانية قراءة كل مقطع بشكل منفصل، فإنه محكم البناء، ويبدو مترابطاً منذ بدايته وحتى نهايته، كوحدة واحدة، وسؤال كبير مفتوح على إجابات شتى. فالشاعر يستهل الديوان بمساءلة ذاته بهذا السؤال الوجودي: «ماذا فعلت في هذه الحياة/ لا شيء يحرس عريك/ يؤنس وحدتك/ يضع شمعة صغيرة فوق الرف»، وإذا كان هذا المقطع هو ما أول يطالعه القارئ في الديوان، فإن إجابة السؤال تأتي في نهاية الديوان، ليس في القصيدة الأخيرة، لكن في المقطع الذي اختاره الشاعر ليكون على الغلاف الخلفي «ما زلت أحلم/ أتعرف على جسدي/ على نفسي/ على اسمي/ على حياة/ تركتها خلفي/ لم أودّعها/ فقط.../ نزّت الدموعُ من يدي/ وأنا أعلق الكتاب». وبين سؤال البدء، وإجابة الختام، تتناسل على مدار الديوان عشرات الأسئلة الأخرى المعلقة، عن الشعر، والحياة، والحب، والحرب، والمرأة، والجسد، وعن وجود ظل معلقاً على الحافة، وعن طفل يسكن الذات، ولا يتوقف عن محاولة البدء من جديد، فتصير النهايات بدايات أخرى، ليتحول الزمن إلى بنية دائرية، وليس خطاً فيزيائياً مستقيماً، فهو زمن شعري لا متناهٍ، زمن تعيد القصيدة والحب خلقه من جديد، لتمنحه طفولة لانهائية:

«ربما نحلم ببداية جديدة

في هذه السن الطائشة المجنونة

ربما تعرف النهايات كيف تسند القلب

توهمه بسعادة مؤجلة

تشبه الحنين أو النسيان»

وإذا كان الديوان مترابطاً بشكل بنائي، فإنه أيضاً يبدو مشدوداً ومترابطاً مع الدواوين السابقة للشاعر نفسه، فإذا كان الشاعر على مدار الديوان يراوع الحياة والزمن، فإن دواوينه السابقة قادرة على مراوغة النسيان وممارسة الحضور في القصائد الجديدة، مكتسبة حياة أخرى ووجوداً جديداً، فتحضر كثير من عناوين دواوين السابقة، بل بعض مقاطع من تلك الدواوين، في أكثر من قصيدة داخل هذا الديوان، وكأنها تولد من جديد، لتعيش طفولة نزقة - هي الأخرى - داخل القصائد الحديثة، فنرى حضوراً لدواوين «من أعلى بمحاذاة الموسيقى» و«السحابة التي في المرآة»، و«خصام الوردة»، و«بالكاد أعبر الشارع».

ثمة مرتكزان رئيسان في الديوان: الشعر والمرأة، وكلاهما يفضي إلى الآخر، ويسكنه، أو إنهما يندغمان أحياناً ليصيرا شيئاً واحداً، فالمرأة قصيدة متجسدة، والقصيدة امرأة لغوية، وكل منهما تستمد جدارتها من تشكيلها وتفاصيلها المغايرة للمعتاد، وتمثلان معاً الفضاء الآمن للذات، والملاذ من قسوة العالم وحروبه وأوبئته وغباره، فالشعر هو حارس الذات، ومرشدها إذا تعثرت الخطوات في الطريق «ببساطة شديدة أحب شعري/ يحرسني حين أنام/ وحين تتعثر خطوتي في الطريق/ يشدني من أذني ويهتف:/ انتبه... تشعبت قرون المشهد». أما المرأة، فإنها تعيد تشكيل هذه الذات، التي تتماهى معها، وتصير جزءاً من تجلياتها، وتعترف أنها صنيعة هذه الأنوثة: «يمكنني أن أواجه الظلمة برائحتك/ أضحك حين أصطدم بصدى صوتك/ ببقايا ظلك (....) كأن الكلمات كلها تخرج منك/ كأنني محض رائحتك». هكذا تتجلى مركزية كل من الشعر والمرأة في وجود الذات الشاعرة وعالمها، بل تذهب هذه الذات إلى القول إنهما معاً هما العالم، ولا تحقق لهذا العالم من دونهما:

«لا أعرف شكل العالم بلا شعر

لا أطيقه

تماماً مثل جسدي الفارغ منكِ»

هذه المركزية للشعر والمرأة تتجلى جمالياً في استخدام الضمائر على مستوى قصائد الديوان، إذ يغلب استخدام ضمير «أنتِ» المخاطبة، وكأن ثمة حالة حوارية دائمة مع امرأة ما، فتصير القصيدة بيتاً للحب غير المتحقق في الواقع، وفضاء للاتصال المؤجل في الحياة. أما الضمير الآخر الذي يقارب «أنتِ»، فهو ضمير الأنا، وكثيراً ما يكون استخدامه - أيضاً - في مقاربة علاقة الذات بالقصيدة أو بالحب، مقدماً مفاهيمه عن كليهما، فكثير من قصائد الديوان يمكن قراءتها بوصفها «ميتا شعر»، فإذا كانت الأنثى تخلق الذات، فهذه الأخيرة تخلق الشعر، وتكشف عن طبيعة مطبخها الشعري «بوسعي أن أخلق القصيدة/ من منفضة سجائر/ من حفرة عرجاء/ من صرخة فأر»، ولا تتوقف عند هذه الحدود، وتتعداها إلى وصف طبيعة اللغة الشعرية، وانحيازها إلى اللغة التي تولد من رحم الحياة وصخبها ومواضعاتها، وليس من متاحف القواميس والمعاجم، دلالة على انتماء الشعر للعالم، للحركة، للواقع المعيش:

«أكره الألفاظ المحنطة في المعاجم

اللغة حيث أمشي

حيث أرى

حيث ألمس

حيث أحس...

تلتحف قدميّ كعشبة

كبصقة...

كبقعة ضوء

فرت من غبار الرصيف».


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.