تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر الرائد بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير، وكما يقال فالشاعر نسيج وحده. وهذه التجربة الفنية والعميقة تتيح للناقد والقارئ، على حدٍ سواء، الفرصة للولوج إلى عالمه السراني، وربما الإشراقي، وشبه الكابوسي، من مداخل عدة، تشجع على تقديم مقاربات نقدية وثقافية جديدة من زوايا يتفرد بها البريكان وقصيدته معاً.
فمثلما ظل الشاعر في حياته اليومية حبيس بيته، وربما رهين محبسه الأليف، مثل المعري، كما أشار الشاعر نفسه إلى ذلك في إحدى المرات، ظلت قصائده حبيسة أسراره وشعريته.
هذا التعاضل في الكتابة الشعرية، بقدر ما يشكل معضلة شائكة للناقد، فإنه يتيح له إمكانية الحفر عميقاً في الأُسس اللسانية والمعرفية والفلسفية لتجربة الشاعر. والناقد أمام معضلة القراءة وتفكيك شفرات النص الشعري لشعر البريكان يجد نفسه في امتحان عسير وتحدٍ غير مسبوق، ولذا فهو يجتهد في أن يرى ما لا يرى، ما دام يجد نفسه في حضرة شاعر رؤيوي visionary بكل معنى الكلمة.
الشاعر محمود البريكان شاعر إشكالي problematic، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتصالح بسهولة مع العالم الخارجي، ولذا فهو يصطنع له قوة ذاتية وروحية يحتمي بها من الآخر والمجتمع. فهو يعيش بصورة دائمة في حالة اغتراب روحي، حيث نلحظ تماهياً كبيراً بين شخصية الشاعر وشعره. إنه يعاني من «فوبيا» الآخر و«فوبيا» الخارج، معاً، وهذا ما يتجسد بشكل مثير في تجربته الشعرية.
حياة الشاعر وتجربته الشعرية، يعانيان معاً من حالة اغتراب alienation شامل، وهو اغتراب زماني ومكاني وسيكولوجي وفلسفي في آن واحد.
ولذلك لكي يحتمي الشاعر من ضغوط الخارج يصطنع له قوقعة خاصة يتمترس داخها، وهي قوقعة الذات، وقوقعة القصيدة الملغزة، التي تعاني مثل الشاعر حالة انكفاء وإحباط، وخوف يصل حد الرعب من كل شيء. ومثلما كان الشاعر على المستوى الحياتي واليومي يغلق أبوابه أمام الآخرين نراه أيضاً يغلق الأبواب أمام قراء قصائده الذين يضطرون إلى ولوج باب التأويل بحثاً عن الأسرار المخبأة.
شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة، وهو ما يدعو الناقد إلى البحث عن مفاتيح جديدة نقدية وسيميائية قد يتمكن بها من فتح مغاليق قصائد الشاعر، التي تبدو أحياناً عصية على البوح والاستنطاق والاستسلام لمجسات النقد.
وتطفو في قصائد الشاعر ظاهرة الاغتراب كواحدة من ثيمات الشاعر المركزية. واستطاع البريكان بفضل هذه الآلية في الكتابة الشعرية، أن يخلق له عبر كتاباته الشعرية وحياته، أسطورته الخاصة، التي لا تشبه غيرها من الأساطير.
ويمكن أن نعد قصيدته «البدوي» مانيفستو اغترابه.
«ضائع في الزمان
ضائع في العوالم
فاقدٌ للبصيص من الذاكرة
سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها
تائه في زحام المدن».
ويتوسل الشاعر بالرب أن يساعده في استعادة روحه الضائعة وفي استعادة وجهه الغريب:
«هبني الشجاعة» أن أتأمل وجهي الغريب
أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي
لكي أستعيد روائح أرضي
أعني لكي أعثر يوماً على روحي الضائعة
أعني لكي أعبر الفاجعة».
يتقمص البريكان قناع البدوي ومحنته في مواجهة الصحراء والمجهول والضياع، فقد كتب الله ألا يموت هذا البدوي وألا يرى وجهه أحد:
«وجهه الأول المستدير البهي
الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب
وحطت عليه المآسي علاماتها». (المجموعة الكاملة، ص150)
إنه يعيش غربة هذا البدوي الذي رفضته الصحارى والقصور
«أنا هو ذاك
أنا البدوي الذي لفظته الصحارى
الذي رفضته القصور
الذي أنكرته الشموس». (ص150)
في هذه القصيدة التي هي قصيدة قناع، يبحث الشاعر عن اسمه ومسقط رأسه، وقد ضاع منه كل شيء.
وفي قصيدة «حارس الفنار» يتقمص الشاعر شخصية حارس الفنار الذي ينتظر على الشاطئ، دون جدوى، سفينة الأشباح:
«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح». (ص51).
لكنه لا يلمح ظلاً لأي سفينة:
«الأفق الطويل خالٍ وليس هناك ظل سفينة». (ص51).
ويعلن أنه «الشاهد الوحيد» الذي رأى كل المآسي والحروب:
«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى
وقفت مع المساء». (ص53).
ويظل ربما مثل غودو في انتظار عبثي لا نهاية له:
«أنا في انتظار اللحظة العظمى
سينغلق المدار/ سينغلق المدار
الساعة السوداء سوف تُشلُّ تجمد في المدار». (ص54).
وفي قصيدة «تدمير رجل ما» (ص92) يشعر بأنه أمسى غريباً على ذاته، بعد أن ملَّ من الانتظار:
«هنا رجلٌ تم تدميرهُ/ والهب بالسم تفكيرهُ
هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً على ذاته
ففي كل ثانية ينشطر
وما من مدى لانقساماته». (ص92).
وفي إحدى قصائده يتحدث الشاعر عن موت الإنسان في داخله خلافاً لبقية المخلوقات، حيث يقترب هذا الموت بغيبوبة الذكرى:
«وحده يموت في داخله الإنسان
في العالم الباطن
في مركز السريرة الساكن
يموت في غيبوبته الذكرى
يموت في لحظة
يكابد القيامة الكبرى». (ص158).
ينظر البريكان إلى العالم عبر منظور فلسفي شخصي اجترحه لنفسه أداةً ومجساً لسبر غور العالم الخارجي. لذا يمكن أن نصفه بالشاعر المتفلسف أو الشاعر الفيلسوف. فكل المرئيات والوقائع والشخصيات تمر عبر عدسة الفيلسوف الشعرية.
وشعر محمود البريكان مغموس بفلسفة شخصية عميقة هي فلسفة الشاعر في الحياة على وفق قيمه وثقافته وخبرته اليومية، حتى ليمكن أن ندرج شعره ضمن الشعر الفلسفي أو الشعر المتفلسف، أو الشعر الذي يحلق بجناحي الخيال والفلسفة معاً.
لو قيض لشعرية محمود البريكان أن تكتشف وتنتشر في وقت مبكر، قبل السياب، أو بالتزامن معه، ربما لأعيدت كتابة تاريخ حداثة الشعر، وجرى التساؤل حول الريادة في الشعر الحداثي في العراق.
يخيل لي أن تجربة البريكان أعمق وأغزر وأخصب من تجارب الكثير من مجايليه وربما يقف، في هذا، منافساً خطيراً للسياب نفسه، وهو يختلف عن السياب الذي كان يفتقد هذا الانغماس في الهم الفلسفي والرؤيوي والكوني، المجرد أحياناً.
تجربة البريكان تبتعد إلى حدٍ كبير عن النزعة الغنائية، التي وجدناها حاضرة أيضاً في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، فالشاعر ينحو نحو لون من الموضوعية التي دعا إليها في وقت مبكر في مطلع القرن العشرين الشاعر ت. س. إليوت بوصفها أحد أبرز مقومات الحداثة في الشعر. لكن موضوعية البريكان تنحو منحى أسطورياً ورؤيوياً وفلسفياً أيضاً، ولكنها لا تتجاوز الأطر السردية لحكاية الخلق والتكوين، فهي معجونة بهذه الكينونة السرية التي تتلبس كل شيء.
كما نجد لدى الشاعر، من جهة أخرى، ميلاً إلى التجريد واختزال الكائنات والمرئيات إلى علامات مجردة تتلاشى في سيرورة التاريخ والزمن. واللغة التي هي تشكيل علامي تبدو له مخادعة:
«فزعت من خديعة اللغة
هنيهة؟ من ملمس العالم في القرار
وكتلة الموت الهلامية». (ص198،ج1).
في قصيدة «أسطورة حقيقية»، يشعر الشاعر بالغربة المطلقة، حيث تنكره الأشياء، وينكره الواقع، ويبدو طافياً فوق بحيرة ذاكرة آفلة:
«عدت إلى بيتي
فلم أجد بيتي في مكانه المعهود
وهزّ بي الجميع
رؤوسهم
بيت كهذا لم يكن موجوداً
قلت لهم بيتي أمام الشجرة
كان هنا
قالوا جميعاً ولم تكن هناك يوماً شجرة». (ص215).
ويزداد رعب الشاعر وهو يواجه هذا الإقصاء في المكان والزمان، فراح يتساءل بوجع فاجع:
«والآن ماذا ينبغي علي أن أفعل؟
وكيف لي أن أنسف الذاكرة» (ص 213).
ويتساءل الشاعر بخوف فيما إذا كان كل شيء مجرد عبث. فالأسود والأبيض على حدٍ سواء، عواطف الآباء والأمهات، وقوة اللغات، عبث ليس إلا:
«أكان الحزن والفرح
ذاكرة من التاريخ
وقوة اللغات
جميعها عبث؟» (ص223).
يحس الشاعر أحياناً، بأن العالم قد مزقه مزقاً، فقد جاء أناس واقتسموا جسده، وجاء الأصدقاء فسرقوا هويته، وارتدوا ثيابه:
«وجاء أصدقائي
فاختلسوا هويتي
ثم ارتدوا ثيابي». (ص228).
شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة
وفي قصيدة «في إعدام الأبنية» يشعر الشاعر بأنه نسي كل شيء حتى وجهه:
«هل أتذكر بعض الوجوه
هل أتذكر وجهي؟» (ص26).
فالعالم بالنسبة للشاعر مجرد وهم:
«هل يتذكر أحدٌ أحداً
في هذا الأفق المتحرك؟
في هذا العالم
الممحو كوهم؟» (ص261).
وفي قصيدة «ظهور ناقص» يحدد البريكان وظيفة الشاعر السرية،
وحلمه الأبدي، في اقتناص الزمن وتجسيم رؤيته عبر مرايا الزمن:
«إنه حلم الشاعر الأبدي
اقتناص الزمن
أن يجسم رؤيته ودوي عوالمه دفعة واحدة». (ص281).
ومن الثيمات المركزية المهمة في شعر البريكان ثيمة الموت، فكل الأشعار آيلة إلى الموت: الملوك والعبيد والسماسرة كلهم آفلون. ولذا غالباً ما يقترن الاغتراب بالموت:
«الحب والعقاب
دبيب موت خافت ورعشة اغتراب». (ص235).
ويقترن الضياع والاغتراب لدى الشاعر بفقدان الذاكرة، حيث يفقد الشاعر ذاكرته:
«سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها
تائه في زحام المدن
يتعثر في حدقات العيون
عسى أن يرى يوماً صديقاً
قديماً سيعرفه
ويعرّفه باسمه
ويساعده في الوصول إلى بيته
والى أهله الشاحبين». (ص339).
ويتمنى الشاعر أن تأتيه الشجاعة ليتأمل وجهه الغريب:
«هبني الشجاعة أن أتأمل وجهي الغريب
أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي
لكي أستعيد روائح أرضي
أعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة». (ص340).
وأقسى شكل من أشكال الغربة، عند الشاعرعندما يكتشف أنه غريب حتى عن نفسه، ويتحرك بلا وعي أو إرادة:
«مسحوراً بنداء لا يفهمه
منتزعاً في مملكة الأفراح الأرضية
مغترباً حتى عن نفسه
يخطو نحو الباب». (ص348).
ويحتفي البريكان بالأشياء الآفلة، التي تسير نحو الفناء أو التلاشي أو الموت. ففي قصيدة «احتفاء بالأشياء الآفلة» نجد هذا الانشغال بما هو زائل:
«أجمل ما في العالم
مشهده العابر».
ويختتم ذلك بسيرورة الزوال:
«طوبي لك
إن كنت بسيط القلب
فستفهم مجد الأرض».
ثم تأتي الضربة الحاسمة، عندما يعانق الشاعر لحظة الأفول والزوال:
«وجمال أواصر لا تبقى
وسعادة ما هو زائل». (ص358).
يشعر الشاعر هنا أن وجهه لا يشبه أياً من الوجوه، الرجل الذي يحمل هداياه، المريض الداخل غرفة العمليات، الطفل المهزول من الجوع، فهو غريب ولا مكان له في هذا العالم:
«لا يشبهك أحد ولا أمل لك أن تشبه أحداً»
فهو مجرد كائن مُسَجّى، ورقي ليس إلا:
«ليس العالم مكانك،
بل المعجم، فحتى وجهك، ليس هو وجهك». (ص416).
محمود البريكان، مثل طلسم محاط بالأسرار والأقفال، وهو بحاجة إلى جهاز نقدي خاص لتحليل وتفكيك وتأويل شعريته ذات الطبيعة الإشراقية وربما الغنوصية.
محمود البريكان، العصي على الاستكناه، شاعر لم ولن يتكرر في تاريخ الشعرية العراقية، وحان الوقت لكي يستعيد مكانته التي يستحق.

