يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، الصادر عن دار «إضاءات» بالقاهرة، سر جاذبية إرث الشاعر والصوفي الشهير جلال الدين الرومي الذي عاش متنقلاً بين بلاد مختلفة قبل أن يستقر به الحال في تركيا منذ أكثر من سبعة قرون، ولا تزال أصداء أقواله تترد حتى اليوم.
ويُقصد بـ«الخطاب العرفاني» التعبير عن تجارب روحية ذات بعد صوفي باطني تتجاوز الماديات ومشاغل الدنيا والتخفف من أعباء وشهوات الجسد وترويضه لتحقيق رغبة الذات في العلو والاستكبار.
ويشير النورج إلى أنه يمكن على نحو ما من الإيجاز وصف خطاب الرومي بكونه يعتمد على أمرين: التسامح تجاه الآخر الغالب، ومهادنته حتى لا يُكسر نفسياً أمامه في لحظة انهيار عام، ومن هنا تتجلى قدرته على اجتياز حاجز اللغة والثقافة ليذيع صيته في جميع أنحاء العالم، ومن ثم فإن مقولاته باتت أكثر تعاطياً لبساطة التركيب ووضوحه مع لون التمثيل المفرط داخل الخطاب.
وربما تولدت خصوصية تجربته من رحلة الألم والمعاناة لأسباب تاريخية؛ منها اجتياح المغول للبلاد الإسلامية وما خلف ذلك من القتل والدمار، لقد أخذ هذا الحدث اهتماماً بالغاً لدى جلال الدين الرومي ليقدم حلاً لهذه المعضلة بلغة تحمل تحدياً تجاه الألم، فبينما يهرب الإنسان منه ينظر شاعرنا إلى الألم بعدّه ينطوي على شىء إيجابي ويدعو إلى احتضانه ومغالبته واستقباله كلطف من الله تختفي تحته ألوان من القهر.
كذلك يدعو الرومي إلى أن يخرج الإنسان من أسر الزمان، المصدر الثاني للهم والألم الذي يشغله بالماضي والمستقبل، ومن ثم يدعو إلى تحرر الإنسان من ذلك، فلا أحداث فائتة يندم عليها ولا أشياء قادمة تثير قلقه بشكل مبالغ فيه.
والشيء الثالث الذي يميز الرومي، بحسب المؤلف، هو مغالبة الأنا التي تريد العلو والسيطرة والنأي عن بذل الجهد. وعندما يتم التخلص من رغبة الإرادة في السيطرة والظهور يستوي الأخذ مع العطاء ومن ثم يذهب الألم. ويرى الرومي أن المسؤولية الأولى للإنسان هي المقاومة والنضال، سواء داخلياً أو خارجياً، من أجل التخلص من الألم عبر جهاد النفس والسيطرة عليها.
ويدعو الرومي إلى الصبر للتغلب على الألم، والصبر عنده هو «شهوة الأذكياء» و«الحلوى المفضلة لديهم»، كناية عن سهولته والتسليم بقضاء الله مع التفويض والتضرع إليه حتى يأتيه الفرج، لعل هذه المعارف فيها دواء ناجع للتغلب على منغصات الأمور.
وليس هناك أبلغ من تلك القصة التي يذكرها جلال الدين الرومي توضيحاً لمذهبه وطريقته، فيحكي في حكاية «النائم والحية» أن رجلاً كان نائماً تحت ظل إحدى الأشجار وقد فتح فاه، فإذا بحية متجهة نحوه حتى وصلت إليه ودخلت بطنه وهو لا يزال مستغرقاً في النوم. وفي تلك الأثناء صادف أن مر من هناك رجل صالح ممتطياً فرسه ولم يجد الفارس بداً من أن ينهال على النائم ضرباً بعصاه فاستيقظ الأخير وهرع مسرعاً نحو شجرة كان قد سقط تفاحها، فأمره الفارس بأكله حتى التخمة.
وعاد الفارس ليضربه بالعصا مجدداً فاستمر الرجل بالركض وهو يصيح شاكياً: «أيها الجبان لماذا تضربني وتظلمني، فلينتقم الله منك!». وإذا به يتقيأ كل ما في بطنه بما فيه تلك الحية. هنا أدرك الرجل مدى رأفة وشهامة ذلك الفارس الصنديد، فوقف أمامه بكل احترام وتواضع وشكره على لطفه ونسي كل ذلك الضرب المبرح والألم والأنين.
ويرى الرومي في تلك القصة أمثولة وبعداً رمزياً لافتاً حول الخير الذي يأتي في صورة الشر وكيف ينفر المرء من أشياء فيها نجاته، بل يقاومها بقوة ويحارب من يطلقونها، ظناً منه أنهم أعداؤه.
