شاهدت فيلم مارتن سكورسيزي «قتلة قمر الأزهار» في مسرحٍ لم يكن فيه أحد غيري. كنت المشاهد الوحيد فكأنما العرض كان خاصاً لي، لا يشاركني في مشاهدته أحد. وخرجت بعد نهايته وحدي ولم أكن وحدي. كنت واحداً من الذين خرجوا من المسارح السينمائية على امتداد العالم، بعد 206 دقائق من الإمتاع والإدهاش والإثارة. وأظن أنني لم أكن المشاهد الوحيد الذي تَوَلّدَ في داخله شعوٌر بعدم الارتياح من الفيلم وله؛ شعور لوّث المتعة والدهشة قليلاً.
ذهبت إلى السينما بقليل من معرفةٍ ومعلوماتٍ عن بعض «الأحداث» المحاور في قصة الفيلم؛ معرفة استقيتها من بعض تاريخ وأدب وكتابات عدد من سكان أميركا الأصليين، ومن كتاب ديفيد غران «قتلة قمر الأزهار»، وكانت تحوم في ذهني أسئلة تتعلق بالـ«كيف»، بالخطاب السردي/ بكيفية تسريد سكورسيزي للتآمرات والجرائم والفظائع التي تعرضت لها قبيلة أوسيج في أوكلاهوما في عشرينات القرن الماضي. هذا ما كان يهمني أكثر من الأحداث. لم أتساءل عمّن سيكون في المركز، ومن في الهامش. كان ذلك محدداً ومعروفاً منذ إعلان مشاركة روبرت دي نيرو، وليوناردو دي كابريو في الفيلم. يبدو أنه لا يمكن تصور فيلم هوليوودي بدون نجم أو نجوم، ولا يمكن تصورُ وجود نجوم في الهامش، يعيشون في أطراف العوالم الخيالية في أفلامها.
في بداية الأمر، فكرت في الكتابة عن الفيلم، عن تجربة مشاهدته وانطباعاتي وما يمكن اعتباره رأيي النقدي فيه، ثم قررت إرجاء ذلك إلى ما بعد المتابعة عن بُعْد لِمَا يُحْدِثُه من ترددات وأصداء، وما يثيره من تفاعلات وآراء في مجتمعات السكان الأصليين. أعتقد أن فترة ما بعد هدوء الضجة الإعلامية حول «الأوسكار»، وتَبَيُّنِ من فاز ومن لم يفز، وسقوط فيلم سكورسيزي من قائمة الأفلام الفائزة بجوائز «الأوسكار»، هي الوقت المناسب للكتابة المؤجلة. ولكن الفكرة تغيرت من مقاربة نقدية للفيلم، إلى كتابة تنقل وتعرض انطباعات وآراء مواطنين أصليين.
شكلت التصريحات وردود الأفعال في المجتمعات الأصلية تجاه الفيلم طيفاً من المواقف والآراء المتباينة، يمكن إجمالها في ثلاثة أنواع: تصريحات عن تجربة مشاهدة الفيلم، وأخرى بالإعجاب والإشادة بالفيلم والمخرج، وأخرى انتقادية. سأكتفي بالكتابة عن النوعين الثاني والثالث.
إشادة وتقدير
«قتلة قمر الأزهار» يُقدم الحقيقة عاريةً بتصويره الفظائع والمظالم التي ارتُكبت بحق أمة أوسيج، يقول جيفري ستاندنغ بير، رئيس أمة أوسيج، في تصريح يعود إلى 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إن الفيلم قصة أمة أوسيج عن الثقة والخيانة كما أخرجه مارتن سكورسيزي. ويضيف ستاندنغ بير أن المرء يحتاج إلى معرفة أنها قصة حقيقية عن موت العديد من الأوسيج وتغير أشجار عائلات إلى الأبد، بالإضافة إلى تعريته الحقيقة. ويرى رئيس أمة أوسيج أن «قتلة قمر الأزهار» يشكل تحدياً للتاريخ حتى لا يتكرر.
وتحدثت جيانا سيكي، أميرة أمة أوسيج من 2021 - 2023، عن صعوبة التاريخ الذي يصوره «قتلة قمر الأزهار»، فهو يروي تاريخهم المظلم، كما تقول، بالإضافة إلى تضمنه أشياء وحقائق أخرى مجهولة لا يعرفها ولا يتكلم عنها أحد. و«أميرة أوسيج» لقب ممثلة أمة أوسيج في المعرض الهندي الأمريكي الذي يقام في أغسطس (آب) من كل عام في أناداركو في أوكلاهوما، ويستمر لمدة أسبوع. وتقول سيكي إنه بسبب تمثيله لأحداث لا تَرِدُ في أحاديث الناس، أو نادراً ما ترد، كان للفيلم تأثير عظيم حقاً.
مآخذ وانتقادات
كتابة جزء في المقالة لعرض انتقادات للفيلم من فنانين ونقاد وأكاديميين من السكان الأصليين، لا تعني بالضرورة أن تلك الانتقادات وردت منفصلةً دائماً في أحاديث وتصريحات ومقالات خالية من التقدير لسكورسيزي والإشادة بفيلمه. ولكنها (الانتقادات) كانت الملمح الغالب في السياقات التي وردت فيها. نقطة أخرى يتعين توضيحها، أيضاً، هي أنني أركز على عرض الانتقادات ووجهات النظر دون الإشارة إلى أصحابها، أي لا أذكر الأسماء والمصادر لكثرتها ولتعددها، وأكتفي بعرض الآراء المتكررة، التي شكلت نقاط تقاطع والتقاء لوجهات النظر بين نقاد الفيلم. أستثني منهم لِصِلَتِه المباشرة بالفيلم كونه ممن اشتغلوا عليه، كريستوفر كوت، مستشار لغة أوسيج لـ«قتلة قمر الأزهار».
في حديثة لـ«هوليوود ريبورتر» في 19 أكتوبر 2023، يشيد كوت بسكورسيزي لقيامه بعمل رائع في تصويره للاستغلال والجرائم اللذين تعرض لهما الأوسيج على يد الأميركان البيض. لكن الفيلم، حسب كوت، يقدم تاريخاً مروياً تقريباً من وجهة نظر إرنست بوركهات (ليوناردو دي كابريو)، الذي اجتمع فيه «الحب» لمولي مع المؤامرة، على نحو غير معقول ويصعب تصديقه، لأنه عندما يتآمر شخص على قتل عائلتك فإن ذلك ليس حباً، حسب كوت. ويذكر أنه كان يتمنى لو كان الفيلم يروي القصة من وجهة نظر مولي، ثم يستدرك قائلاً لكن هذا يتطلب مُخْرِجاً من أمة أوسيج. تبدو الممثلة ليلي غلادستون (مولي بوركهارت) وكأنها تَرُدُّ على كوت بقولها: «لا أحد سوف يُسَلِّم 200 مليون دولار لصانع أفلام من أوسيج» في حوار لمجلة «بريتيش فوغ».
غياب السياق التاريخي
وأشاد آخرون بالفيلم لإسقاطه الضوء على فترة حرجة من تاريخ أمة أوسيج بمشاركة ممثلين من السكان الأصليين، وفي الوقت ذاته، انتقدوا غياب السياق التاريخي فيه. فعلى الرغم من تصويره جرائم قتل حقيقية ووحشية بهدف رفع الوعي بالاضطهاد والعنف اللذين طالا المجتمعات «الهندية» الأميركية، فإنه يخلو من أي رسالة أو إشارة تلفت الانتباه إلى أن العنف الذي استهدف أمة أوسيج لم يكن بسبب الجشع الفردي فحسب، بل كان نتيجة الحط والاحتقار الممنهجين لقيمة حياة السكان الأصليين الذين يعيشون تحت نير الاستعمار. لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني، بكل أنواعه وتجلياته، يستهدف أسرة واحدة أو قبيلة واحدة، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية، كما أن قصته لم تبدأ ولم تنته في العشرينات من القرن العشرين.
وامتداداً لفكرة إغفال السياق التاريخي للأحداث، أشار آخرون إلى أنه لا يولي اهتماماً كبيراً بتأسيس سياق الظروف التي لعبت دوراً في حدوث جرائم القتل؛ فسياسة الحكومة الفيدرالية للتخصيص وتكريس البيروقراطية جعلا الموارد الطبيعية المحلية متاحة لغير الأوسيج، وغير السكان الأصليين. ولا يتضمن، أيضاً، أي توضيح لكيفية اختيار وتعيين أوصياء من البيض على الأوسيج، وكيف استطاع أولئك الأوصياء سرقة ملايين الدولارات منهم. لقد أشرع قانون التخصيص 1906 الباب لدخول البيض إلى الأرض التي لم تعد محمية، وفي ظله دُشِّن نظام الأوصياء، فكان منهم المستغلون والسارقون والقتلة. ثمة اعتراف بأن «قتلة قمر الأزهار» يصورُ الأوصياء قتلةً، بيد أنه يخلو من أي تفسير لكيفية نشوء الظاهرة ودور الكونغرس فيها بتمريره قانون التخصيص. ويرى هؤلاء النقاد أن الفيلم غير دقيق في تصويره للتاريخ والنظام الذي أدى إلى حدوث الكارثة.
لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني يستهدف قبيلةً واحدةً، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية
التنميط وبناء الشخصيات
بناء الشخصيات الأوسيجية أحد العناصر التي لفتت انتباه بعض نقاد الفيلم. تصف ناقدة وكاتبة مسرحية من أمة شيروكي أداء الممثلين بأنه مذهل للغاية؛ لكن تنتقد السيناريو لأنه لم يعطِ مولي بوركهارت المزيد من الفاعلية والعمق ومنحنى الشخصية «character arc»؛ فشخصيتها لم تتطور بشكل كامل مثل نظرائها. وعلق آخرون بأنه على الرغم من نجاح سكورسيزي في النأي عن الصورة النمطية أو ما يعرف بـ«هندي هوليوود»، فإنه لم يذهب بعيداً جداً، فشخصية مولي والشخصيات الأوسيجية الأخرى نمطية مقارنةً بالشخصيات البيضاء. وعبرت ناقدة من «أمة غيتسان» عن خيبة توقعاتها بأن يصور الفيلم أمة أوسيج كشعب لم يسقط بدون قتال، يدافعون عن أنفسهم، ولا ينتظرون منقذاً أبيض ليدافع عنهم.
و«قمر الأزهار/ the flower moon» الاسم الذي يطلقه شعب أوسيج وشعوب أصلية أخرى، في الولايات المتحدة وكندا، على «البدر» في شهر مايو (أيار) فقط وليس في كل الشهور، فلكل بدر من كل شهر اسمه الخاص. لذا من الممكن تسمية الفيلم «قتلة بدر الأزهار»، ويسمى مايو «قمر الأزهار» أيضاً. ففي 24 مايو 1921، بدأت مولي بوركهارت، من سكان بلدة مستوطنة أوسيج «غري هورس»، أوكلاهوما، تتوجس خيفة من حدوث شيء ما لإحدى شقيقاتها الثلاث (آنا براون). وأُفَضِّلُ «قتلة قمر الأزهار»، لدلالاته الثقافية، ترجمةً لعنوان الفيلم بدلاً من «قتلة زهرة القمر».
ناقد وكاتب سعودي