«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

لم يفز بـ«أوسكار» ولم ينل رضا كل سكان أميركا الأصليين

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟
TT

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

«قتلة قمر الأزهار»... هل صوّر حقاً معاناة السكان الأصليين في أميركا؟

شاهدت فيلم مارتن سكورسيزي «قتلة قمر الأزهار» في مسرحٍ لم يكن فيه أحد غيري. كنت المشاهد الوحيد فكأنما العرض كان خاصاً لي، لا يشاركني في مشاهدته أحد. وخرجت بعد نهايته وحدي ولم أكن وحدي. كنت واحداً من الذين خرجوا من المسارح السينمائية على امتداد العالم، بعد 206 دقائق من الإمتاع والإدهاش والإثارة. وأظن أنني لم أكن المشاهد الوحيد الذي تَوَلّدَ في داخله شعوٌر بعدم الارتياح من الفيلم وله؛ شعور لوّث المتعة والدهشة قليلاً.

ذهبت إلى السينما بقليل من معرفةٍ ومعلوماتٍ عن بعض «الأحداث» المحاور في قصة الفيلم؛ معرفة استقيتها من بعض تاريخ وأدب وكتابات عدد من سكان أميركا الأصليين، ومن كتاب ديفيد غران «قتلة قمر الأزهار»، وكانت تحوم في ذهني أسئلة تتعلق بالـ«كيف»، بالخطاب السردي/ بكيفية تسريد سكورسيزي للتآمرات والجرائم والفظائع التي تعرضت لها قبيلة أوسيج في أوكلاهوما في عشرينات القرن الماضي. هذا ما كان يهمني أكثر من الأحداث. لم أتساءل عمّن سيكون في المركز، ومن في الهامش. كان ذلك محدداً ومعروفاً منذ إعلان مشاركة روبرت دي نيرو، وليوناردو دي كابريو في الفيلم. يبدو أنه لا يمكن تصور فيلم هوليوودي بدون نجم أو نجوم، ولا يمكن تصورُ وجود نجوم في الهامش، يعيشون في أطراف العوالم الخيالية في أفلامها.

في بداية الأمر، فكرت في الكتابة عن الفيلم، عن تجربة مشاهدته وانطباعاتي وما يمكن اعتباره رأيي النقدي فيه، ثم قررت إرجاء ذلك إلى ما بعد المتابعة عن بُعْد لِمَا يُحْدِثُه من ترددات وأصداء، وما يثيره من تفاعلات وآراء في مجتمعات السكان الأصليين. أعتقد أن فترة ما بعد هدوء الضجة الإعلامية حول «الأوسكار»، وتَبَيُّنِ من فاز ومن لم يفز، وسقوط فيلم سكورسيزي من قائمة الأفلام الفائزة بجوائز «الأوسكار»، هي الوقت المناسب للكتابة المؤجلة. ولكن الفكرة تغيرت من مقاربة نقدية للفيلم، إلى كتابة تنقل وتعرض انطباعات وآراء مواطنين أصليين.

شكلت التصريحات وردود الأفعال في المجتمعات الأصلية تجاه الفيلم طيفاً من المواقف والآراء المتباينة، يمكن إجمالها في ثلاثة أنواع: تصريحات عن تجربة مشاهدة الفيلم، وأخرى بالإعجاب والإشادة بالفيلم والمخرج، وأخرى انتقادية. سأكتفي بالكتابة عن النوعين الثاني والثالث.

إشادة وتقدير

«قتلة قمر الأزهار» يُقدم الحقيقة عاريةً بتصويره الفظائع والمظالم التي ارتُكبت بحق أمة أوسيج، يقول جيفري ستاندنغ بير، رئيس أمة أوسيج، في تصريح يعود إلى 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إن الفيلم قصة أمة أوسيج عن الثقة والخيانة كما أخرجه مارتن سكورسيزي. ويضيف ستاندنغ بير أن المرء يحتاج إلى معرفة أنها قصة حقيقية عن موت العديد من الأوسيج وتغير أشجار عائلات إلى الأبد، بالإضافة إلى تعريته الحقيقة. ويرى رئيس أمة أوسيج أن «قتلة قمر الأزهار» يشكل تحدياً للتاريخ حتى لا يتكرر.

وتحدثت جيانا سيكي، أميرة أمة أوسيج من 2021 - 2023، عن صعوبة التاريخ الذي يصوره «قتلة قمر الأزهار»، فهو يروي تاريخهم المظلم، كما تقول، بالإضافة إلى تضمنه أشياء وحقائق أخرى مجهولة لا يعرفها ولا يتكلم عنها أحد. و«أميرة أوسيج» لقب ممثلة أمة أوسيج في المعرض الهندي الأمريكي الذي يقام في أغسطس (آب) من كل عام في أناداركو في أوكلاهوما، ويستمر لمدة أسبوع. وتقول سيكي إنه بسبب تمثيله لأحداث لا تَرِدُ في أحاديث الناس، أو نادراً ما ترد، كان للفيلم تأثير عظيم حقاً.

مآخذ وانتقادات

كتابة جزء في المقالة لعرض انتقادات للفيلم من فنانين ونقاد وأكاديميين من السكان الأصليين، لا تعني بالضرورة أن تلك الانتقادات وردت منفصلةً دائماً في أحاديث وتصريحات ومقالات خالية من التقدير لسكورسيزي والإشادة بفيلمه. ولكنها (الانتقادات) كانت الملمح الغالب في السياقات التي وردت فيها. نقطة أخرى يتعين توضيحها، أيضاً، هي أنني أركز على عرض الانتقادات ووجهات النظر دون الإشارة إلى أصحابها، أي لا أذكر الأسماء والمصادر لكثرتها ولتعددها، وأكتفي بعرض الآراء المتكررة، التي شكلت نقاط تقاطع والتقاء لوجهات النظر بين نقاد الفيلم. أستثني منهم لِصِلَتِه المباشرة بالفيلم كونه ممن اشتغلوا عليه، كريستوفر كوت، مستشار لغة أوسيج لـ«قتلة قمر الأزهار».

في حديثة لـ«هوليوود ريبورتر» في 19 أكتوبر 2023، يشيد كوت بسكورسيزي لقيامه بعمل رائع في تصويره للاستغلال والجرائم اللذين تعرض لهما الأوسيج على يد الأميركان البيض. لكن الفيلم، حسب كوت، يقدم تاريخاً مروياً تقريباً من وجهة نظر إرنست بوركهات (ليوناردو دي كابريو)، الذي اجتمع فيه «الحب» لمولي مع المؤامرة، على نحو غير معقول ويصعب تصديقه، لأنه عندما يتآمر شخص على قتل عائلتك فإن ذلك ليس حباً، حسب كوت. ويذكر أنه كان يتمنى لو كان الفيلم يروي القصة من وجهة نظر مولي، ثم يستدرك قائلاً لكن هذا يتطلب مُخْرِجاً من أمة أوسيج. تبدو الممثلة ليلي غلادستون (مولي بوركهارت) وكأنها تَرُدُّ على كوت بقولها: «لا أحد سوف يُسَلِّم 200 مليون دولار لصانع أفلام من أوسيج» في حوار لمجلة «بريتيش فوغ».

غياب السياق التاريخي

وأشاد آخرون بالفيلم لإسقاطه الضوء على فترة حرجة من تاريخ أمة أوسيج بمشاركة ممثلين من السكان الأصليين، وفي الوقت ذاته، انتقدوا غياب السياق التاريخي فيه. فعلى الرغم من تصويره جرائم قتل حقيقية ووحشية بهدف رفع الوعي بالاضطهاد والعنف اللذين طالا المجتمعات «الهندية» الأميركية، فإنه يخلو من أي رسالة أو إشارة تلفت الانتباه إلى أن العنف الذي استهدف أمة أوسيج لم يكن بسبب الجشع الفردي فحسب، بل كان نتيجة الحط والاحتقار الممنهجين لقيمة حياة السكان الأصليين الذين يعيشون تحت نير الاستعمار. لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني، بكل أنواعه وتجلياته، يستهدف أسرة واحدة أو قبيلة واحدة، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية، كما أن قصته لم تبدأ ولم تنته في العشرينات من القرن العشرين.

وامتداداً لفكرة إغفال السياق التاريخي للأحداث، أشار آخرون إلى أنه لا يولي اهتماماً كبيراً بتأسيس سياق الظروف التي لعبت دوراً في حدوث جرائم القتل؛ فسياسة الحكومة الفيدرالية للتخصيص وتكريس البيروقراطية جعلا الموارد الطبيعية المحلية متاحة لغير الأوسيج، وغير السكان الأصليين. ولا يتضمن، أيضاً، أي توضيح لكيفية اختيار وتعيين أوصياء من البيض على الأوسيج، وكيف استطاع أولئك الأوصياء سرقة ملايين الدولارات منهم. لقد أشرع قانون التخصيص 1906 الباب لدخول البيض إلى الأرض التي لم تعد محمية، وفي ظله دُشِّن نظام الأوصياء، فكان منهم المستغلون والسارقون والقتلة. ثمة اعتراف بأن «قتلة قمر الأزهار» يصورُ الأوصياء قتلةً، بيد أنه يخلو من أي تفسير لكيفية نشوء الظاهرة ودور الكونغرس فيها بتمريره قانون التخصيص. ويرى هؤلاء النقاد أن الفيلم غير دقيق في تصويره للتاريخ والنظام الذي أدى إلى حدوث الكارثة.

لم يكن عنف المستعمر الاستيطاني يستهدف قبيلةً واحدةً، بل طال مئات القبائل على امتداد القارة الأميركية

التنميط وبناء الشخصيات

بناء الشخصيات الأوسيجية أحد العناصر التي لفتت انتباه بعض نقاد الفيلم. تصف ناقدة وكاتبة مسرحية من أمة شيروكي أداء الممثلين بأنه مذهل للغاية؛ لكن تنتقد السيناريو لأنه لم يعطِ مولي بوركهارت المزيد من الفاعلية والعمق ومنحنى الشخصية «character arc»؛ فشخصيتها لم تتطور بشكل كامل مثل نظرائها. وعلق آخرون بأنه على الرغم من نجاح سكورسيزي في النأي عن الصورة النمطية أو ما يعرف بـ«هندي هوليوود»، فإنه لم يذهب بعيداً جداً، فشخصية مولي والشخصيات الأوسيجية الأخرى نمطية مقارنةً بالشخصيات البيضاء. وعبرت ناقدة من «أمة غيتسان» عن خيبة توقعاتها بأن يصور الفيلم أمة أوسيج كشعب لم يسقط بدون قتال، يدافعون عن أنفسهم، ولا ينتظرون منقذاً أبيض ليدافع عنهم.

و«قمر الأزهار/ the flower moon» الاسم الذي يطلقه شعب أوسيج وشعوب أصلية أخرى، في الولايات المتحدة وكندا، على «البدر» في شهر مايو (أيار) فقط وليس في كل الشهور، فلكل بدر من كل شهر اسمه الخاص. لذا من الممكن تسمية الفيلم «قتلة بدر الأزهار»، ويسمى مايو «قمر الأزهار» أيضاً. ففي 24 مايو 1921، بدأت مولي بوركهارت، من سكان بلدة مستوطنة أوسيج «غري هورس»، أوكلاهوما، تتوجس خيفة من حدوث شيء ما لإحدى شقيقاتها الثلاث (آنا براون). وأُفَضِّلُ «قتلة قمر الأزهار»، لدلالاته الثقافية، ترجمةً لعنوان الفيلم بدلاً من «قتلة زهرة القمر».

ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر
TT

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

يستحضر الشاعر محمود سيف الدين صورة المغنية الفرنسية إديث بياف، ويسمي بها ديوانه «مرآة جديدة لإديت بياف»، وفي ظلال هذه الصورة المراوغة يتكثف فضاء الشجن والحزن في الديوان، بخاصة أن الحزن كان سمة لافتة في مسيرة هذه الفنانة التي تقلبت ما بين الفقر والتشرّد حتى تربعت على عرش الشهرة والمجد، ولقبت بأيقونة الغناء الفرنسي في ستينيات القرن الماضي، وحفزت أغنياتها روح المقاومة للاحتلال الألماني لبلادها إبان الحرب العالمية الثانية، وبالتوازي يستحضر عبر فصله الثاني «في حب الكوكب» صورة كوكب الشرق أم كلثوم، التي تربعت على عرش الغناء العربي أيضاً، ويتناص مع أغانيها في نسيج أغلب القصائد.

تحضر إديث بياف عبر نص وحيد في الديوان، وفي واقع مضطرب يختلط فيه الحزن بعبثية الحياة، بينما تمرح الذات الشاعرة بطفولة في أجواء أغاني أم كلثوم، وتكاد ترقص على إيقاعها، كأن ثمة فجوةً بين الصوتين، لم تنشغل بها الذات الشاعرة، أو تستثمرها شعرياً، في شكل حوار بينهما، الذي تعززه وتحيل إليه ظروف النشأة والروافد المتشابهة بينهما في الكفاح من أجل الفن، علماً بأن بياف أطلق عليها أحد الكتاب الفرنسيين «أم كلثوم فرنسا».

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أراد الشاعر من وراء ذلك أن يحرر الصورتين معاً من محنة الإطار، ويجعل الغناء بمحمولاته الرمزية المغوية يسبح في هواء الديوان والحياة، تاركاً له حرية تشكيل العلاقة مع صورتيهما، ومع صور أخرى لأغانٍ شهيرة في أفلام سينمائية كلاسيكية يتناص معها الديوان، كأنها روح لحكاية ما، معلقة في فضاء الغرابة التي تشيع دلالتها في أجواء الديوان بطرائق فنية متنوعة تبرز على نحو لافت في بنية الصورة وإيقاع المشهد المسكون دائماً بفعل التذكر والحنين للماضي. فتحت مظلة الغرابة التي تتأرجح بثقلها وخفتها، ما بين الظن واليقين، يتكشف الشعر لنفسه، وتتخفف الأنا اللاهثة بين ضميري المتكلم والمخاطب، من شوائب الاستطراد والتبرير، وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات، ومفتاحاً لطرق أبواب العالم المسكون بها، ما يمنح المشهد الشعري حيوية لافتة في النظر إلى الطبيعة والتعامل مع العناصر والأشياء بإيقاعها اليومي الرتيب المباغت... يطالعنا هذا في نص «مرآة جديدة لإديث بياف»، الذي يمهد له الشاعر بنص يسبقه بعنوان «ضوء مبهم في الكراس» يلعب فيه على وتر الطفولة القصية ومحنة الحلم الدائم بها، فيما يأتي نص «بياف» لطشةً مأساويةً ومرثيةً لمشهد كأنه الأخير على مسرح الحياة... يقول النص الذي وسم عنوان الديوان:

لأنَّ يَدَ الرَّبيعِ مَغلُولةٌ إلى عُنقِهِ

الأيامُ البذيئة تمرُّ من الفتنةِ إلىَ الهَمَجِيَّةِ

وَالأغْنِيَةُ تَنهَارُ بَينَ يَديْنا فِي شِتَاءٍ مَا

المُسعِفُونَ دَائماً فِي الطَّريِقِ

لكنَّهُم لا يَصِلُوُنَ

قلبَانِ فِي نَحِيبٍ يَختَلِطُ مَعَ المطر

هَمْسٌ نَاءٍ وبكاءٌ نَحِيلٌ

وَقتٌ يتقلّصُ

حَيثُمَا نَذهَبُ هُنَاكَ طَوقٌ لأَلعَابِ الهَوَاءِ المَجنُونَةِ

ونَحنُ حَللنَا بهَيئَةٍ تَلعَبُ عَلَى صَخرَةِ اللوْنِ

مُوسِيقَى أخرَى

الأيَّامُ التِي لا نَعرِفُ سِوَاهَا

تُشبهُ فرصةً أخيرةً للوقوفِ على المَسرَحِ.

الحَياةُ ورديّةٌ في الزِّحَامِ المُتلاشْ

الطبيعةُ لا تكفُّ عن الثرثرةِ

الفوضى جُرحٌ هادئٌ في القلبِ

أوَدُّ لو أبصقُ قلبي مرةً

صرخة مُجَرَّدَة

كأنَّ المَدِينةَ ربّةُ الحَربِ

سهمٌ في قبضةٍ هُلامِيَّةٍ

لمَاذا إذن..

نَعتَنِي بالشَّمسِ البَعِيدَةِ عنْ أطرافِ أصَابِعِنَا

عَجينةُ الحبِّ نحنُ والشوارعُ تخبزُ عُيونَنَا

الحبُ الذي نجهلُ ضيَّعَنا

لم يُكلِّف خَاطِراً واحِداً للمُخَاطَرةِ

انْحِنَاءَةُ الطريقِ كاسْتِوَائِهَا

المُجونُ والظُّنونُ

إنها الأرضُ التِي نَظَرَتْ فِي مِرآتِهَا طَوِيل

وشَاهَدتْ فِي كلِّ مرةٍ

شبحاً جميلاً لإديث بياف

عيناً شَاخِصَةً... وحَنجَرةً

تختلط الغرابة باللوعة والأسى والإحساس بالفقد والوحدة، وتبدو إديث بياف التي لم يبق منها سوى «عين شاخصة وحنجرة» كأنها صدى لمرآة الأرض الأكثر اتساعاً ورسوخاً... فيما تومض صورة أخرى خافتة في الظل تبحث فيها الذات الشاعرة عن كينونتها ومرآتها الهاربة في غبار الأيام والفوضى والزحام والجنون، وكأنها تتعثر في حلم مشدود دائماً إلى الماضي، تحاول استعادته بقوة الشعر، وفي الوقت نفسه، تستأنس الغرابة وتلعب معها، كأرجوحة من أراجيح الطفولة والصبا والوجود... يقول في نص بعنوان «مباغتة» تتحول فيه الذات إلى مرآة للآخر:

انظرْ للطَّريقِ بعَينيكَ القَديمَتَينِ

اللَّتينِ تَركتُهُمَا جِوَار كوْمَةٍ منْ ألعَابِ الصِّبَا

تذكرْ؟

كنتَ مُتَعَجِّلاً وَقتَهَا

قَفزتَ إلى القِطَارِ البِلاسْتِيكِي

ولمْ يزَلْ فِي حِجرِكَ

أفلتَّ المَكابِحَ،

وأطلقْتَ نَفيرَ الشَّقَاوَةِ فِي أّذُنِ الأَرضِ

أرقتَها بأظفَارٍ نَبَشَتْ وَجهَ السَّفرِ

وعَبرَ هَذِهِ اللُّعبَةِ القَديمَةِ يَا هَذَا

بَاغَتتَكَ الأيَّامُ....

وجِئتَ إلىَ هُنَا

ببساطة شديدة ولغة سلسلة يتعامل الشاعر مع الغرابة، يرسم صورته وملامحه في ظلالها بلا تعقيدات ومفارقات شاسعة، فالغرابة تتراءى دائماً كصنو للحلم، صنو للأثر والحكاية، تشد الحواس والخيال إلى أفق أبعد وأعمق، مما يساهم في كسر منطق العلاقات التراتبية للزمن والأشياء، بحثاً عما يثير الدهشة وفي الوقت نفسه يثير الغرابة بشكل جديد... فلا بأس أن يرسم الشاعر باسمها هذه الصورة لنفسه التي تطالعنا في نص بعنوان «أحوال» يبدو فيه الشغف والحنين إلى المكان:

رأيتُني بائعَ عرقسوسٍ

في حيٍّ شعبيّ

كلمّا أملتُ الآنيةَ بعيداً عن الأكوابِ

تهدّلت قصائدُ للمِلاءَاتِ اللَّفِ

ونوافذِ العصرِ

والمشربياتِ

رأيتُني ربَابةً فوقَ كَتِفٍ جَنُوبِيِّ

ويداً تلوِّحُ فوقَ حبائلِ الصوتِ

لجدرانٍ تَحكِي مَا فَاتَ

رأيتُني نشيداً سَاحِلياً

على امتدادِ الشاطِئ

تتخفف الأنا اللاهثة في الديوان بين ضميري المتكلم والمخاطب من شوائب الاستطراد والتبرير وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات

الغرابة لا منطق لها، كل ما تفعله رجرجة الجسد وخطف العين إلى ما وراء المشهد، وما يتناثر في طوايا الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه توفر فضاءً حيوياً للذات مفتوحاً على براح التخييل، تتصالح في ظلاله مع نفسها وضعفها وهشاشتها، متجنبة الاصطدام بالواقع والعالم الموحش من حولها. هنا تبزغ نقطة التلاقي العصية بينها وبين الشعر، وعلى نحو مكثف ومقطّر في الجزء الثالث الذي يشكل ختام الديوان بعنوان «زفرات معلّقة»، تتسرب كومضات شاردة في أصابع الزمن، وفي لطشات سريعة خاطفة تومض في شكل رسائل برق لا تتجاوز بضعة أسطر، مشكلة ما يمكن تسميته «خلاصة دفتر أحوال الغرابة»، ومنها: أنتيكة، في البدأ، فانوس سحري، لعبة، وفيها يقول:

الهَوَاءُ يَمُرُّ عَبرَ رِئَتِيْ هَذَا المِيزَانِ القَدِيمِ،

الرُّوُحُ فَوقَ كفَّةٍ والجَسَدُ فِي أُخرَىَ

تتأرجَحَانِ بلا وَازِعٍ من إرادَةٍ

وقَفَ أحدُهم فِي قَارِعَةِ السُّوقِ

يَكشِطُ الصَّدأَ مِنْ رَأسِ الزَّمَنِ ويُنَادِي:

مَنْ يَشتَرِي هَذِه الأنتِيكَةَ المُبهِجَة؟

...

الأعينُ الرَّمَادِيَّةُ

التِي سَالتْ منْ أقلامِنَا بيومٍ غَائِمٍ،

كَانتْ فِي البَدءِ عَصَافِيرَ ارتَعَدَتْ

فوقَ أسْلاكِ الكَهربَاءِ.

...

قلبُ الشعرِ فانوسٌ سحريّ

كُلّما مَسَسْتَ جِدَارَه

بلحظةٍ منتحبةٍ

أيقظتَ عِفرِيِتاً

يروي تبدّلَ الأيَّام

هكذا، تقف الغرابة في هذا الديوان الشيق على حافة الحلم بالشعر، بالحب، بالانعتاق من فوضى العالم والاشياء والذكريات، بحثاً عن معنى حقيقي في مرآة الجمال والحرية.