«مطعم فيصل»... ستون عاماً من النضال الثقافي

كتاب يوثق لسيرة مكان تجاوزت شهرته لبنان

«مطعم فيصل»... ستون عاماً من النضال الثقافي
TT

«مطعم فيصل»... ستون عاماً من النضال الثقافي

«مطعم فيصل»... ستون عاماً من النضال الثقافي

مع خفوت نجم المقاهي الثقافية في المنطقة العربية، وبشكل خاص في بيروت، التي عرفت الظاهرة الكبرى اعتباراً من منتصف القرن الماضي، يأتي كتاب «مطعم فيصل» لمؤلفته إيمان عبد الله (دار نلسن) ليعيد إلى الذاكرة حكاية مكان ليس ككل الأمكنة. فهذا المقهى البيروتي الذي كان مطعماً أيضاً تجاوزت شهرته لبنان، لينال صيتاً عربياً. ورغم مرور عقود على إغلاقه لا يزال ما دار في أروقته والدور الذي لعبه وأنشطة رواده تشغل الكتّاب والمؤرخين لإعادة قراءة فترة ذهبية عاشتها العاصمة اللبنانية، احتضنت خلالها أسماء ستصبح فيما بعد نجوماً في عالم الأدب والسياسة والفكر.

«مقهى فيصل» أو «مطعم الثوار» كما أسماه سمير صنبر، جاءت أهميته في البدء من موقعه، مقابل البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية في بيروت، وتدريجياً، رغم وجود العديد من المقاهي المجاورة، أصبح امتداداً للحركات الفكرية والسياسية التي كانت تدور في أروقته بين الأساتذة والطلاب. أما لماذا كان هذا المقهى تحديداً هو الأوفر حظاً، والأحب إلى قلوب النخبة اللبنانية، والعربية التي تتلمذت في بيروت، أو مرت بها؟ فهذا ما يكشف عنه الكتاب، الذي يصدر في بيروت، بعد أيام. عوامل عديدة، إضافة للموقع الجغرافي، كانت وراء هذا النجاح، الذي سكن الذاكرة الجمعية. هناك شخصية صاحب المقهى توفيق، وبعده ابنه فريد؛ إذ تميّزا بالعمل الدؤوب والكرم والحنان المرافقَين للصرامة في التعاطي مع الطلّاب، ثم هناك النوادل الذين يُروى عن حسن تعاملهم الكثير، وكذلك طيب المأكولات، وخصب المناخ، وسعة الصدر.

يقول الزميل سمير عطا الله في مقدمته للكتاب عن «مقهى فيصل»: «أصبح شيئاً يتمنى الكثيرون الانتساب إليه كأنهُ نادٍ صحافيٍّ مغلق، أو كأنهُ جمعية أهل القلم، أو أنه ملتقى الأفكار والتيارات السياسية التي إما يحملها العرب من بيروت إلى أوطانهم، أو من أوطانهم إلى بيروت، حيث انفتاح المنابر وسماع الأفكار». في «مقهى فيصل»، كانت تُكتب لعقود البيانات السياسية، وتنطلق المظاهرات الاحتجاجية، وتُدبّج القصائد، وتُصحح المسرحيات، وتكتمل المخطوطات الأولى للكتب، وتُحفظ الأناشيد وتُصاغ الشعارات.

مؤسس المطعم/ المقهى توفيق سعاده، أتى من قرية عين عنوب، لقب عائلته فيصل، ومن هنا جاء اسم المكان. كان رجلاً رؤيويّاً. اختار موقعاً ممتازاً لمشروعه، مقابل المدخل الرئيسي لجامعة النخبة العربية.

ليبرالية بيروت

«الجامعة الأميركية» في بيروت، تميزت منذ نشأتها عام 1866 بجوها الليبرالي ومعاركها الفكريّة والسياسيّة. واحدة من أوائل حركاتها الشهيرة، احتجاج الطلّاب عام 1882 بسبب خلاف حول الداروينية بين أساتذة أميركيّين مُحافظين وآخرين متحرّرين، وهو ما تسبب باندلاع حركة طُلّابية امتدّت وتوسعت، وذلك عندما ثار طُلّاب كليّة الطبّ، من بينهم جورجي زيدان ويعقوب صروف وفارس نمر، وتركوا الكليّة.

هذه الأجواء التي عُرفت بها الجامعة الأميركية صارت تنتقل إلى «مقهى فيصل» الذي يُعتقد أنه تأسس عام 1919، أو على أبعد تقدير عام 1920، وبقي جزءاً من الحياة الفكرية حتى أغلق أبوابه تحت وطأة الحرب الأهلية اللبنانية، في اليوم الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1985.

البعض يرى أنه يمكن التأريخ لبيروت من خلال مرآة «مقهى فيصل». فقد تزامن افتتاحه مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وقيام لبنان الكبير، وتغيير اسم الجامِعة من «الكلية السورية الإنجيلية» إلى «الجامِعة الأميركيّة». في تلك الفترة وفد عدد كبير من الطلاب العرب من سوريا وفلسطين والعراق والأردن إلى بيروت، وبشكل خاص للالتحاق بالجامِعة الأميركيّة. كانوا في غالبيتهم شديدي الحماسة للثورة العربيّة، ومن عائلات ميسورة: العظم، والبرازي، والدالاتي، وحرب، ومن آل الشوا من غزة.

فوران الحياة الطلابية

أثر غليان الأحداث السياسية على الجامِعة وطُلّابها. يقول أنيس فريحة في كتابه «قبل أن أنسى» عن ذكرياته في تلك المرحلة: «شارل مالك كان شاباً ذكيّاً من الكورة، وكوستي (قسطنطين) زريق كان في الـ(هاي سكول)، وفؤاد صروف كان غادر للتو إلى القاهرة للالتحاق بمطبوعات عمّه».

فترة الثلاثينات تميزت بنشاطها الاجتماعي والسياسي، حيث ظهرت حركات قوميّة أبرزها «جمعية القوميّة العربيّة» السريّة، وعند «فيصل» كان بمقدور أعضائها مناقشة موضوعاتهم الحساسة. كتب يوسف الصايغ في مذكراته: «كنا نتجادل حول القوميّة العربيّة مقابل القوميّة السوريّة. وكلما جفّت حناجرُنا من النقاش، ذهبنا لتناول القهوة في (مطعم فيصل) الذي كان مؤسسة، وصاحبه ذو شخصية فريدة، ومحلّه بمثابة صالون سياسي. كان فؤاد مفرّج يذهب إلى هناك، ومحمد شقير، ومحمود صائب، وكان مُنح الصلح يذهب إليه، ولكن في وقت لاحق. كان أساساً مُلتقى القوميّين العرب، ولكن نحن أيضاً كنا نذهب إليه لنُجادلهم».

في هذا المطعم نَـظَـم سعيد عقل بعض أشعاره، منها نشيد «العروة الوثقى»، وقصيدته الغرامية التي يتغزّل فيها بإحدى الطالبات الجميلات، وكانت محط إعجاب الجميع، ومطلعها:

سمراء يا حلم الطفولة وتمنع الشفه البخيلة

لا تقربي مني وظلي فكرة لغدي جميلة

وكان لتقسيم فلسطين تأثيره الكبير على الطلّاب. بدّل هذا الحدث الجلل في حياتهم ونشاطاتهم، خصوصاً عند الطالب جورج حبش الذي دخل كليّة الطبّ، ويروي أن مطعم ومقهى فيصل كان ملتقى الطلّاب، وأصبح علامة بارزة في الحياة الجامعيّة، وبقي شهيراً ومعروفاً حتى سنوات الحرب اللبنانيّة. ويضيف: «كم أسفتُ لإغلاقه فيما بعد بسبب ظروف الحرب... كان أحد المراكز التي يدور فيها نقاشٌ حول مفاهيم البعث والناصريّة وحركة القوميّين العرب، ومُختلف الموضوعات الحيوية التي تواجه الأُمّة العربيّة».

الستينات والقومية

بقي «مقهى فيصل» في الستينات من القرن المنصرم «من المعاقِل الأساسيّة للحركة القوميّة، سواء حزب (البعث)، أو حركة القوميّين العرب، أو الأحزاب اللبنانيّة الخالصة، كحزب (الكتائب) وحزب (النجّادة)... وكان مكان التجمّع الأساسي لقادة هذا الحِزب، لا سيما في السنوات الأخيرة للوحدة، بعد تفاقُم الخلافات بين عبد الناصر وحزب (البعث العربي الاشتراكي) وانسحاب وزراء الحزب من حكومة الوحدة».

استمرّت التحركات الطلّابية ناشطة أواخر الستينات وحتى منتصف السبعينات. واستمر رؤساء مجالس الطلبة يجتمعون في «فيصل»، يكتبون بعضاً من بياناتهم هناك ويخطّطون لتوزيعها، حتى قيل إنّ «مقهى فيصل» كان أحد رموز الجامِعة الأميركيّة. ونُسب يومئذ إلى الزعيم الفلسطيني كمال ناصر قوله إنه «لا لزوم لدائرة علوم سياسيّة في الجامِعة الأميركية، ما دام (مقهى فيصل) يقوم، بالنيابة عنها، بهذه المُهمّة المُستحيلة».

في «فيصل» كُتبت الأناشيد الثورية، وعلى بابه تجمع الطلّاب للمشاركة في الاحتجاجات في الخمسينات والستينات والسبعينات. وعلى طاولاته أَعدّ ما عُرف بـ«جماعة» «مطعم فيصل» (بشارة مرهج، وماهر المصري...)، ورؤساء المجالس الطلّابية، المنشورات والبيانات الإذاعيّة المستخدمة في تحركاتهم واحتجاجاتهم ومخطّطاتهم. وقد احتُسب على الناشطين في الحركات القوميّة العربيّة، فارتاده القوميون العرب والبعثيون، بشكل كبير.

كان المفكر مُنح الصلح من أبرز روّاد «مطعم فيصل»، جعل منه مقرّه اليومي، تتحلّق حوله شخصيّات سياسيّة وفكريّة للتداول في شؤون البلد والأُمّة.

شخصيات مؤثرة

أكثر من مرة كتب المؤرخ نقولا زيادة، عن هذا المكان، وكان هو نفسه من روّاده لكونه أحد الأساتذة المبرزين في الجامعة الأميركية، وعن أمنيته بأن يبادر أحدهم إلى كتابة تاريخ «مطعم فيصل»، عادّاً أن «من لا يتعرّف إلى (مطعم فيصل) لا يستحقّ أن يكون أستاذاً في الجامِعة».

أما خليل جحا فيروي: «كنّا نلتقي الأديب الكبير أمين نخلة، والشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي عندما سألته عن عنوانه في بيروت أجاب: (مطعم فيصل)، بالإضافة إلى الشاعر العراقي رزوق فرج رزوق الذي كان يُعدّ أطروحة ماجستير عن الشاعر اللبناني الكبير الياس أبو شبكة. وخليل حاوي الذي كان قد تخلى عن نظم الزجل وبدأ ينظم شعر التفعيلة، و(البيك) مُنح الصلح».

على مدى سنين طويلة من عمر «مطعم فيصل» ارتادته شخصيّات مؤثرة في تاريخ لبنان والبلدان العربيّة، مثل سعيد عقل، وبدر شاكر السياب، وغادة السمان، ونزار قباني، وعبد الوهاب البياتي، وإبراهيم طوقان، وشخصيات سياسية وفكرية.

توثيق وشهادات

يعتمد هذا الكتاب التوثيقي الجديد على جمع معلومات وذكريات منشورة في كتب ومقالات عن «مقهى فيصل»، ويضعها في سياق الأحداث الاجتماعية والسياسيّة في تلك الفترة المؤثرة في الجسم الطلّابي الجامعي، كما أنه يحاول رسم صورة استعادية حية للمكان، من خلال مُقابلات أُجريت مع شخصيّات عرفت تلك الحقبة وعاشتها.

يمكن تشبيه دور «مقهى فيصل» بدءاً من خمسينات القرن الماضي حتى إغلاقه، بما كانت تمثله مقاهٍ مثل «كافيه دي فلور» أو «دو ماغو» لجان بول سارتر أو سيمون دي بوفوار في باريس، بما كان له من بعد ثقافي، ومن هالة أضفاها على «شارع بليس» البيروتي الذي يوجد فيه، حتى شبّهه الكاتب المصري أحمد بهاء الدين، بـ«الحيّ اللاتيني» في فرنسا، لكن كل هذا قد انطفأ بسبب الحروب والصراعات والظروف القاهرة التي مرّت بها بيروت من جهة، ولأن طبيعة دور المقاهي أصابها خلل كبير، وتبدّل شديد؛ فقد غزت مطاعم ومقاهي «الفاست فود» شارع «بليس» كله، وتغيرت وظائف الأمكنة بتبدل العقليات والاحتياجات والقناعات. يبقى أن هذا الكتاب ضرورة جميلة، غير أنه يحتاج بعض التشذيب لتخليصه من المعلومات المكرورة، والزيادات التي لا حاجة للقارئ بها كي يبدو أكثر جاذبية ومتعة.


مقالات ذات صلة

مصادر: لبنان يضبط 2.5 مليون دولار كانت في طريقها لـ«حزب الله»

المشرق العربي رزم من الدولارات الأميركية (رويترز) play-circle

مصادر: لبنان يضبط 2.5 مليون دولار كانت في طريقها لـ«حزب الله»

قالت 3 مصادر إن سلطات مطار بيروت ضبطت مع رجل وصل من تركيا 2.5 مليون دولار نقداً كانت في طريقها لجماعة «حزب الله».

يوميات الشرق «ميديا» المأساة اليونانية الأكثر شيوعاً في القرن الـ20 (صور المخرج)

«ميديا» الأسطورة الإغريقية بنسخة لبنانية على «مسرح مونو»

تروي «ميديا» قصة امرأة وهبت حياتها وحبّها لزوجها ياسون، لكنه يخذلها ويتخلّى عنها من أجل امرأة أصغر سناً، فتُواجه صدمة الخيانة والعزلة...

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق مشاعر الحنين إلى الوطن وذكريات الطفولة في أعمال غادة جمّال (الشرق الأوسط)

معرض «من القلب إلى الوطن» للبنانية غادة جمال: أماكن مألوفة تُثير التوقّعات

في معرضها «من القلب إلى الوطن» في غاليري «آرت أون 56» ببيروت، تُقدّم التشكيلية اللبنانية غادة جمّال لزائره مساحة حرّة، فيتلقف موضوع كل لوحة وفق رؤيته الخاصة.

فيفيان حداد (بيروت)
المشرق العربي نعيم قاسم الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني خلال إلقاء خطاب تلفزيوني (لقطة من فيديو) play-circle

نعيم قاسم: منع الطائرة الإيرانية من الهبوط في بيروت «تنفيذ للقرار الإسرائيلي»

قال نعيم قاسم، الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني، إن رئيس الحكومة نواف سلام اتخذ قراراً بمنع هبوط الطائرة الإيرانية في بيروت «تنفيذاً للقرار الإسرائيلي».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق «سيبانة رمضان» تقليد قديم يتبعه أهل بيروت (جمعية فانوسي)

«فوانيس الأمل»... عروضٌ مسرحية وموسيقية في رمضان ببيروت

يتضمّن برنامج «سيبانة فانوسي» هذا العام نشاطات ترضي جميع الأعمار. فيخصّص مساحة للمسرح الإنشادي وأخرى للدمى المتحرّكة. كما يطلّ الحكواتي...

فيفيان حداد (بيروت)

حدود الإبداع

حدود الإبداع
TT

حدود الإبداع

حدود الإبداع

ثمة مصطلحات في الثقافة العامة تبدو واضحة، لكن مع التدقيق والبحث يتضح أنها أوسع مما تبدو بكثير، منها مصطلحا الفن والإبداع. فعندما تمر بذاكرتنا مفردة «فن» نتخيل نوعاً من الأنشطة الإنسانية كالسينما أو كتابة الروايات أو تأليف دواوين الشعر، إلا أن هذه المفردة بالأحرى علامة على مساحات أكبر في حياتنا يمكن أن يغمرها الإبداع. هذا ما سنحاول أن نسلط عليه المشاعل في هذه المساحة.

الإبداع نشاط يسمو بحياة البشر ويخرجها من الروتين المرتبط بحبل مشيمة مع كل ما مضى وما زلنا عالقين فيه. أعني أن الإبداع مستقبلي في أساس تكوينه. تتكلس الحياة أحياناً فيأتي الإبداع لكي يعيد الحيوية إليها من جديد، كالشعور بالحب. وهكذا يمكن أن نعرّف «الفن» بأنه حياة تسبح في عالم من الإبداع الواعد بكل ما هو جديد مُجدد. هذا العالم الخاص لا يهدأ أبداً فالمبدعون يشبهون الفراشات التي تحوم حول النار حتى الاحتراق، إنه فتنة لا يجد المفتون منها انفكاكاً. هو دائماً وأبداً مشغول بمشروع جديد يجعل العالم كله يبدو جديداً باستمرار في حُلة قشيبة، ففي اللغة أن الإبداع يكون على غير مثال سابق وهنا يكمن بعده الثوري في مجاله. تأثير يتخلل كل المجالات ولا يخلو من تأثير حتى على نظرية المعرفة، رغم ما بينها وبين الفن من اختلاف، فالإبداع يغيّر نظرتنا إلى العالم الخارجي. العالم بعد نيوتن ليس هو العالم قبله. لقد تغيرت حياة الناس تماماً وبصورة جوهرية جذرية.

في الأزمنة القديمة كان بنو الإنسان ينظرون إلى البحر على أنه شيء ممتد مخيف يبتلع الناس ولا يلفظهم، فمن سافر فيه لم يرجع، إلا أن أهازيج البحارة وروايات السرديين وقصص البطولة والملاحم جعلت الناس يدخلون في مقاربة مختلفة وعلاقة جديدة مع البحر بحيث أصبح السفر فيه عشقاً لا رعباً. وصار ثمة شريحة من البشر ترتبط بالبحر ارتباطاً عميقاً ويكتبون له القصائد المملوءة بالعتب والشجن. وآخرون نظروا إليه وكأنه نافذتهم على الشهرة والثروة.

الناس مفتونون بما يصدر عن الفنان من إبداع، رغم خفائه، وأن الاستمتاع به يبدو أحياناً وكأنه حل لغز. لكي تستمع بلوحة لبيكاسو لا بد أولاً أن تفهم إلام ترمز. ولا يقف التفاعل مع الفن عند حدود الفهم. الناس يتفاعلون معه ولا يكتفون بالفهم. فجأة كتب أحدهم «جزيرة الكنز» فوافق هذا ميلاً عند الجماهير، ليس فقط في تقدير أبطال القصة، بل أصبح من الجماهير من يطمح أن يكون هو من يجد خريطة ذلك الكنز ومن يحظى به. ولا ننسى الحدث الكبير عندما قرر هيرمان ميلفيل أن يكتب «موبي ديك» فالبحث عن الحوت استعارة تدل على البحث المعرفي، بحث الإنسان عن المعنى في عالم من المظاهر الخادعة والأوهام القاتلة وحدود المعرفة العلمية واستحالة تحقيق اليقين.

لكن في جميع الحالات عندما يخرج الإبداع نشعر بأنه كان موجوداً من قبل وأننا كنا نعرفه قبل أن يصرّح به المبدع، وفي أحيان لا يكون الإبداع مأخوذاً من العدم المحض، مثلما نعرف أن اليونيكورن هو حصان بجناحي إوزة. إنها عملية إعادة لتشكيل العالم في صورة جديدة تقتحم المجهول. وقد نشعر بأنه كان من الواجب أن يقال هذا الشيء الجديد، مع أنه على الحقيقة لا يوجد واجب على الإطلاق، فالمسألة محض تفضل من المبدع عندما قرر أن يشارك الناس في إبداعه.

وقد يظهر لنا الإبداع حلاّلاً للمشكلات، مثلما قرر فتغنشتاين أن كل مشكلاتنا الفلسفية ناتجة من سوء استخدامنا للغة، وأننا إذا التزمنا بنظرية (حدود لغتي هي حدود عالمي)، فإن المشكلات كلها سوف تتساقط. لكن الإبداع لا يحل المشكلات فحسب؛ بل إنه يخلق أو يكتشف أيضاً مشكلات جديدة كما فعل فتغنشتاين مرة أخرى.

لا شك أن الإبداع كان يأخذ وقته لكي يُحدث التطور المنشود في الحياة البشرية، ولا بد أن الإسكيمو مكثوا زمناً قبل أن يكتشفوا أن مفردة واحدة للثلج لا تكفي للوصف المتداول اجتماعياً، وهذا ينطبق أيضاً على العربي مع الجمل، ففي كلتا الحالتين كانت هناك ضرورة إلى مزيد من إبداع المفردات اللغوية.

عندما نتصور الإبداع بمفهومه الواسع قد نلاحظ أنه يملأ علينا حياتنا ويُدخل نفسه في كل شيء بحيث يمكنك أن تكون مبدعاً عندما تفعل أي شيء تقريباً، في طريقة كسبك الأصدقاء الجدد أو في اختيارك لألوان ملابسك، ثمة مبدعون أخفياء في هذه المساحة. وهذا معناه أننا نعمل باستمرار على إعادة تشكيل حياتنا من خلال أعمال الإبداع. إنه يجعل الحياة ممكنة مثل الماء الذي يساهم في بناء قلعة رملية، فمن دون الماء تنهار القلعة. والحياة الروتينية الخالية من الإبداع ليست حياة على الإطلاق. فيها يتشبه الإنسان بالآلة، بدلاً من العكس الذي يتمناه الذكاء الاصطناعي، أعني تشبه الآلة بالإنسان. وعندما يتحول الإنسان آلة محروماً من الإبداع الذي اختُص به، يصبح أقرب ما يكون من الموت. جسد آليٌ بلا روح. لا يمكن أن أتصور فناناً لا يؤمن بالروح، عالم الممكن المفتوح.

المبدع أشبه ما يكون بالبخور الذي يحترق جلده لكي يستمتع الناس برائحته. لكن يبقى الإبداع سلاحاً ذا حدين وقد يدمّر المبدعَ سعيُه للإبداع، فهو طريق محفوف بالمخاطر بطبيعته. قد يتحطم في الفنان كل شيء عندما يجد أن الإبداع مخاتل وموارب، وأنه لا يستطيع أن يصل إليه وأنه عاجز أن يكون من المبدعين. المبدع قد يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى الناس رغم كونه مبدعاً حقيقياً. وهنا، لا بد له أن يدرك أن لا ملاذ من المخاطرة بالألم والفشل مثلما يحدث في قصص الحب. لا حب بلا مغامرة والإبداع حقاً حب، ولهذا يحطم القلوب.

* كاتب سعودي