أشهر مترجم للأدب العربي الحديث يفتح خزانة الذكريات

دينيس ديفيز يروي لقاءاته بمحفوظ وإدريس والسَّياب والطيب صالح

دينيس جونسون ديفيز
دينيس جونسون ديفيز
TT

أشهر مترجم للأدب العربي الحديث يفتح خزانة الذكريات

دينيس جونسون ديفيز
دينيس جونسون ديفيز

يعدّ دينيس جونسون ديفيز (1922 - 2017) أكثر المترجمين الذين قدموا خدمات جليلة للأدب العربي، فعلى مدار 70 عاماً سعى لنقل نماذج من هذا الأدب إلى قراء الإنجليزية حول العالم بأمانة وبراعة، وأثمرت تلك الجهود عن أكثر من 30 مجلداً في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، كما مهّدت ترجماته المبكرة لنجيب محفوظ الطريق لنيله جائزة نوبل.

أسس ديفيز في الستينات مجلة «أصوات» للأدب العربي المترجم، ووصفه إدوارد سعيد بأنه «أهم مترجمي العربية إلى الإنجليزية في هذا الزمان»، وحصل على جائزة «الشيخ زايد لشخصية العام الثقافية 2007».

غلاف الكتاب

يروى ديفيز ذكرياته وكواليس تجربته مهنياً وإنسانياً في كتابه «ذكريات في الترجمة – حياة بين خطوط الأدب العربي» الصادر أخيراً عن المجلس القومي للترجمة بالقاهرة، بترجمة د. عفاف عبد المعطي، ومراجعة د. محمود محمد مكي. وكان نجيب محفوظ قد قدّم للكتاب بنسخته الإنجليزية، واصفاً إياه بأنه «عمل شائق»، مشيراً إلى أنه تعرف على المؤلف منذ 1945 وأعجب به وهو أول من ترجم له نصاً، قصة قصيرة، ومنذ ذلك الحين ترجم عدداً من كتبه. وذكر محفوظ أن ديفيز فعل أكثر مما فعله أي مترجم في ترجمة الأدب العربي الحديث للإنجليزية والترويج له، ولطالما بحث عن كُتاب جدد مثيرين للاهتمام، كما عمل جاهداً، لا ليترجم رواياتهم ومسرحياتهم وقصصهم القصيرة وشعرهم فحسب، بل سعى لإيجاد ناشرين لهذه الترجمات أيضاً.

يروى ديفيز كيف بدأت صداقته بعدد من الأدباء الرواد. منهم طه حسين، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس. كما يحكي عن علاقته بالأجيال التالية، مثل صنع الله إبراهيم، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، ومحمد برادة، وزكريا تامر، وسلوى بكر.

وهو يعترف بأن ترجمة الأدب العربي لا تلقى اهتماماً من الناشر الإنجليزي الذي لم يبدِ حماساً لنجيب محفوظ نفسه إلا بعد حصوله على «نوبل»، «فالناشرون هم بشكل رئيسي رجال أعمال يكرهون خوض المجازفات، وخصوصاً بكتاب مترجم عن العربية، ومن المعروف أن القراء الإنجليز لا يسعون وراء أي كتاب مترجم، حتى لو كان مترجماً عن اللغة الفرنسية. ويدلل على ذلك بالكاتب اللبناني أمين معلوف، الذي يكتب بالفرنسية، «فقد اشترت (اللجنة الرباعية) في لندن حقوق رواية له، باع منها أكثر من مليون نسخة في فرنسا، ولم يبع من الطبعة الإنجليزية سوى 2000 نسخة فقط».

إدريس ومحفوظ

يرى ديفيز أن يوسف إدريس شخصية كاريزمية وكاتب ذو موهبة عظيمة. وكان طبيعياً أن يأمل إدريس أن يكون المرشح العربي لـ«نوبل»، لكن كثيراً من العوامل كانت في صالح محفوظ، وليس أقلها إنتاجه الضخم غير العادي، بل إن عمله باعتباره روائياً في الأساس كان متاحاً بسهولة في عدد من الترجمات الإنجليزية والفرنسية.

ويذكر أن يوسف إدريس أخبره بأن روايته «الحرام» تُرجمت إلى الروسية في أكثر من مليون نسخة، لذا ظل يتساءل؛ لماذا لم تبع كتاباته كثيراً في الترجمة الإنجليزية، كما أعرب عن خيبة أمله لأنها باللغة العربية أيضاً لم تحظَ بذلك النوع من المبيعات التي كان يتطلع إلى تحقيقها.

دينيس ديفيز مع نجيب محوظ

ويكشف المؤلف عن ملابسات حصول «محفوظ» على نوبل. ويذكر أنه التقى زوجة السفير الفرنسي في تونس، وهي سيدة سويدية على علاقة مباشرة بلجنة التحكيم في «نوبل»، وسألته إذا ما كان هناك كاتب عربي غير نجيب محفوظ يستحق الترشيح وقد تجاوزته القائمة؟ تناقشا بإسهاب عن المزايا والعيوب للمرشحين المحتملين، ومنهم الشاعر السوري «أدونيس»، لكنه ليس شاعراً شعبياً، كما أن إدريس لم يحظَ بقدر كافٍ من ترجمة نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية، اللغتين المعروفتين لدى أعضاء لجنة التحكيم. وفى تلك الأثناء، لم يكن قد صدر للطيب صالح سوى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايته القصيرة «عُرس الزين»، وبعض القصص القصيرة المتاحة في الإنجليزية والفرنسية، وهذا العدد القليل حال دون ترشيحه للجائزة.

اللقاء بالسياب وكنفاني

حين أسس دنيس جونسون ديفيز المجلة الفصلية «أصوات» المتخصصة في الأدب العربي، تحول مكتب المجلة في لندن إلى محطة أساسية للأدباء العرب، ومنهم الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في أواخر أيامه. ففي صباح أحد الأيام، تلقى جونسون مكالمة هاتفية من «السياب» يخبره فيها أنه وصل إلى لندن ويقيم في فندق «كامبرلاند» القريب منه. ذهب إليه جونسون، وشرح له السياب المرض الذي كان يعاني منه، وكان قد استشار بشأنه كثيراً من الأطباء في بيروت وأماكن أخرى.

أخذه «ديفيز» إلى طبيبه الخاص، لكن الرأي كان نفس ما سمعه من أطباء آخرين. تم حجز «السياب» في فندق «ميدلسكس» حيث خضع لسلسلة من الاختبارات المؤلمة على عموده الفقري، وأخبره الطبيب أنه يعاني شللاً لا شفاء منه يؤثر على عموده الفقري، وأنه لا ينبغي أن يهدر الوقت والمال في جولات على مزيد من الأطباء. وكان «السياب» قادراً على قبول الحقيقة القاسية بدلاً من أن يتعلق بآمال كاذبة.

كان غسان كنفاني كاتباً آخر نشر له المؤلف في مجلة «أصوات» فصارا صديقين من خلال تبادل الرسائل. بعد عدّة سنوات، تقابلا للمرة الأولى في فندق «كليوباترا» بالقاهرة. كان جونسون بصحبة أحد الأصدقاء وكانا يدردشان باللغة العربية، وفيما كانا في ردهة الفندق، اتجه نحوه شاب وسيم قائلاً: «لابد أنك دينيس، أنا غسّان».

يعترف ديفيز بأن ترجمة الأدب العربي لا تلقى اهتماماً من الناشر الإنجليزي الذي لم يبدِ حماساً لنجيب محفوظ نفسه إلا بعد حصوله على «نوبل»

ترجمة «موسم الهجرة...»

حول ملابسات ترجمة الرواية الأشهر للطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، يروى ديفيز أنه قابل مؤلفها عندما كان يعيش في لندن في الفترة من 1954 حتى 1969. ورغم أن كليهما عمل في القسم العربي من الـ«بي بي سي»، فإنهما لم يتصادقا من قبل. وبعد نشر وترجمة عدة قصص، جاء اليوم الذي أخبره فيه «الطيب» أنه سيبدأ رواية جديدة أكثر طموحاً. وكان ديفيز في فترة إجازة، ما أتاح له أن يتلقى كل بضعة أيام حزمة من الأوراق من مسودة العمل، حلقة تلو أخرى. وسرعان ما انتهت الرواية بعنوان «موسم الهجرة إلى الشمال». يقول ديفيز: «ترجمتها في الوقت نفسه تقريباً. كان الطيب يسأل عن بعض المقاطع المثيرة الواردة في الرواية، وقرر حذفها في نهاية المطاف. ولفترة من الوقت فكرا في إصدار تلك المقاطع في الترجمة الإنجليزية، لكنهما قررا في النهاية عدم فعل ذلك. ويؤكد المؤلف أنه في مكان ما بين أوراقه يمتلك هذه المقاطع المحذوفة الخاصة مكتوبة بيد الطيب على عدة صفحات. وربما تجد المشاهد المحذوفة يوماً ما طريقها إلى غرفة مزاد ويشتريها بمبلغ كبير مليونير يرغب في امتلاك مثل هذه الفصول».

دينيس ديفيز مع الطيب صالح

نشِرت «موسم الهجرة إلى الشمال» في ترجمتها الإنجليزية 1969، وقد امتدحها كثير من النقاد البريطانيين، واختارتها صحيفة «صنداي تايمز» لتكون رواية العام، وتصادف أن كان «ديفيز» في لندن في ذلك الوقت، ويتذكر أنه ذهب إلى مكتبة في «بيكاديللي» لطلب الكتاب، وكان يتوقع أن يجد نسخاً منه في إحدى نوافذ العرض. وعندما سأل البائع حول الكتاب، أجابه قائلاً: «أوه سيدي... حسناً ستجد الكتاب في الأسفل... في السرداب». وهنا يعلق ديفيز: «استغرق الأمر حوالي 4 عقود لرواية الطيب صالح كي تشق طريقها من الطابق الأسفل في (بيكاديللي) حتى تضاف إلى الكلاسيكيات الحديثة لدى دار (بنغوين) العريقة».


مقالات ذات صلة

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يوميات الشرق صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مَنْح هبة القواس درع مئوية الجامعة تقديراً لعطاءاتها (الجهة المنظّمة)

مئوية «اللبنانية – الأميركية» تُحييها الموسيقى والشعر

قرنٌ على ولادة إحدى أعرق المؤسّسات الأكاديمية في لبنان، والتي حملت شعار تعليم المرأة اللبنانية والعربية والارتقاء بها اجتماعياً واقتصادياً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق قضى الأمير بدر بن عبد المحسن خمسة عقود في إغناء الوسط الثقافي وكتابة الشعر وتدبيج القصائد وتزيين خرائط الوجدان (حساب الأمير على «إكس»)

«المختبر السعودي للنقد» يبدأ باكورة أعماله بقراءة جديدة لأعمال الأمير بدر بن عبد المحسن

يبدأ «المختبر السعودي للنقد» باكورة أعماله بتقديم قراءة نقدية جديدة لأعمال وإنتاج الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد المحسن خلال مشاركته أمسية شعرية في باريس (الشرق الأوسط)

فنانون وشعراء يودعون أيقونة الشعر بعد خمسة عقود من العطاء

نعى شعراء وفنانون الأمير البدر، وتجربته التي امتدت لـ5عقود، غنى له خلالها نخبة من فناني العالم العربي، وتعاقبت الأجيال على الاستماع والاستمتاع ببراعته الشعرية.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق تجد في الخيبة والهزيمة سرَّ وصول إلى ضياء الحياة (حسابها الشخصي)

سهام الشعشاع لـ«الشرق الأوسط»: أنصاف الموهوبين حاضرون على حساب الأصيل

لا تدّعي سهام الشعشاع أنها قادرة على تنقية شِعر الأغنية من الشوائب، لكنها على الأقل تحاول الانتصار للغة أنيقة، ولفنّ بعيد عن التلوّث، يطرد العتمة ويكسر الكآبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».