مصطلح «السياسات الثقافية» انتعش مع الثورات ويرصد التحولات

دراسات لمؤسسة «المورد» هدفها الكشف عن أصوات جديدة

طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
TT

مصطلح «السياسات الثقافية» انتعش مع الثورات ويرصد التحولات

طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا

«السياسات الثقافية» مصطلح لا يزال قليل الاستعمال في المنطقة العربية. وهو إذ تمت ترجمته عن اللغات الأجنبية، وموّلت مراكز غربية الأبحاث المتعلقة به، ها هو يجد طريقه للاستخدام، في دراسات تتناول الحركة الثقافية العربية بمختلف جوانبها، لفهمها أولاً، وللمساعدة في رسم خطوطها واستراتيجياتها المستقبلية.

«المصطلح استخدم خصوصاً بعد الربيع العربي، وبخاصة بعد الثورتين التونسية والمصرية». إذ أجريت العديد من الدراسات التي ترصد التحولات وما رافقها من أشكال للتعبير، والثغرات التي تعاني منها المجتمعات العربية. وكذلك نشرت موضوعات عن السياسات الثقافية في كل من ليبيا ولبنان والجزائر ومصر وغيرها.

منذ ما يقارب العامين أصدرت مؤسسة «المورد الثقافي» دراسة في 150 صفحة غاية في الأهمية بالمشاركة مع «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، حملت عنوان «نظرة حول السياسات الثقافية في لبنان»، حرّرتها كل من الباحثَتين والناشطَتين الثقافيَتين حنان الحاج علي وناديا فون مالتسان، وضمت ثلاثة بحوث ومقدمة تعريفية، واستغرق العمل عليها أربع سنوات.

خلصت الدراسة إلى أن بيروت رغم كل ما حلّ بها من كوارث متلاحقة «لا تزال، المختبر الفعلي الذي ينتج الحياة الفنية والثقافية في الشرق الأوسط، والجسرَ الذي يعدُّه عددٌ كبير من الفنانين والمُثقفين المكانَ الذي يتبناهم. وهي مركز تلاقٍ تتقاطعُ فيه الإنتاجات الفنية». غير أن المشكلة هي أن «الحياة الثقافية في لبنان، تخضع لفوضوية عارمة». وزارة الثقافة لم تكن موجودة قبل عام 1993، ووضعها التنظيمي، لا يزال يحتاج إلى الكثير من العمل، وهو يتطور ببطء. لذلك؛ فإن التمويلات الأجنبية وما تدفعه المؤسسات الخاصة، مع المبادرة الفردية، هي عصب الحيوية والديناميكية الثقافية في العاصمة اللبنانية. وكون هذه الأنشطة مرتبطة بالمبادرات الخاصة؛ فاستمراريتها ليست أكيدة، وهي مرهونة، بقرارات الممولين، التي قد تتوقف في أي لحظة..

وجاءت الدراسات تحت أربعة محاور رئيسية، هي: الحقوق الأساسية والتنوع الثقافي، أسئلة في التمويل الثقافي، التشريعات الثقافية ومحاولات التغيير، إضافة إلى محور حول جائحة كورونا وتجربة الرقمنة.

مسألة التنوع الثقافي

وكانت ورشة مفتوحة على مدى سنتين، عملت فيها الباحثة الرئيسية حبيبة العلوي بالتنسيق مع فريق المورد الثقافي، بحيث تم العمل مع 5 باحثين شاركوا في الورشة، إضافة إلى باحث متخرج من برنامج ماجستير السياسات الثقافية والإدارة الثقافية لكتابة مقالات متخصصة في المحاور المتفق عليها بمساعدة من مجموعة من المستشارين والخبراء في السياسات الثقافية الذين تعاونوا في قراءة وتقييم مجمل الدراسات. وتقول أريج أبو حرب، مديرة مشروع في المورد: إن الهدف الرئيسي هو إشراك بحاثة شباب أو مبتدئين، بمعونة خبراء في موضوع السياسات الثقافية، لتوسيع عدد المهتمين والباحثين في المجال.

في مسألة التنوع الثقافي تناقش دراسات المنشور الجديد واحدة من أحرج المسائل في المنطقة العربية المتأججة بالصراعات والخلافات السياسية ذات الخلفيات الطائفية والقبلية والدينية؛ مما احتاج إلى جرأة كبيرة عند الباحثين، كما في موضوع «تضييق هيئة الأوقاف بالحكومة المؤقتة على تجمع تاناروت للإبداع الليبي». وكذلك، هناك موضوع عن «بلدة القدس القديمة: موروث ثقافي في مدينة مقسمة» كتبه فراس فرح. نلحظ أن الممارسات التي تطبقها سلطة الاحتلال الإسرائيلية تتعدى الإقصاء. فهي، في رأي فرح، محاربة للثقافة الفلسطينية. وأي نشاط لا يتماشى مع الآيديولوجية الإسرائيلية يتم وقفه. فمثلاً «تم إغلاق مسرح الميدان في مدينة حيفا بسبب مسرحية عن الأسرى، واعتقلت الشاعرة دارين طاطور في مسرح السرايا بمدينة يافا بسبب قصيدة، وهدم تمثال الحوت للفنان الفلسطيني وليد قشاش في عكا، وتم اعتقال خالد الغول، مدير الأنشطة والمشاريع الفنية سابقاً في مؤسسة يبوس الثقافية في القدس بتهمة تنظيم أنشطة فنية من دون تراخيص داخل البلدة، ناهيك عن مراقبة المحتوى الثقافي للأنشطة المقدمة في العديد من المؤسسات الثقافية، خصوصاً في المدارس».

المنشور الجديد يتطرق إلى مواضيع قليلاً ما بحثت، مثل «السكان السود في المنطقة المغاربية» كجزء من التنوع الثقافي، والتعامل مع الاختلاف. وتقول الدراسة: إنه «مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح الجيل الجديد من المغاربة السود مرئياً أكثر، وصار يعبّر دون حرج أو عقد عن قضايا تهمه مثل العنصرية، أو التمييز. لكن في بعض المجالات الفنية، لا يزال من الصعب على الفنانين السود المغاربة رفع أصواتهم».

ثغرات الحياة الثقافية

نظراً لأن الدراسات في هذا المنشور هي عن أكثر من بلد عربي، وتطال مجالات عدة، لذا من الصعب التوصل إلى خلاصات عامة.

لكن أريج أبو حرب، من مؤسسة «المورد الثقافي» ترى أن المنطقة العربية قد تتشابه في حاجاتها إلى سد الثغرات التي تعاني منها الحياة الثقافية. «باستثناء منطقة الخليج جميع الدول العربية، تعيش أزمة تمويل حادة للقطاع الثقافي، وتلجأ المؤسسات وكذلك الأفراد عند تمويل مشاريعهم إلى منظمات دولية، خاصة وأن التمويل العربي غائب أيضاً. والدول العربية بشكل عام، تعاني في المجال الثقافي من أزمة تشريع، والقوانين فيها غير واضحة بما يكفي لحماية الفنانين والأدباء ونتاجاتهم، أو حتى لدرء الأذى والحاجة عنهم في فترة الشيخوخة، بسبب غياب الضمانات». وبالتالي، فالمهن الإبداعية، على أهميتها الكبيرة جداً، ليس ثمة ما يشجع على احترافها لأنها تنتهي بصاحبها إلى نتائج غير مأمونة، تماماً بسبب غياب النصوص التشريعية التي تنظمها.

هناك أيضاً نقص حاد في البنى التحتية الثقافية، سواء في ما يتعلق بالمسارح ودور العرض والمتاحف، وحتى البنى التحتية الثقافية في المدارس فقيرة وغير كافية، بحسب ما تشرح لنا أبو حرب. ويضاف إلى كل ذلك ضعف في نوع آخر من البنى التحتية هي التكنولوجيات الحديثة، مثل الإنترنت وشبكات دفع الأموال بالطرق الإلكترونية، مما يصعب التواصل والتبادل.

نقص الخبرات المحلية

وتستثني أريج خلال كلامها دول الخليج التي بدأت بوضع خطط وسياسات ثقافية، لكن «هذه الخطوات على أهميتها الكبرى، وما يمكن أن تأتي به من نتائج جيدة، يصعب الحكم عليها من الآن؛ لأنها لا تزال ناشئة، والخطط بالنسبة لنا كباحثين غير واضحة، غير أننا نلحظ أن ثمة نقصاً في الخبرات المحلية».

لكن هذا ليس كل شيء، «فقد تبين خلال أزمة الوباء، ومع ازدياد حالة اللاستقرار خاصة بسبب تفشي الفقر، والحروب والفوضى في العديد من البلدان العربية، ان قبضة الحكومات أصبحت أكثر شدة على المواطنين، وأن الرقابة ازدادت ولم تنقص، وأن مراقبة الناس أصبحت سائدة»، تقول أبو حرب.

تتناول الدراسات في المنشور الجديد مواضيع متفرقة، منها إشكاليات تمويل القطاع الثقافي في ليبيا، والمتاحف اللبنانية وأزمة التمويل. حرية الإبداع في التشريع المصري، السينما الجزائرية بين النص القانوني والتطبيق، التقنيون أبرز الضحايا. تطور صناعة الرسوم المتحركة في المنطقة العربية: الجزائر والسعودية مثالاً، كما نقرأ، صصكم من البيت للبيت تنقل المسرح الارتجالي إلى الفضاء الرقمي.

تقول إحدى الدراسات في المنشور: إن المنطقـة العربيـة شهدت تغيرات سياسـية وأزمـات عديـدة منـذ 2011 أثرت بعمق على القطاع الثقافي وآليات تمويله وعلى عكـس معظـم الـدول العربيـة اتخـذت دول الخليـج مسـاراً مختلفاً لدرجة أصبحت توسم جراء التطوير والاستثمار في القطاع الفني بـ«الاستثناء العربي».

موضوع «السياسات الثقافية»، لا يزال البحث فيه في أوله، ويتم تأهيل المزيد من الباحثين المبتدئين، كي يثروا هذا الميدان. فقد أطلقت مؤسسة «المورد» سلسلة من الفيديوهات من 9 حلقات، تحمل عنوان «أساسات السياسات» تضعها على موقعها الرسمي، نشرت منها لغاية الآن خمسة. وهي فيديوهات قصيرة تضمّ مقابلاتٍ مصوّرة مع فاعلين ثقافيين وخبراء وباحثين مختصّين في المجال، تهدف إلى التعريف بالسياسات الثقافية، بما في ذلك مفاهيمها، نشأتها، أشكالها ومدارسها المختلفة، وتقديمها لجمهورٍ واسع من الفاعلين الثقافيين والباحثين الّذين يرغبون بتطوير معارفهم في هذا المجال. تتيح هذه السلسلة المعارف النظريّة والخبرات العمليّة للجمهور، مع إضاءات على واقع المنطقة العربيّة وما مرّ فيها من تجارب مختلفة وقيّمة في السياسات الثقافيّة خلال السنوات الماضية، لتكون مصدراً للمعلومة والتجربة ومنطلقاً للنقاش.

خلصت الدراسة إلى أن بيروت رغم كل ما حلّ بها من كوارث متلاحقة «لا تزال المختبر الفعلي الذي ينتج الحياة الفنية والثقافية في الشرق الأوسط»


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».