شهد العام الحالي سلسلة من الانتصارات التي حققها اليمين في عدد من الدول الأوروبية – باستثناء بريطانيا – على نحو يجيز التساؤل عن هذا المنحى الجديد أو المتجدد، وعما إذا كان مجرد مرحلة ستمر في إطار الدورات السياسية العادية التي تشهد صعوداً وهبوطاً لليمين واليسار، أم أن الغرب عموماً يتغيّر جذرياً بفعل عوامل عديدة تحفر عميقاً في الضمير الفردي والوجدان الجماعي؟ ولا شك في أن التساؤل يزداد إلحاحاً إذا قُدّر لدونالد ترمب العودة إلى البيت الأبيض... فالرجل ألهم حركة يمينية تضم ساسة وأحزاباً شعبوية في أوروبا وأميركا اللاتينية وأماكن أخرى.
يقلل البعض من شأن الجنوح نحو اليمين المتطرف في أوروبا، ويدعم هؤلاء رأيهم بعدم تحقق التوقعات التي قالت إن هذا المعسكر السياسي سيحقق نصراً كبيراً في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو (حزيران) الماضي، ففي حين حققت أحزاب اليمين المتطرف مكاسب، وخسر الخضر والديمقراطيون الاجتماعيون والليبراليون مقاعد، حافظ معسكر يمين الوسط المتمثل في حزب الشعب الأوروبي (تحالف عدد من أحزاب اليمين التقليدي)، على حضوره المسيطِر في الهيئة الاشتراعية للاتحاد الأوروبي.
على سبيل المثال، حقق «الائتلاف المدني» البولندي بقيادة رئيس الوزراء دونالد توسك أفضل أداء بين الأحزاب الرئيسية الأوروبية في الانتخابات المذكورة. ويُبدي الرجل الذي سبق له تولي رئاسة المجلس الأوروبي بين 2014 و2019، معارضة عنيدة لليمين المتشدد منذ أطاح حزب «القانون والعدالة» الشعبوي من السلطة في الخريف الماضي.
غير أن هذا الواقع لا يطمئن مراقبين وخبراء كثراً، ومنهم السلوفاكية سونيا موزيكاروفا الباحثة في «المجلس الأطلسي» التي تقول: «يجب ألا نقلل من شأن الأخطار المترتبة على فوز اليمين المتطرف. في سلوفاكيا أدى المناخ السياسي السام والاستقطاب المتزايد» إلى محاولة اغتيال رئيس الوزراء روبرت فيكو في أيار (مايو) الماضي. و«الآن تحاول حكومته المناهضة للديمقراطية استغلال المأساة لقمع المعارضة ووسائل الإعلام المستقلة».
وتدعو موزيكاروفا المعارضة ووسائل الإعلام «إلى الاستمرار في مراقبة عمل الحكومة وتحدي الائتلاف الحاكم» رغم تنامي التعاطف الشعبي مع فيكو بعد إصابته بالرصاص.
طبعاً، المثال الصارخ الذي يدعم رأي سونيا موزيكاروفا هو الفوز الكبير الذي حققه «التجمع الوطني» الفرنسي في الانتخابات الأوروبية مما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة أنتجت مثلثاً برلمانياً يضم اليسار بقيادة المتشددين (حزب «فرنسا الأبية»)، والوسط (مؤيدو ماكرون)، واليمين (بقيادة «التجمع الوطني»). وجعل هذا الواقع اختيار رئيس جديد لتأليف الحكومة أمراً بالغ الصعوبة، فلم يبصر التكليف النور إلا أخيراً باختيار الرجل المجرّب ميشال بارنييه (من حزب «الجمهوريون» وريث الديغولية)، وهو يميني تقليدي لم يُعجب اختياره القوى اليسارية التي رأت أن ماكرون رضخ لمارين لوبن زعيمة «التجمع الوطني»، وسلمها مفاتيح التحكم في الحكومة العتيدة.
«بديل ألمانيا»
كان الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي يوماً لافتاً في ألمانيا، ففيه سجل حزب «البديل من أجل ألمانيا» فوزاً كبيراً في الانتخابات المحلية لولايتي ثورينغيا وساكسونيا. وقد حقق اليمين المتطرف أفضل نتيجة له منذ الحرب العالمية الثانية، مثيراً قلق المراقبين السياسيين من عودة ظهور السياسات القومية والشعبوية المناهضة للهجرة في ألمانيا وأوروبا.
والحقيقة أن الناخبين الألمان يشعرون بالإحباط بشكل متزايد بسبب موجة المهاجرين الذين وصلوا إلى البلاد في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في ظل وضع اقتصادي متعثّر. وبلغ هذا الإحباط ذروته الشهر الماضي عندما طعن رجل سوري حتى الموت ثلاثة أشخاص وأصاب عدة أشخاص آخرين خلال مهرجان في مدينة زولينغن بغرب ألمانيا. واكشف الجمهور بعد الهجوم أن الرجل كان من المفترض ترحيله قبل أشهر، لكن الإدارة السيئة والتعقيدات الإجرائية أدت إلى بقائه في البلاد لمدة أطول من اللازم.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن الأحزاب الثلاثة الموجودة في السلطة على المستوى الوطني ــ الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الخضر، والحزب الديمقراطي الحر ــ مُنيت بخسائر فادحة في انتخابات الولايتين، وهو ما يؤكد مدى عدم شعبيتها بين الناخبين ليس فقط في ألمانيا الشرقية السابقة، بل على المستوى الوطني أيضا. ومن الواضح أن البلاد سوف تتحول إلى اليمين في الانتخابات العامة المقبلة. وهذا يعني فرض قواعد هجرة أكثر صرامة وتركيزاً أكبر على تنمية الاقتصاد الألماني الراكد.
المناخ السياسي العام
من ينظر إلى المشهد السياسي الراهن سوف يرى أن الأحزاب اليمينية الشعبوية هي المؤثر الأكبر في الرأي العام، بخطابها الذي يمجّد الشعور القومي ويضع الوطن دائماً في الصدارة، ويشكك في الآخر مميزاً ضده على أساس الاعتبارات العرقية أو الدينية... والمقلق أن عواقب هذا الخطاب «السيادي» قد تكون وجودية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي على المدى المتوسط وحتماً على المدى الطويل.
وإذا شئنا النظر بعمق إلى جذور هذا التيار السياسي الذي خال كثر أنه دُفن مع هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية وقيام الاتحاد الأوروبي وتوسّعه تدريجاً، نعود إلى الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم عام 2008 وتلتها أزمة الهجرة عام 2015. فالحدثان شكّلا مفصلين مهمّين في ظاهرة تنامي الشعبوية في أوروبا، لكنهما ليسا العاملين المؤثرين الوحيدين.
هنا، يقول خيسوس كاسكيت، أستاذ تاريخ الفكر والحركات الاجتماعية في جامعة إقليم الباسك الإسباني، إن «عالمنا اليوم يتحرك بسرعة فائقة. فنحن نعيش في عصر التوصيل في اليوم نفسه، والوجبات السريعة والأزياء السريعة. ونستمع إلى الرسائل الصوتية والبودكاست بسرعة مضاعفة، ويتم إشباع أدنى شك أو فضول على الفور من خلال بحث سريع على هواتفنا، متجاوزين أي حاجة للتفاعل الشخصي أو حتى للتفكير. لقد جعلت التكنولوجيا من نفاد الصبر القاعدة».
يضيف أن «الأمر نفسه ينطبق على الاقتصاد الذي تحكمه قرارات فورية تُتّخذ في أسواق الأسهم في وول ستريت أو لندن أو شنغهاي... أينما نظرنا، نرى تسيّد مبدأ أن الوقت هو المال، وهذا أدى إلى تسريع وتيرة حياتنا».
يرى كاسكيت أن «الشعبوية اليمينية تستغل حقيقة مفادها أن الديمقراطية بطيئة، وبالتالي فهي عاجزة بشكل متزايد عن معالجة المخاوف الأكثر إلحاحاً لدى الناس. ولم يدرك أي تيار أيديولوجي آخر مدى عدم تناغم السياسات الديمقراطية البطيئة مع الوتيرة السريعة، بل اللحظية، للاقتصادات والمجتمعات، وقد أدى استغلال اليمين الشعبوي هذه الفجوة في العمليات الانتخابية إلى تحقيق مكاسب ضخمة (...). في عالم أصبح فيه الصبر فضيلة نادرة، وحيث الأنظمة السياسية متخلفة عن الركب، فإن ما يقدمه الشعبويون اليمينيون هو سياسة مبنية على العجلة والبساطة والطرق المختصَرة».
الظاهرة الترمبية
إذا أضفنا إلى ذلك كله ظاهرة دونالد ترمب في الولايات المتحدة تكون النتيجة ازدياد التوجه نحو اليمين في الشطر الغربي من الكرة الأرضية. فالرجل شعبويّ حتماً في خطابه عن الهجرة والاقتصاد خصوصاً، وفي تناوله خصومه الديمقراطيين، وفي كلامه عن الأمة والعظمة والتصدي للأخطار «الوجودية»...
ولئن كنّا لا نستطيع تصنيف ترمب يمينياً متطرفاً – خصوصاً أن لا يسارَ متطرفاً في مواجهته بل لا يسار عملياً في الولايات المتحدة – فإن كلامه يعجب اليمين الأوروبي المتطرف الذي يرى فيه حليفاً طبيعياً و«ملهماً»، سواء فاز في الانتخابات الرئاسية المقبلة أو لم يفز، خصوصاً أنه ترك أثراً في الحزب الجمهوري ورسم خطاً يتبعه كثر من الجمهوريين الشباب الذين سيمسكون بزمام مستقبل الحزب، ومنهم جيمس ديفيد فانس (40 عاماً) الذي اختاره ترمب مرشحاً لمنصب نائب رئيس، وفيفيك راماسوامي (38 عاماً) رجل الأعمال الثري الذي كان مرشحاً رئاسياً شعاره «حلم أميركي جديد».
تطرّف يقابله تطرّف
الخطر الأكبر في عالم السياسة الغربية اليوم هو أن هو أن الشباب لا يجذبهم الاعتدال، بل يُنصتون بتركيز إلى المتحدثين بصوت عال و يزعمون امتلاك الحقيقة والحلول السحرية لكل المشكلات. وما يزيد الأمر سوءاً هو عامل السرعة إياه الذي يمنع الأجيال الطالعة من التدقيق في السيل الهائل مما يتدفق عليهم عبر قنوات تكنولوجيا الاتصالات المختلفة، فلا يدققون ولا يفكّرون ولا ينتقدون، بل يتبنون ما يطيب لهم سماعه ويرفضون الراي الآخر...
الخلاصة أن الديمقراطية في خطر، وشجرتها تفقد المزيد من الأوراق في المواسم الخريفية الطويلة التي يعرفها العالم اليوم. ولعل الدول الغربية التي تؤكد أن الديمقراطية هي علة وجودها، تحتاج إلى قادة كبار يعيدون إلى السياسة جوهرها، ويطوّرون عمليات صنع القرار السياسي بحيث تواكب العصر من دون أن تقع في فخّ التعجّل والعشوائية.
لكن السؤال هو من أين سيأتي هؤلاء القادة الكبار؟