لم تكن تتخيل الغزية أنعام عبد المالك أنها ستمضي حياتها مجدداً في الخيام بعد معاناة كبيرة عاشتها لنحو 15 شهراً قضتها من نزوح إلى آخر في جنوب القطاع ووسطه، حتى عادت أخيراً إلى شماله، لتجد نفسها رهينةً لحياة الخيام الصعبة.
أنعام عبد المالك البالغة من العمر (63 عاماً)، من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، فوجئت بعد عودتها مع بعض أبنائها أن منزلها قد دمر بالكامل بفعل القصف الإسرائيلي الذي طاله بجوار عدد كبير من المنازل التي تعرضت للقصف بدايات الحرب بعد أن هجرها سكانها، وفروا لمراكز الإيواء، ثم منها اضطروا للنزوح المتكرر في رحلة عذاب، كما وصفتها في حديث لـ«الشرق الأوسط».
تقول أنعام: إنها حين غادرت منزلها في مخيم الشاطئ إثر هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لقربه من موقع عسكري، كان لا يزال سالماً حتى آخر لحظات المغادرة. وفرّت إلى مجمع الشفاء الطبي الذي تحول من مجمع يداوي جراحات الغزيين المصابين ويحتضن ضحاياهم، إلى مركز إيواء لآلاف الباحثين عن بقعة آمنة، ومنهم عائلة عبد المالك. إلا أنهم اضطروا للنزوح منه مرة أخرى مع اقتراب الدبابات الإسرائيلية وقصف بعض المباني فيه، وبدء عملية محاصرته.
وتوضح أنعام أنها بقيت لأشهر قليلة في مجمع الشفاء الطبي، وعاشت مع عائلتها ظروفاً صعبة، حيث اضطرت للنوم في ممرات المستشفى مثل آلاف من النازحين الذين لجأوا للمجمع بحثاً عن الأمان.
(فيديو)
من مخيم إلى مخيم
وغالباً ما كانت السيدة وزوجها يعانيان للحصول على المياه والأكل، وأمضت مع أفراد عائلتها أحياناً يومين كاملين من دون تناول أي طعام، والاكتفاء ببعض التمور والبسكويت والمياه التي تقدمها المبادرات الشبابية.
وقامت أنعام و6 من أبنائها وبناتها، وزوجها من ذوي الاحتياجات الخاصة، بشق طريقها إلى رفح مع بدايات نزوح سكان مدينة غزة ومناطق شمال القطاع، لتجد لها مأوى في «حاصل» (محل تجاري فارغ)، بعدما «حن» (أشفق) على العائلة صاحب المكان.
لكن إقامة العائلة في ذلك المكان لم تدم طويلاً، حتى اضطروا للانتقال إلى خيمة في منطقة العلم غرب مدينة رفح، ثم دير البلح بعدما اقتحمت القوات الإسرائيلية المدينة بداية شهر مايو (أيار) 2024.
وقالت: «زوجي مريض، ومقعد، ولا يقوى على الحركة، وأبنائي فقدوا كل فرصة عمل ممكنة، وبقينا بلا مال، واعتمادنا كان على ما وزعته (الأونروا) ومؤسسات أخرى».
وأضافت: «عند وقف إطلاق النار لم تسعنا الفرحة رغم الألم والقهر الذي عشناه، وما أن سمح لنا بالعودة، صدمنا من هول الدمار الذي لحق بمنازلنا ومناطق سكننا».
وتابعت بأسى: «إجينا هان على مخيم الشاطئ، لقينا الحياة معدومة، ما فيه مية ولا بيوت ولا إشي ممكن يؤوينا»، مشيرةً إلى أن مبادرات شبابية وحكومية أقامت خياماً أنقذت حياة الكثيرين ممن عادوا.

مبادرات محدودة
وفي أقصى شمال مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، اتحدت المبادرات الشبابية والحكومية في إقامة 3 مخيمات من الخيام لإيواء النازحين العائدين، والذين دمرت بيوتهم، لكن كل هذه الجهود واجهت صعوبات كبيرة، كما يؤكد قائمون عليها.
وقال الشاب محمود عوض أحد القائمين على المخيم الذي تقيم فيه «أم عدي عبد المالك»، إنهم واجهوا صعوبة بالغة في توفير وقود لتشغيل جرافة واحدة لتمهيد الأرض وترتيب التربة الرملية من أجل إقامة الخيام، كما واجهوا صعوبات في توفير غالونات كبيرة للمياه لتوفيرها للسكان للاستخدام الآدمي، وصعوبات أكبر في توفير المياه المحلاة الصالحة للشرب.
وأشار عوض إلى أنهم يحاولون من خلال التنسيق مع العديد من المؤسسات والمبادرات والمتبرعين توفير بعض الطعام والمساعدات الغذائية لسكان المخيم البالغ عددهم حتى الآن نحو 60 عائلة، كل عائلة تضم ما لا يقل عن 8 أفراد، بينهم أطفال رضع بحاجة للحليب والمكملات الغذائية اللازمة للحفاظ على صحتهم.
وتعتبر «أم عدي» أول سيدة عاشت في المخيم بعدما فشلت في إيجاد مأوى آخر يضمها وعائلتها، لافتة إلى أنها تعاني كثيراً في توفير الحطب لإعداد الطعام.
ولعله من حسن حظ «أم عدي» أنه يتوفر باستمرار جانب المدرسة التابعة لـ«لأونروا»، مياه محلاة للشرب، بعدما نجحت مؤسسة «روستروبوفيتش فيشنفسكايا» (RVF) في تركيب وتشغيل أول وحدة تحلية تعمل بالطاقة الشمسية في شمال غزة، وذلك بدعم إماراتي لتخدم الآلاف من سكان المنطقة، ما خفف من معاناة السكان.

النوم وسط كلاب شاردة
تضطر عائلة «أم عدي» كغيرها من العائلات للمبيت في المخيم الذي يقع في منطقة مفتوحة تنتشر فيها الكلاب الضالة التي تصدر أصواتاً مرعبة ليلاً، ويخشى أن تهاجم الخيام التي تضم العديد من الأطفال والرضع الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم.
وتقول أنعام: «لا حلول أمامنا سوى القبول بالواقع الحالي، لأنه لا يوجد أي خيار آخر».
ولا يعد حال فاطمة الحاج من سكان مخيم الشاطئ، والتي تعيش في نفس المخيم، أفضل حالاً من الظروف التي تعيشها أم «عدي».
وتقول فاطمة: «حياتنا بتشبه النكبة اللي صارت مع أهالينا في الـ48، ولا نعرف متى نطلع من هاي الظروف ومتى راح تتعمر بلادنا من جديد ونرجع نسكن مثل الناس بين حيطان في بيوت تسترنا».
وأشارت فاطمة الحاج (46 عاماً) إلى أن لديها 4 من الأبناء بالكاد تستطيع توفير احتياجاتهم اليومية في ظل الظروف الصعبة، مشيرةً إلى أنها وضعت بسطة صغيرة تبيع عليها بعض الحاجيات للصغار من أجل توفير لقمة العيش.
وما زاد من أعباء الحياة الصعبة الأمطار الشتوية التي لم تتوقف لعدة أيام، ما تسبب بغرق الخيام والأمتعة القليلة من فراش، وأغطية، وغيرها.
واعتمدت الأسر في المخيم في الكثير من الأحيان على ما تقدمه إدارة المخيم من طعام، مثل الأرز وحده، لوجبتي الغداء والعشاء، والشاي بلا إضافات لوجبة الإفطار.
وقالت «أم عدي»: «كانت تمر علينا أيام لا نجد سوى العدس، أو الأرز لوجبة واحدة فقط، وفي أيام أخرى لم نتناول شيئاً على الإطلاق».