ذاق الدكتور حسن الترابي مرارة شعور المرء أن تلامذته قد خانوه. ومن عادة التلامذة أن يفعلوا. نصّب الترابي الضابط عمر حسن البشير رئيساً، وربما راوده حلم أن يحتفظ لنفسه بدور المرشد على غرار ما هو عليه الوضع في إيران. تمرد البشير ومن عادة الجنرالات أن يفعلوا. السلطة وليمة باذخة لا تحتمل التقسيم والشركاء.
في عام 2017، وكان قد مضى عام على وفاة الترابي التقيت البشير وحاورته. سألته: من أصعب رجل تعاملت معه في السودان، وجاء الجواب: «هو حسن عبد الله الترابي رحمه الله». طلبت منه تفسير العلاقة الغريبة بينهما، فقال: «هو شخصية تتمتع بكاريزما قوية جداً. ظل مسيطراً على الحركة الإسلامية لفترة طويلة. عاش صراعات كثيرة داخل الحركة وكان الكاسب دائماً، غير أنه خسر للمرة الأولى معنا».

كان البشير مغامراً ومناوراً ومتقلباً. العلاقة المتذبذبة مع إيران خير دليل. في 1992 كان وضع النظام السوداني صعباً. الحصار شديد ولا سلاح ولا ذخائر، وتراجعت قدرة العراق على المساعدة العسكرية. زار وزير المال السوداني عبد الرحيم حمدي طهران لطلب المساعدة، فكان الرد أن على نظام البشير أن يسدد الديون المستحقة على نظام جعفر نميري.
قال المسؤولون الإيرانيون إن الأولوية هي لمساعدة المجموعات الشيعية التي خرجت دولها من الاتحاد السوفياتي. أبدوا استعدادهم لتزويد السودان بالكتب والأدوات الرياضية. شعر الجانب السوداني بالصدمة. حين روى حمدي القصة للترابي كان تعليق الأخير: «ألم تقرأ كتاب البخلاء ومعظمه عن الفرس؟».
تغير موقف إيران لاحقاً. دعمت الجيش السوداني في حرب دارفور بعد 2003. جاء الإيرانيون وفتحوا حسينيات وشيّعوا بعض الناس وأخذوا مئات الشباب لتدريبهم في سوريا. أقاموا صناعات عسكرية في السودان خصوصاً في جنوب الخرطوم واستخدموا مهربين من بورتسودان لتمرير الأسلحة إلى حركة «حماس» في غزة عبر الأراضي المصرية والأنفاق. واستهدفت الطائرات الإسرائيلية لاحقاً مصانع السلاح هذه.
ذات يوم سألت الرئيس البشير إن كان قادراً على التعايش مستقبلاً مع لقب الرئيس السابق، فأجاب: «ليس سهلاً فقط، بل هو متعة لأن الكل سيحترمك بصفتك رئيساً سابقاً وينادونك في الشارع يا فخامة الرئيس من دون أدنى مسؤوليات». تعلّم التجربة الصحافي العربي ألا يصدق مثل هذا النوع من العبارات التي سمعتها مراراً في عواصم مختلفة.
من جانبه، لم يكن الترابي يتوقف طويلاً عند ممارسات بعض الحكام في بلدانهم. كان يقول إن معمر القذافي «صديقه» وإنه كان يستدعيه «بغرض التحاور وبصراحة». وكان يعتقد أن «تغييرات طرأت على شخصية صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى، خصوصاً بعدما وضع عبارة الله أكبر في العلم العراقي».
كان السياسي والباحث السوداني الدكتور المحبوب عبد السلام حاضراً في خضم تجربة الترابي والبشير التي تركت بصماتها على السودان الحالي الذي يقطر دماً.
* حين تستمع إلى أخبار السودان، هل تخشى أن تصبح بلا وطن؟
- هذا إحساس يعتري كثيرين من السودانيين، بعضهم تنتابه حالة نفسية، وبعضهم يكون واقعياً ويبدأ بترتيب أوضاعه، ويبحث عن وطن آخر. هذه حالة حقيقية واقعية تنتابني وتنتاب كثير من السودانيين عندما يتأملون الواقع، وخاصة عندما ينظرون إلى ما حدث لكل منهم، لأن الحرب هذه لم تترك شخصاً من دون أن تمسه مساً مباشراً، في تراثه المعنوي وتراثه المادي، فيما جنى وحفظ طوال عمره، وفيما ادخر.
* من يتحمل مسؤولية إيصال السودان إلى ما وصل إليه؟
- بالنسبة لي يمكن أن أقول النخب، خاصة نخب اليسار ونخب اليمين. النخب التي خرجت من رحم الماركسية، والنخب الإسلامية. صحيح أن كثيراً من تيارات الوسط تتحمل المسؤولية، في النخب، وهم، يشبه بعضهم بعضاً، اليسار واليمين، المدنيون والعسكريون، الضباط الذين يقومون بالانقلابات التي أشرت إليها، هم بعض من هذه النخب.

أشار الأستاذ الطيب صالح إلى أن بعض العسكريين يستيقظون من النوم ويفكرون في الاستيلاء على السلطة. يركبون دبابة إلى الإذاعة. لكن كثيراً من المدنيين الذين لم يتأهلوا للحكم كذلك يصحون صباحاً وعندهم هذا الشغف بالحكم والوصول إلى السلطة. هناك فارق بين الآيديولوجيا والأناشيد وحقائق الواقع الاقتصادي والسياسي والعلاقات الخارجية.
* هل أفهم أن شراهة المدنيين إلى السلطة لم تكن تقل عن شراهة العسكريين؟
- أعتقد ذلك، لأن بعض الناس، لشغفه بالسلطة، يعدّ السياسة مهنة من لا مهنة له. السياسة تحتاج إلى تدريب خاص. الطيب صالح ذكر أن العسكري، الضابط، قد يؤهل في «ساندهيرست» (الأكاديمية العسكرية البريطانية) أو في المدرسة العسكرية بباريس، لا ليحكم لكن ليدافع أو ليحارب. كذلك كثير من المدنيين يأتون من حقول بعيدة عن السياسة. بعضهم غاب عن السودان عشرات السنين، لكن الشغف بالسلطة يدفعهم إلى تولي مناصب وهم ليسوا في مستوى التحدي الذي تطرحه. فكلهم جميعاً لديهم شغف بالسلطة من دون إعداد لها، من دون برامج، من دون حتى وضع حزبي، لأنه الآن لا يوجد زعماء. لا توجد قيادات متكاملة يمكن أن تقود الوطن إلى بر الأمان.
السياسة مهنة تحتاج إلى أن يتفرغ الإنسان في اليوم الواحد 4 إلى 5 أو 6 ساعات يقرأ ويعرف ما يدور في العالم، وتحتاج إذا كنت سودانياً إلى معرفة عميقة بالسودان، وأن تكون فعلاً قد زرت أنحاءه، ولكن لا يمكن أن تأتي من لا مكان.
* هل تقصد أن الجنرالات فشلوا؟
- نعم.
* وأن المدنيين فشلوا أيضاً، وأن ما يعشيه السودان هو لقاء فشلين؟
- هو كما أشار مفكر سوداني جيد جداً، توفي رحمه الله، عبد العزيز حسين الصاوي، بقوله إذا جمعنا العلمانيين واليسار مع الإسلاميين فسنحل مشكلة السودان. مثلاً، نتأمل مشكلة مثل مشكلة الجنوب، ونظن أنها صراع سببه فقط السلطة والثروة، ولكن صراع الأجندة السياسية كذلك كان له دور كبير فيما حدث في الجنوب وفي استقلال الجنوب وخروجه عن السودان. هما فشلان لا ريب، أو فشل واحد لنخبة واحدة.
* هل تتمنى حينما تراجع نفسك لو أن الحركة الإسلامية في السودان لم تستولِ على السلطة في 1989؟
- ويمكن حتى قبل أن تستولي على السلطة، كان عندي هذا الإحساس أنها لم تنضج النضج الكافي الذي يجعلها تتولى السلطة. صحيح كنا ننظر إلى أنفسنا فنرى أن الحركة تضم قيادات مؤهلة جداً، قضت عشرات السنين في السلطة، في السياسة، بعضهم أمضى سنوات مقدرة في السلطة، عندنا كوادر تخرجت في الجامعات ونالت دراسات عليا وعاشت في الخارج، بالعشرات بالمئات. لكن الدولة، كما ذكرت أكثر من مرة، أشبه بالحائط، وكلما حاولت أن تمد يديك لتحتوي الحائط تجد أنه أكبر منك. أعتقد أننا لو تركنا الحركة الإسلامية بنخبتها بكوادرها المؤهلة تنضج على نار ديمقراطية هادئة لكانت النتيجة أفضل.
* قصة الترابي مثيرة. يدخل السجن ثم يخرج إلى السلطة. دخل السجن 5 مرات؟
- نعم، حتى في النظام الذي صنعه دخل 3 مرات.
* هل تعتقد أن الترابي هو مهندس انقلاب 1989؟
- من دون أدنى شك، نعم طبعاً.
* هل هو من صنع عمر حسن البشير؟
- لم يصنعه إنما كان ضمن خطوطه، ضمن أطره، خاصة في بداية العلاقة. كان البشير مطيعاً وكان ملتزماً بكل ما يطلب منه.
* يقال إن الترابي رآه مرة واحدة قبل الانقلاب؟
- نعم، هذه رواية الترابي ومفادها أنه التقاه يوم الأربعاء وكان موعد الانقلاب يوم الجمعة، وهذه هي التي قال فيها العبارة الشهرية: اذهب أنت إلى القصر رئيساً وسأذهب أنا إلى السجن حبيساً. لأن الانقلاب كان يقوم على خطة تمويه.
* هذه الجملة: اذهب أنت إلى القصر رئيساً وأذهب أنا إلى السجن حبيساً، هل تفسر ما حصل لاحقاً؟ هل خدع الترابي القوى السياسية ودول الجوار حول هوية الانقلاب؟
- نعم، وكان هذا هدفاً تكتيكياً ومؤكداً. وكان يقول دائماً إن العالم لا يقبل نظاماً إسلامياً، لو جاء بالديمقراطية أو جاء بانقلاب. الجوار الإقليمي لا يقبل، والعالم لا يقبل، والحرب خدعة. كان يعدّ الثورة والانقلاب حالة حرب تجوز فيها الخدعة، فخدع فعلاً دول الجوار وخدع العالم لفترة، ولكن سرعان ما اكتشفت القوى الحقيقة وراء الانقلاب.
* مرارة الخديعة كانت في مصر تحديداً لأنني أعتقد أن مصر رحبت بالنظام الجديد ولم تكن تعرف هويته؟
- نعم.
* لم تكن المخابرات المصرية قادرة على استشفاف محرك الخيوط الحقيقي الذي ذهب إلى السجن للإيحاء بأنه يعامل أسوة ببقية الأحزاب والقوى؟
- نعم.
* هل تركت هذه الحادثة بصماتها على العلاقات مع الدول المجاورة؟
- نعم إلى حد كبير، وجاءت حادثة كبرى أخطر هي حادثة حرب الخليج والموقف الذي اتخذه السودان والتصريحات التي جاءت من قادته. هو صُنف منذ ذلك الحين بأنه نظام وراءه حركة إسلامية ووراءه زعيم إسلامي معروف، ثم جاء هذا الموقف واختبروا مدى انسجام الحركة الإسلامية، التي استولت على السلطة في السودان، مع الإقليم ومع العالم فكان موقفها شاذاً ودفعت أثماناً عالية على هذا الموقف.

* هل شهدنا في السودان تجربة الشيخ والرئيس، أي الشيخ هو المرجع الأخير والرئيس هو في الظاهر مرجع المؤسسات، لكن القرار يقيم في مكان آخر؟
- ربما لم نشهد هذه الظاهرة في أي مكان كما شهدناها في السودان. لأنه فعلاً كان الحالة المثالية لحالة الشيخ والرئيس. صحيح أنهما كانا في آخر الأمر يلتقيان في مكتب واحد، في جهاز تنظيمي واحد، كان يسمى مكتب القائد، لكن الشيخ بما له من خبرة وبما له من معرفة وبما له من كاريزما وهو رسمياً رئيس الحركة والبشير عضو فيها، فهذا الظاهر والباطن. وهذا كان لا بد أن يؤدي إلى المفاصلة.
* باختصار، ما هذه المفاصلة؟
- المفاصلة هي اللحظة التي برزت فيها تناقضات الإسلام السياسي مع الدولة الحديثة. وقد حصلت في 12/12/1999.
* بعد العقد الأول؟
- نعم بعد نهاية العقد الأول تماماً، وفي بداية القرن الجديد.
* هل انتهى الأمر، كما ينتهي عادة، بشعور الترابي أن تلامذته قد خانوه؟
- نعم هذا كان شعوراً واضحاً جداً لدى الترابي الذي كان يعتقد أن بينهم مشروعاً دينياً، وهو على رأس هذا المشروع ولا ينبغي أن يتآمر عليه في الخفاء. هذا المشروع يريد أن يغير التاريخ، أما المؤامرة فلن تغير التاريخ. تلامذته المدنيون والمقربون تآمروا مع العسكريين وفاجأوه فيما عرف في تاريخ السودان بـ«مذكرة العشرة»، وهذه كانت بداية الشرخ والخلاف الحقيقي الذي انتهى بالمفاصلة الشاملة بعد عام.
* متى شعر البشير أن الترابي تحول عبئاً على نظامه؟
- ربما في فترة مبكرة، في 1993، عندما طالب الترابي بحل «مجلس قيادة الثورة» وأن يعود العسكريون إلى الثكنات أو يتنازلوا عن الزي العسكري. فكانت هذه أول مفارقة بين برنامج الترابي الاستراتيجي والحركة الإسلامية من جهة، وطموحات العسكريين الذين تولوا السلطة لسنوات من جهة أخرى.
* بدأت نذر الطلاق باكراً بهذا المعنى؟
- ولكن من شدة التحديات التي كانت تواجههم في الخارج ومن شدة الحصار في الداخل من المعارضة كانوا يعلمون أن توحدهم، بقاءهم معاً على هذه الصورة، هو الضامن لهذا النظام. أي خلاف، مفارقة، مفاصلة، في ذلك التاريخ المبكر، كانت ستذهب بالنظام كله، إضافة إلى أن الترابي كان يتمتع إلى ذلك الوقت بقوة هائلة في تنظيمه حتى في تنظيمه العسكري.
* هل كان جهاز الأمن يتجسس على الترابي مثلاً؟
- كانوا يتجسسون بمعنى أنهم، أو هذا الذي يقولونه، يمارسون مهنتهم، وكان هناك خلاف بيننا وبينهم أن في مكتبه لا ينبغي أن يكون هناك جهاز أمني رسمي، بل ينبغي أن يكون هناك جهاز يحرس الرئيس أو الشيخ حتى من الأجهزة، كما في الغرب. في أميركا هناك أمن خاص بالبيت الأبيض.
* ماذا يخطر في بالك عندما أقول لك اسم جعفر نميري، الرئيس السابق؟
- كان رئيساً قوياً جداً ذا كاريزما عالية، ولكنه كان ديكتاتوراً. أي كما يقول الفيتوري، أنت أيها المبجل في النهاية طاغية. كان ذا كاريزما عالية وشخصية قوية. وسوى شموليته وطغيانه، كان يستعين بالكوادر المؤهلة، أعلى المستويات في النخب كان يأتي بهم وزراء.

وزارات النميري لم تتكرر، لم يكن قبلها ذلك المستوى ولم يكن بعدها، حتى إن هناك قصة يحكيها رئيس الحرس الجمهوري الذي ذكر أنهم عندما زاروا واشنطن أيام الرئيس رونالد ريغان، اتصل به حاكم ولاية مينيسوتا، وقال له: الرئيس ذكر لي أن وزراء النميري أذكى من سكرتاريتي، فأنا أريد أن أرى هذه الشخصيات الذكية. وكان منهم منصور خالد، وابراهيم منعم منصور، وبدر الدين سليمان، وحسن الترابي. وهذه أسماء كبيرة بالطبع.
* وإذا قلت لك الصادق المهدي؟
- الصادق المهدي كذلك شخصية ذات كاريزما عالية جداً وذكاء وجدية شديدة، ولكنه طبعاً، ولد في بيئة فيها كثير من التقديس للقائد والتوقير له. كان عنده هذا الشعور وكأنما ولد ليكون قائداً، وإذا نظرت إلى شخصيته والبيئة حوله فستجد أن له كل الحق في أن يكون لديه هذا الشعور. لكن تحديات الدولة، تحديات السياسة كانت تقتضي كذلك عنصراً آخر في شخصيته. العنصر المتعلق باتخاذ القرار والحسم. هذا كان يمثل ضعفاً في شخصية الإمام، إذا جاز لي أن أتحدث بصراحة.

* أنا خرجت بانطباع أنه يصلح للمعارضة أكثر مما يصلح للحكم، هل هذا صحيح؟
- هو يصلح مفكراً ومحاضراً أكثر مما يصلح وزيراً أو رئيساً. هو المستوى الفكري لديه خصب جداً ومقدرته على التعبير ونقل الأفكار كذلك كبيرة، لذلك يعتريك هذا الشعور أنه رجل فكر أكثر مما هو رجل سياسة.
* امتزجت عقود من حياتك بتجربة الدكتور حسن الترابي؟
- نعم.
* على مدى 10 أعوام كنت مديراً لمكتبه؟
- نعم.
* وخارج هذا المنصب، كنت قريباً وشاركت في محطات حساسة؟
- نعم.
* حينما أقول لك حسن الترابي، ماذا يتبادر إلى ذهنك؟
- يتبادر أن هذه شخصية استطاعت أن تحدث تغييراً في التاريخ الخاص ببلدي السودان. البلد كان مؤسساً على قاعدة طائفية، هي التي كانت تمد السياسي بأسباب القوة، حتى أكبر المثقفين ليبرالية لم يكن يستطيع أن يشق طريقه من دون أن ينتمي إلى إحدى الطائفتين بأحزابهما. لكن الترابي استطاع أن يشق طريقاً بين هذين التيارين القويين («الحزب الاتحادي الديمقراطي» بزعامة محمد عثمان الميرغني و«حزب الأمة» بزعامة الصادق المهدي) إلى أن أصبح كأنما هو السيد الثالث بين هذين السيدين اللذين ورثا هذه التركة من السلطة.

* كيف كانت علاقته مع النميري. رأيته وزيراً في عهد النميري ومازحته: ماذا تفعل في عهد النميري؟ فأجابني بابتسامته الشهيرة: إننا نؤسلم النظام خطوة خطوة؟
- نعم، كان هدفه من التحالف مع النميري واضحاً جداً. نظام النميري لم يكن ذا سمعة جيدة عندما انضم إليه الترابي بعد سبع سنوات من حكمه، ولكن الترابي كان مستعداً أن يضحي بأن يظل 7 سنوات في السجون حتى يؤمّن الحركة الاجتماعية لحزبه، لحركته، وكي يؤمن العمل في صفوف الطلاب والشباب والنساء والمجتمع المدني، حتى في القطاعات التقليدية في الزراعة وغيرها. كان يريد أن يؤمن هذه الحركة وأن يبقى مع النميري في قمة السلطة. لكن السياسة فيها الكثير من الحركة.
الترابي نفسه وصف العلاقة مع النميري أو مع النظام بأنها Game (لعبة)، فيها إصابات وفيها «فاول» أخطاء، ولكن على أي حال هي لعبة تمضي بقوانين. النميري كان يعتقد أنهم لن يحكموا قريباً، يحكمون بعد موته، فلا بأس. دع الحركة الاجتماعية تمضي كما هي، والترابي يعلم أن النميري يريد أن يؤمّن نظامه. كثيراً ما كان النميري يداعب الترابي بالتقارير الأمنية، يقول له: سمعنا أنكم عقدتم اجتماعاً كبيراً في منزل فلان وأخبرني عمر الطيب، مدير جهاز الأمن، بما دار في الاجتماع وكذا. فكان يعلم، مع أن الدستور كان ينص على أن هناك حزباً واحداً هو «الاتحاد الاشتراكي»، ولكن الحركة الإسلامية كانت تتمتع بهامش من الحرية أتاح لها أن تبني نفسها، وربما سنوات البناء الحقيقي هي سنوات التحالف مع النميري التي نسميها المصالحة الوطنية.
* وسجن؟
- 7 سنوات.
* كيف كان في السجن؟
- السجن كان بالنسبة له مدرسة. هو وصف السجن بأنه لم يكن يشقى بخلوة قط. كثير من الكتب التي جاء بها من فرنسا وبريطانيا وجعلها مخزنة، قرأها في السجن. يقول إنه قرأ في السجن 400 مجلد في الاقتصاد، وهذا أقل ما قرأ. وكتب نظرية جديدة في أصول الفقه، وكل المعارف النظرية نالها في السجن، إضافة إلى المعرفة العملية التي كانت قبل السجن، إذ أمضى في البرلمان نحو 3 سنوات، ثم في المعارضة كذلك، ثم اعتقل، فكان مهيئاً، خاصة أنه عاش في بريطانيا وأنجز دكتوراه دولة في فرنسا. السجن بالنسبة له كان مدرسة كبيرة جداً، واستثمره إلى أقصى ما يمكن أن يستثمر المرء سنوات الخلوة.
* هل الاحتكاك بالثقافة الأوروبية جعل الترابي مختلفاً داخل الحركة الإسلامية في السودان؟
- وفي العالم كله، وفي العالم العربي تحديداً. يمكن أن نقول إنه أحدث أكثر النسخ رقياً لحركة «الإخوان المسلمين» وأكثرها استجابة لتحديات العصر. الثقافة الغربية فعلاً أثرت، وهناك جانب آخر منه هو التخطيط. هو كان يخطط لحركته مرحلة تلو مرحلة كما وصف في كتابه. قال: كانت هناك مرحلة خمول، دعوة سرية، ثم مرحلة إعداد وبناء، ثم مرحلة تمكين. كان يبني استراتيجياته على هذه المراحل، سيمتد في هذا القطاع على هذا النحو، وسيمتد إلى القطاع الآخر على هذا النحو، ثم يمتد حتى في القوات المسلحة ثم سيستولي على السلطة، ربما سلماً وبالديمقراطية والانتخابات، وربما حرباً أو ثورة وبانقلاب. فكان يخطط لهذا كله، وهذا من أثر الثقافة الغربية.
* كان حلم الانقلاب مبكراً لدى الترابي؟
- بعد أن خرج كل الشعب ضد العساكر في 1964ساد اعتقاد أنهم لن يحاولوا مرة ثانية الاستيلاء على السلطة، وهذا كان رأي عبد الخالق محجوب نفسه أن أكتوبر درس كبير للسلطة العسكرية ولذلك لن تحاول مجدداً. ولكن في 1969، استولى النميري على السلطة.

* تتحدث عن عبد الخالق محجوب. هل تكره الشيوعيين السودانيين؟
- لا، لا، لا. لا أكره الشيوعيين.
* هل تعدّ محجوب رمزاً؟
- نعم. من دون أدنى شك، الحزب الشيوعي السوداني حزب وطني حقيقي وقدم إنجازات كبيرة جداً. لكن أنا عندما تحدثت عن النخب تحدثت عن النخب الآيديولوجية. كانت علاقتهم بالاتحاد السوفياتي وبالماركسية كفكرة تعميهم عن كثير من المصالح الوطنية، إضافة إلى أنهم اتخذوا من الزملاء الآخرين في النخبة الحديثة، أي الإسلاميين، عدواً استراتيجياً. اليسار والإسلاميون في السودان كحالة توأمين سياميين، يجب أن يموت أحدهما ليبقى الآخر، يموت أحدهما ليحيا الآخر.
* أنا سمعت من الدكتور الترابي إشادة بمحمد إبراهيم نقد، سكرتير الحزب الشيوعي، وسمعت من نقد الشيء نفسه. إشادة كمحاور مختلف؟
- نعم.
* ما قصة هذه العلاقة وقد توطدت في سجن كوبر؟
- هي علاقة قديمة منذ أيام الدراسة الثانوية في حنتوب.
* ومعهم النميري، الثالث؟
- نعم، ثالثهم النميري. كانوا في المدرسة الثانوية نفسها، في الجزيرة بالسودان. ولكن صحيح، عندما دخل نقد إلى السجن وكان زميلاً للترابي بعد الانقلاب كان في مرحلة متقدمة من النضج الفكري والسياسي والروحي، وكذلك الترابي، فالتقيا بمستوى عالٍ من الخبرة والتجربة. الترابي اقترح عليهم في السجن، على الصادق وعلى نقد وعلى السيد الميرغني، أن يتنازلوا جميعاً عن السياسة ويكونوا حزباً واحداً لا يكونون هم رؤساء وأن يتركوا الأمر للأجيال الجديدة، ولكنهم كانوا يعلمون أن الانقلاب كان وراءه الترابي، فلم يقبلوا هذا المقترح.
* ماذا فعلت ثانوية حنتوب بالسودان؟ أنجبت النميري والترابي ونقد، أبرز ثلاثة لاعبين، ويمكن أن نضيف إليهم الصادق المهدي؟
- نعم، الصادق ليس من حنتوب بل من الخارج. لكن أنا ذكرت في واحدة من دراساتي أن البريطانيين الذين أنشأوا ثانوية حنتوب وعزلوها عن المجتمع أخرجوا جيلاً مولعاً بالمنافسات. تعرف في السودان، نتراتب في الفصول المدرسية، الأول فالثاني فالثالث إلى الأخير، فلهذا نولع بالمنافسة. هذا الولع بالمنصب الأول، بالتفوق، أحدث فتناً كثيرة في النخبة السودانية من تأثير التربية البريطانية وحنتوب.
* أريد أن أسألك عن التنافس بين الترابي والصادق المهدي وهما قريبان؟
- هما صاحبان. دائماً في العلاقة بينهما أتذكر بيت الشعر، الشطر الثاني من بيت شعر المعري، تشابه الأضداد. هما متشابهان جداً في الفكر، كلاهما ينطلق من مدرسة إسلامية، كلاهما يهتم بالحريات، بتحرير المرأة، بالاقتصاد الحر. هذه أفكار أساسية يتفقان فيها، وكانا طبعاً كأنهما حزب واحد، لأنه في أول العلاقة بينهما، كان الصادق متأكداً من زعامته للسودان بما يملك من جمهور لا يضاهى، وكان يظن أن الترابي وبعض المثقفين سينفعون في عملية التحديث في حزب الأمة، التي كان يهتم بها كثيراً. لذلك، كان يتوقع أن أقصى ما يمكن أن يكونه الترابي هو أن يكون وزيراً في إحدى حكوماته.
لكن الترابي كان له طموح آخر. كان يريد أن يؤسس حركة وأن يؤسس هذا التيار الثالث في السودان. ربما لو استمر التكامل بين حزب الأمة والإسلاميين، لشهد السودان تياراً كبيراً يضمن مستوى جيداً من الاستقرار.




