داخل القصر الرئاسي في الخرطوم... دماء طازجة وآثار دمار

جندي سوداني على سلالم القصر الرئاسي الملطخة بالدماء يوم الأحد بعد يومين من استعادته (خدمة نيويورك تايمز)
جندي سوداني على سلالم القصر الرئاسي الملطخة بالدماء يوم الأحد بعد يومين من استعادته (خدمة نيويورك تايمز)
TT

داخل القصر الرئاسي في الخرطوم... دماء طازجة وآثار دمار

جندي سوداني على سلالم القصر الرئاسي الملطخة بالدماء يوم الأحد بعد يومين من استعادته (خدمة نيويورك تايمز)
جندي سوداني على سلالم القصر الرئاسي الملطخة بالدماء يوم الأحد بعد يومين من استعادته (خدمة نيويورك تايمز)

تجمّع الجنود تحت ثريا في القصر الرئاسي المُدمّر في قلب العاصمة السودانية المُحطمة، يوم الأحد بعد الظهر، بينما كانت البنادق وقاذفات الصواريخ معلقة على أكتافهم، يستمعون إلى الأوامر.

ثم انطلقوا فوق السجادة الحمراء التي كانت تستقبل في الماضي كبار الضيوف الأجانب، نحو مركز المدينة المهجور في مهمة لاجتثاث آخر جيوب «قوات الدعم السريع» التي اشتبكت معهم على مدى عامين.

جنود يتجمعون داخل القصر الرئاسي في الخرطوم قبل تمشيط محيطه بحثاً عن جيوب لـ«قوات الدعم السريع» (خدمة نيويورك تايمز)

بعد أن سيطر الجيش السوداني على القصر الرئاسي، يوم الجمعة الماضي، في معركة شرسة خلّفت مئات القتلى، سيطر على معظم مناطق الخرطوم المركزية، ما يمثل تحولاً مصيرياً قد يغيّر مسار الحرب.

بحلول يوم الأحد، كان الجيش قد سيطر على البنك المركزي، ومقر جهاز الأمن الوطني، وفندق كورنثيا الشاهق على ضفاف النيل.

وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير ميداني موسع من قصر الرئاسة السوداني إن «ما شهدناه هناك أكد بشكل قاطع كيف غيّرت أحداث الأيام الأخيرة اتجاه الحرب، لكنه لم يبعث أملًا بإنهائها قريباً».

وقال محمد إبراهيم، ضابط في القوات الخاصة، مُشيراً إلى «قوات الدعم السريع»: «لن نترك بلدنا أبداً للمرتزقة».

في شارع مهجور على طول النيل كان حتى أيام قليلة خاضعاً لسيطرة «الدعم السريع»، كان حجم الدمار واضحاً للعيان. الأشجار على جانب الطريق جردتها الانفجارات من أوراقها. مسجدٌ تتناثر عليه آثار الرصاص. مبانٍ وزارية ومكاتب شاهقة، بُنيت بعضها بأموال من احتياطيات الذهب الهائلة في السودان، احترقت حتى أصبحت هياكل عظمية.

مقر الجيش، حيث حوصرت مجموعة من كبار الجنرالات خلال الأشهر الأولى من الحرب، تمزق بالقنابل. جامعة الخرطوم التي كانت يومًا مركزًا للنقاش السياسي، نُهبت. ومنطقة شهدت تظاهر عشرات الآلاف من الشباب السوداني في انتفاضة شعبية عام 2019 أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، أصبحت مهجورة.

كل ما تبقى من تلك الأوقات المشحونة بالأمل هو حفنة من الجداريات الباهتة المثقوبة بالرصاص.

جندي يحرس أطلال القصر الرئاسي في الخرطوم (خدمة نيويورك تايمز)

بدلًا من ذلك، حمل بعض المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية الأسلحة للقتال في الحرب المشتعلة في السودان وكانوا مجتمعين في أنقاض القصر الرئاسي يوم الأحد. القصر الرئاسي الذي بناه الصينيون، والذي تقاسمه قبل سنوات قليلة قادة الجيش المتنازعون، تحول إلى هيكل مهترئ. غطى الغبار والحطام الأجنحة الوزارية وقاعات الدولة. انهارت الأسقف. وفتحات كبيرة تطل على النيل.

في حدائق قصر قديم مجاور كان الجنود يغفون تحت الأقواس المحترقة لمبنى دمّرته القنابل.

على سلالم القصر أكوام من الأنقاض الملطخة بالدماء، في دليل على ضراوة معركة الجمعة. وتشير بقعة دماء طازجة إلى المكان الذي قتل فيه صاروخ أطلقته مسيرة تابعة لـ«الدعم السريع» أربعة موظفين من التلفزيون السوداني وضابطين صباح الجمعة.

بينما كان الجيش يطوق الموقع، وجه الجنرال محمد حمدان دقلو، زعيم «قوات الدعم السريع»، رسالة فيديو يحث فيها قواته على الصمود.

جنود يستريحون في إحدى ردهات القصر الرئاسي في الخرطوم (خدمة نيويورك تايمز)

عندما بدأ الهجوم الأخير، كان لا يزال ما لا يقل عن 500 مقاتل من جماعته داخل القصر، وفقًا لضباط عدة. لكن عندما حاولوا الفرار، وقعوا في كمائن قاتلة.

في فيديو التُقط على بعد نصف ميل من القصر، وتحققت منه «نيويورك تايمز»، ظهرت عشرات الجثث متناثرة في الشارع بجانب مركبات محترقة أو مثقوبة بالرصاص، فيما يقول الضابط الذي صور الفيديو مؤرخاً له بالسبت: «هذا موسم صيد الفئران».

وروى جنود أن مقاتلي «الدعم السريع» المتمركزين في جزيرة توتي، عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، حاولوا الفرار بالقوارب. ولم يتضح عدد الناجين. وقال متحدث عسكري سوداني، من دون ذكر تفاصيل، إن «مئات» من مقاتلي الميليشيا قُتلوا. لكن العشرات من قوات الجيش لقوا حتفهم أيضاً في معارك وهجمات بطائرات مسيّرة، وفقاً لجنود تحدثوا سراً.

قال آلان بوسويل، مدير مشروع القرن الأفريقي في «المجموعة الدولية للأزمات»، إنها «مسألة وقت» قبل أن يستولي الجيش السوداني على المدينة بأكملها، مما سيجبر «الدعم السريع» على التراجع إلى معقلها في دارفور. وأضاف: «تراجع كبير مقارنة بوضعهم خلال العام الأول ونصف من الحرب، عندما كانوا يسيطرون على معظم الخرطوم».

آثار المعارك في القصر الرئاسي بالخرطوم (خدمة نيويورك تايمز)

مع ذلك، لا يعتقد الكثيرون أن الحرب تقترب من نهايتها. كلا الطرفين مدعومان من قوى أجنبية قوية زودت السودان بالأسلحة على مدى العامين الماضيين. وقدّر نائب زعيم السودان مالك عقار أخيراً وجود 36 مليون سلاح صغير في البلاد، التي كان عدد سكانها قبل الحرب 48 مليوناً.

مع إخلاء مركز المدينة، انتقلت معركة الخرطوم الآن إلى المطار الدولي، على بعد ميل ونصف من القصر. وتظهر صور الأقمار الصناعية أن مدارجه مثقوبة بقذائف ومليئة ببقايا طائرات ركاب دمرت بعد اندلاع القتال في 2023.

وإذا نجح الجيش في الخرطوم، فمن المرجح أن يتحول تركيز الحرب إلى دارفور، حيث تفرض «قوات الدعم السريع» حصاراً قاسياً على مدينة الفاشر التي تعاني من المجاعة، وهي المدينة الوحيدة في دارفور التي لا تسيطر عليها.

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

بدء محاكمة «حميدتي» وشقيقه غيابياً في السودان

شمال افريقيا قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» (الشرق الأوسط)

بدء محاكمة «حميدتي» وشقيقه غيابياً في السودان

بدأت محكمة سودانية، أمس، أولى جلسات محاكمة غيابية لقائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» وشقيقه عبد الرحيم، بالإضافة إلى 14 من قادة «الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (بورتسودان)
شمال افريقيا قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» (الشرق الأوسط)

بدء محاكمة حميدتي وشقيقه غيابياً في السودان

بدأت محكمة سودانية، يوم الأحد، أولى جلسات محاكمة غيابية لقائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» وشقيقه عبد الرحيم، بتهمة قتل والي ولاية غرب دارفور.

«الشرق الأوسط» (بورتسودان)
شمال افريقيا عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي / وسط) محاطاً بممثلي الأحزاب السياسية المؤيدة لحكومة الوحدة في نيروبي أمس (أ.ف.ب)

تحالف «تأسيس» يشرع في ترتيبات إعلان «الحكومة الموازية»

بدأ تحالف «تأسيس» المدعوم من «قوات الدعم السريع» في ترتيبات لإعلان «حكومة موازية» في السودان كان وعد بها خلال مؤتمره في نيروبي فبراير الماضي.

العالم الحكومة البريطانية تدين إعلان «قوات الدعم السريع» تشكيل حكومة منافسة في السودان (أ.ب)

بريطانيا تعتبر تشكيل «حكومة موازية» في السودان «ليس الحل» للنزاع

أدانت الحكومة البريطانية، الأربعاء، إعلان «قوات الدعم السريع» تشكيل حكومة منافسة في السودان، معتبرة أن ذلك «ليس الحل» للحرب التي تمزق البلاد منذ عامين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك (موقع «صمود» على فيسبوك)

حمدوك يطالب باجتماع لمجلس الأمن بحضور البرهان وحميدتي

دعا رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك لعقد اجتماع مشترك بين مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي وأطراف النزاع السوداني للاتفاق على «هدنة إنسانية».

محمد أمين ياسين (نيروبي) «الشرق الأوسط» (لندن)

​«الوحدة» الليبية تتعهد التحقيق في دهس مشجعين عقب مباراة لكرة القدم

لحظة دهس سيارة أمنية لمشجعين عقب مباراة لكرة القدم في طرابلس (من مقاطع فيديو متداولة)
لحظة دهس سيارة أمنية لمشجعين عقب مباراة لكرة القدم في طرابلس (من مقاطع فيديو متداولة)
TT

​«الوحدة» الليبية تتعهد التحقيق في دهس مشجعين عقب مباراة لكرة القدم

لحظة دهس سيارة أمنية لمشجعين عقب مباراة لكرة القدم في طرابلس (من مقاطع فيديو متداولة)
لحظة دهس سيارة أمنية لمشجعين عقب مباراة لكرة القدم في طرابلس (من مقاطع فيديو متداولة)

وسط انتقادات محلية واسعة، أعلنت وزارة الداخلية بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية المؤقتة أن وزيرها المكلف، عماد الطرابلسي، أصدر تعليمات عاجلة بفتح تحقيق «فوري وشامل» في حادثة دهس سيارة تابعة لجهة أمنية، مساء الاثنين، لمشجعين عقب مباراة لكرة القدم بالمدينة الرياضية في العاصمة طرابلس.

وأكدت الوزارة على «ضرورة تحديد المسؤوليات بدقة»، مشيرة إلى جلب السيارة وسائقها، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. وأعربت عن أسفها البالغ لما حدث، وعدّت هذا التصرف «سلوكاً فردياً لا يعكس بأي حال من الأحوال سياستها أو نهجها المهني»، وشدّدت على أنها «لن تتهاون في اتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية لمحاسبة المتورطين، وتحقيق العدالة، وإنصاف المتضررين».

لكن الوزارة قالت في المقابل إن الحادثة وقعت «نتيجة اعتداء بعض المشجعين على دوريات الشرطة، التي ادعت أنها سعت لتفادي التصعيد والابتعاد عن موقع الحادث».

وزير الداخلية المكلف بحكومة «الوحدة» عماد الطرابلسي (وزارة الداخلية)

وبعدما أكدت التزامها بالعمل وفق معايير أمنية وإنسانية وقانونية، وضمان احترام حقوق المواطنين وسلامتهم، دعت الجميع إلى «التزام التهدئة وتحري الدقة في تداول المعلومات، إلى حين انتهاء التحقيقات، وصدور نتائجها النهائية، وتعهدت إطلاع الرأي العام على أي مستجدات تتعلق بالقضية فور توفرها».

وأظهرت مقاطع فيديو تعمّد سيارات مسلحة، تحمل شعار وزارة الداخلية بالحكومة، الاصطدام بعدد من الجماهير خارج أسوار ملعب طرابلس الدولي، عقب انتهاء مباراة أهلي طرابلس والسويحلي، ما أدى إلى إصابة عدد غير معلوم تم نقلهم في حالة حرجة للعلاج، كما رصدت وسائل إعلام محلية اعتداء عناصر تابعة لوزارة الداخلية مسؤولة عن تأمين الجماهير، على المشجعين أثناء خروجهم من ملعب المباراة.

وبحسب شهود عيان، فقد أقدم بعض المشجعين على حرق وتكسير عدد من السيارات التابعة لـ«جهاز الأمن العام»، بإمرة شقيق عماد الطرابلسي، عبد الله الشهير بـ(الفراولة)، رداً على الواقعة.

بدورها، اتهمت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان سيارات الشرطة، التابعة لإدارة الدعم المركزي بوزارة الداخلية، بالاعتداء والدهس المباشر لمشجعي النادي الأهلي، ما أدى إلى إصابة بعضهم بإصابات خطيرة، نقلوا على أثرها إلى العناية الطبية. وعدّت ما قام به من وصفتهم بأفراد الأمن «غير المنضبطين» استخفافاً بحياة وأرواح وسلامة المواطنين، وتهديداً للأمن والسلم الاجتماعي، ومساساً بحياة وسلامة المدنيين، وترويعاً وإرهاباً مسلح لهم، وبمثابة أعمال وممارسات تُشكل جرائم يعاقب عليها القانون.

وبعدما حملت المسؤولية القانونية الكاملة للطرابلسي، طالبت المؤسسة بفتح تحقيق شامل في ملابسات وظروف هذه الجريمة، وضمان محاسبة المسؤولين عنها وتقديمهم للعدالة، وعدم إفلاتهم من العقاب.

وعقب عملية الدهس، تصاعدت الانتقادات للأجهزة الأمنية وللتشكيلات المسلحة ولحكومة «الوحدة». ودخل فتحي باشاغا، رئيس حكومة شرق ليبيا السابق، ليعبر عن أسفه مما «تشهده بعض الفعاليات الرياضية من تدخلات سلبية من جهات مدنية وأمنية وعسكرية، حوّلت هذا الفضاء الرياضي من جسر للتقارب إلى ساحة للتوتر والاحتقان».

فتحي باشاغا رئيس حكومة شرق ليبيا السابق (الشرق الأوسط)

وقال باشاغا في تعليق على الحادث: «تابعنا المباراة التي اتسمت بحضور جماهيري لافت، وأجواء تنافسية متميزة، إلا أن هذه الأجواء شابها مشهد مؤلم، يُظهر مركبات تابعة لوزارة الداخلية، وهي تدهس عدداً من الجماهير خارج محيط الملعب، في سلوك يناقض مقتضيات المسؤولية والواجب واحترام المهنة».

ورأى باشاغا أن ما وقع لبعض الجماهير من دهس «يشكل انتهاكاً صريحاً لنصوص الإعلان الدستوري، ولأحكام المادة (3) من قانون الشرطة، التي تُلزم رجال الأمن بحماية الأرواح والأعراض والأموال، والممتلكات العامة والخاصة، وصون الحقوق والحريات المكفولة».

كما أدان «المجلس الوطني للحريات وحقوق الإنسان» عملية الدهس، محملاً الجهات الرسمية، ومن بينها وزارة الداخلية، المسؤولية القانونية والأخلاقية عما سمّاها «الانتهاكات الجسيمة، التي تمثل إخلالاً خطيراً بحقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة والسلامة الجسدية».

ولفت المجلس إلى أن استخدام القوة، أو وسائل النقل الرسمية في قمع المواطنين، أو الاعتداء عليهم «يعد مخالفة صريحة للدستور والقوانين الوطنية، فضلاً عن المواثيق الدولية»، وطالب بفتح تحقيق «عاجل وشفاف ومستقل» في الواقعة، وإخضاع المسؤولين عنها للقضاء.