تُبدي معظم البعثات الدبلوماسية المعتمَدة لدى لبنان قلقاً مزدوجاً حيال دخول لبنان فراغاً رئاسياً مديداً يمكن أن ينسحب على قيادة الجيش، وتسأل في حال أن التنقيب عن النفط تقدم على «التنقيب» عن رئيس الجمهورية، هل تستمر معركة شد الحبال بين قائد الجيش العماد جوزف عون، ووزير الدفاع الوطني في حكومة تصريف الأعمال العميد المتقاعد موريس سليم، بالإنابة عن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ووريثه السياسي رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي لا يترك تهمة إلا ويُلصقها بقائد الجيش، وآخرها اتهامه بتسهيل دخول السوريين إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية؟
وتستغرب هذه البعثات، كما تقول مصادرها لـ«الشرق الأوسط»، استمرار باسيل في حملته على العماد عون، رغم أنها كانت قد أُحيطت علماً بأن وحدات الجيش المرابطة على الحدود اللبنانية - السورية تمكّنت حتى الساعة من إبعاد أكثر من 18 ألف سوري حاولوا «التسلل» إلى الأراضي اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية الممتدة في معظمها على طول الحدود المشتركة بين البلدين والتي يقدّر طولها بأكثر من 375 كلم، وترى أن هناك ضرورة لتحييد الجيش عن تصفية الحسابات بإبعاد عون من السباق الرئاسي.
فمعركة شد الحبال التي يقودها باسيل واضطرار قائد الجيش للرد عليه، وإن كان لا يسمّيه، آخذةٌ في التصاعد بالتلازم مع انسداد الأفق أمام انتخاب رئيس للجمهورية، رغم أن الموفد القطري الشيخ جاسم بن فهد آل ثاني، سعى، من خلال لقاءاته رؤساء الكتل النيابية والقيادات المعنية بإخراج الاستحقاق الرئاسي من التأزّم، إلى إحداث خرق، تحضيراً لزيارة وزير الدولة القطري محمد بن عبد العزيز الخليفي، فيما لم يصدر أي موقف من اللجنة الخماسية حيال التحرك القطري ريثما تتضح الصورة فور عودة الموفد الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، إلى بيروت لتجديد مساعيه بحثاً عن خيار ثالث من خارج المرشحين: النائب السابق سليمان فرنجية والوزير السابق جهاد أزعور.
لكن مصادر نيابية أكدت لـ«الشرق الأوسط»، نقلاً عن الموفد القطري، أن تحركه يأتي بالتنسيق مع اللجنة الخماسية ولا يتعارض مع المهمة الموكلة إلى لودريان، وقالت إنه طرح 4 أسماء في معرض استمزاج الآراء حول الخيار الرئاسي الثالث، هم، حسب الترتيب: العماد جوزف عون، المدير العام للأمن العام بالإنابة، واللواء آلياس البيسري، النائب نعمت أفرام، والوزير السابق زياد بارود. من دون أن يقفل الباب أمام من التقاهم بإضافة أسماء جديدة، على أن يعود القرار النهائي للبرلمان، لأنه وحده يمسك بزمام المبادرة لوقف الفراغ المديد في رئاسة الجمهورية.
ولم تُفلح حتى الساعة الوساطة التي قام بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي برعايته أكثر من لقاء بين الوزير سليم والعماد عون في محاولة لإصلاح ذات البين بينهما، إضافةً إلى مبادرة مدير المخابرات في الجيش العميد أنطوان قهوجي، بجمعهما في مكتبه في اليرزة من دون أن يؤدي استمرار خلافهما إلى حجب ما يتطلبه الجيش من احتياجات، كون سليم لا يتردد في التوقيع على كل الطلبات التي تحال إليه من قيادة الجيش.
لكنّ المعركة بينهما لن تدوم طويلاً في حال استمرار الشغور الرئاسي إلى ما بعد العاشر من يناير (كانون الثاني) المقبل، وهو الموعد المحدد لإحالة العماد عون إلى التقاعد، لأنه من غير الجائز، كما تقول المصادر الدبلوماسية لـ«الشرق الأوسط»، أن يُترك مصير المؤسسة العسكرية للقضاء والقدر في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان.
وفي هذا السياق، تلفت مصادر سياسية بارزة إلى أن الفراغ الرئاسي لا يجوز أن ينسحب على المؤسسة العسكرية، وأن هناك ضرورة لتفاديه لئلا يسقط ما تبقى من الهيكل على رؤوس اللبنانيين، خصوصاً أن إسناد قيادة الجيش بالإنابة إلى الضابط الأقدم والأعلى رتبة، لا يشكل فقط مخالفة لقانون الدفاع، وإنما وجوده على رأس المؤسسة لا يفي بالغرض المطلوب، ولا يملك صلاحيات إصدار القرارات بشغور منصب رئيس الأركان الذي ينوب عن العماد عون فور إحالته إلى التقاعد.
وتؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن انتداب العضو المتفرّغ في المجلس العسكري اللواء بيار صعب لينوب عن العماد عون بمرسوم يصدر عن الوزير سليم يُشكل مخالفة لقانون الدفاع ويُقحم البلد في اشتباك سياسي هو في غِنى عنه، مع إصرار الطائفة الدرزية على تعيين رئيس للأركان خلفاً للواء أمين العرم الذي أُحيل إلى التقاعد، كون هذا المنصب من حصتها.
وتكشف عن أن إحالة العرم إلى التقاعد ومعه اللواءان مالك شمص مدير الإدارة في الجيش، وميلاد إسحاق المفتش العام، تعني أنه يتعذّر على المجلس العسكري الانعقاد برئاسة العماد عون لعدم توافر النصاب المطلوب لانعقاده، وهذا ما يكمن وراء تكليف مَن تبقى في المجلس العسكري بتدبير وتسيير أمور المؤسسة العسكرية، خصوصاً أن تكليف ضابطين خلفاً لشمص وإسحاق لا يعطيهما الحق في حضور اجتماعات المجلس العسكري لأن دورهما يقتصر على تدبير شؤونها، وإنما على نطاق ضيق، فيما قانون الدفاع يَحول دون تكليف الضابط الأعلى رتبة بتولّي رئاسة الأركان بالنيابة عن اللواء العرم.
وترى المصادر نفسها أن هناك صعوبة في تصويت البرلمان على اقتراح القانون المقدّم من «اللقاء الديمقراطي» برفع سن التقاعد للعسكريين لسنتين من أدنى رتبة إلى أعلاها، وتردّ السبب إلى أن إقراره يعني حكماً إحداث تخمة في عدد الضباط من رتبة عميد يمكن أن يصل إلى نحو 800 ضابط، وهذا ما يؤدي إلى حرمان الضباط من نفس الرتبة من فرصة التداول في تولي مناصب رئيسية في المؤسسة العسكرية، باعتبار أن الأقدمية في الرتبة لا تسمح لهم بتولّيها.
وتؤكد أن الوزير سليم لا يزال يرفض الموافقة على التمديد لقائد الجيش وملء الشغور في المجلس العسكري بذريعة امتناعه عن التوقيع على ما هو مطلوب منه في غياب رئيس الجمهورية، وتقول إن تمديد الشغور الرئاسي إلى ما بعد إحالة العماد عون إلى التقاعد سيفتح الباب أمام توزّع الضغوط بين الداخل والخارج لإقناعه بوجوب إعادة النظر في موقفه لجهة القيام بكل ما هو مطلوب منه، لأن انتقال الفراغ إلى المؤسسة العسكرية يمكن أن يأخذ البلد إلى مكان آخر كونه المؤسسة الأم، وتشكِّل إلى جانب المؤسسات الأمنية الأخرى صمام الأمان لحماية السلم الأهلي والحفاظ على الاستقرار ومنع تدحرجه إلى مزيد من الانهيار، مما يدفع بعض الأطراف إلى الترويج لمشاريع أقل ما يقال عنها إنها تستهدف الإطاحة باتفاق الطائف، الناظم الوحيد للعلاقات بين المكوّنات السياسية والطائفية التي يحتضنها لبنان، رغم الشوائب التي لحقت به من جراء سوء تطبيقه.
لذلك لن يطول أمد معركة شد الحبال التي تستهدف حصة الموارنة في التركيبة السياسية، إذا ما أُلحقت قيادة الجيش بالشغور في رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان!