فتحت الحوادث الإرهابية الأخيرة التي تورط فيها مواطنون من آسيا الوسطى، أو ما يسمى بـ«العالم التركي» The Turkic World، الكثير من التساؤلات حول تمدد التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» و«القاعدة» في هذه المناطق، وانعكاس ذلك، بالتالي، على منطقة الشرق الأوسط.
منفذو الهجوم على مطار أتاتورك الدولي في 28 يونيو (حزيران) الماضي ومطعم ونادي رينا في إسطنبول في الساعات الأولى من عام 2017 جاؤوا من منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. إذ نفذ هجوم المطار شيشاني وأوزبكي وقيرغيزي تلقوا، على ما يبدو، تدريباتهم على يد «داعش»، بحسب السلطات التركية. ثم تبين أن عبد القادر ماشاريبوف المكنّى بـ«أبو محمد الخراساني»، منفذ «مجزرة رأس السنة» في مطعم رينا، الذي سقط في قبضة الأمن التركي ليل الاثنين الماضي، من أوزبكستان أيضًا وينتمي إلى «داعش». ويرى خبراء في مكافحة الإرهاب أن تكرار هذه العمليات يشير إلى أن التنظيم الإرهابي المتطرف أعلن حربًا على تركيا بسبب مقاتلته في سوريا عبر عملية «درع الفرات» التي انطلقت في 24 أغسطس (آب) الماضي. ولعل التنظيم بدأ توظيف فعلاً خلاياه من مواطني دول آسيا الوسطى الذين يعيش الآلاف منهم في تركيا، وغالبيتهم تجيد اللغة التركية ومنخرطة في المجتمع بسهولة؛ ما يزيد من خطورتهم. ويؤكد الخبراء، أنه من الصعب تأكيد عدد الأوزبك والقيرغيز الذين يقاتلون اليوم في صفوف «داعش»، إلا أن ما يلفت الانتباه هو أن غالبيتهم يُستخدمون في العمليات الانتحارية.
ما زال خطر تمدد التنظيمات الإرهابية وانتشارها، ومنها «داعش» الذي استطاع الانتشار في مناطق ودول كثيرة، يشكل مصدر قلق وخوف بالغ للكثير من حكومات دول آسيا الوسطى. وهذه الدول تجد اليوم صعوبة بالغة في التعامل مع هذا الملف، الذي بات يشكل تهديدا حقيقيا للأمن والاستقرار، وهي التي تعاني أصلا مشكلات وأزمات أمنية واقتصادية كبيرة، قد تكون سببا في تنامي خطر «داعش» الذي يعتمد استراتيجيات وخططا خاصة للتجنيد والتمويل، وتنفيذ العمليات الإرهابية في جميع أنحاء العالم.
ويعتقد بعض الخبراء، أن هناك الكثير من العوامل والمقومات التي قد تساعد في انتشار «داعش» وأمثاله في بعض دول آسيا الوسطى، ولا سيما أن عددًا من التنظيمات والشخصيات المتشددة أعلنت مبايعة التنظيم ودعمه. وفي الفترة الأخيرة، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن نحو أربعة آلاف مهاجر من آسيا الوسطى سافروا إلى سوريا للانضمام إلى التنظيمات المقاتلة هناك بعد تجنيدهم سرًا من قبل إرهابيين شيشانيين.
وحقًا، يشعر قادة دول آسيا الوسطى، بالذات، بقلق بالغ من تمدد التنظيمات الإرهابية في أراضيها. وفي حين أعربت الولايات المتحدة عن تخوفها من انتشار «داعش» في هذه الدول الإسلامية التي كانت جمهوريات ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، تخشى روسيا اختراق «داعش» حدودها الجنوبية؛ وهو ما دفع الدول الكبرى إلى تكثيف جهودها الأمنية في هذه المناطق.
وفي خطوة غير مسبوقة، أرسلت الولايات المتحدة المئات من الدبابات وناقلات الجنود وكميات كبيرة من الأسلحة إلى جمهورية أوزبكستان. كما أن روسيا ستزود طاجيكستان، وهي الجمهورية الوحيدة غير التركية في آسيا الوسطى السوفياتية سابقًا؛ إذ إن التاجيك آريون وأبناء عمومة الإيرانيين، بأسلحة متطورة بقيمة مليار وثلاثمائة مليون دولار؛ لمساعدة هذه الجمهورية من مواجهة الجماعات المسلحة. ومن جانبها، تشعر الصين الشعبية التي لها حدود مشتركة مع وسط آسيا بتخوف وقلق من امتداد «داعش» إلى حدودها الشرقية وانتشارها في إقليم سنكيانغ (غرب الصين) المعروف بـ«تركستان الشرقية»، حيث يشكّل الويغور الترك غالبية السكان الأصليين في الإقليم.
* مقاتلو القوقاز
جدير بالذكر، أنه سبق أن أعلن مقاتلون من أربع جمهوريات مسلمة في منطقة القوقاز هي جمهوريات داغستان والشيشان وإنغوشيتيا (الإنغوش) وقباردينو – بلكاريا (القبرطاي والبكار)، وكلها جمهوريا ذاتية الحكم ضمن جمهوريا روسيا الاتحادية، مبايعتهم تنظيم داعش في تسجيل مصور على الإنترنت باللغتين العربية والروسية.
ويقول مسؤولون في روسيا إن «آلاف الروس، وجلّهم من القوقاز، سافروا بالفعل إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف (داعش)». وقدّر نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي، أن الرقم يصل إلى ألفي مقاتل، وتحدث عودة هؤلاء المقاتلين في الغالب عن طريق تركيا بعدما يدعون أنهم سياح فقدوا أوراقهم.
من جهة ثانية، أصدرت جمهورية طاجيكستان مذكرة اعتقال دولية لقائد «القوات الخاصة» في شرطتها غول مراد حليموف؛ لانضمامه إلى «داعش»، واتهمته بالخيانة العظمى. وكان الكولونيل حليموف (40 سنة)، الذي تلقى تدريبا في الولايات المتحدة، قد اختفى ثم ظهر في شريط فيديو نشر على الإنترنت وهو يتشح بالسواد ويلوح ببندقية قنص، ويهدد بنقل القتال إلى روسيا والولايات المتحدة. وأثار انشقاق حليموف يومذاك قلق كثيرين في طاجيكستان الواقعة على الحدود مع أفغانستان، التي ما زالت مضطربة بعد مقتل عشرات الآلاف في حرب أهلية بين عامي 1992 و1997. في حين عزّزت دول عدة في آسيا الوسطى المناورات العسكرية مع روسيا والولايات المتحدة، مؤكدة عزمها على محاربة التطرف باسم الإسلام.
* منطقة خصبة
من ناحية ثانية، يرى خبراء أن غياب اهتمام الإعلام الغربي وقلة تركيزه على منطقة آسيا الوسطى يدفع إلى إهمال الربط بين «داعش» والدول ذات الشعوب المنتمية للعرق التركي في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق بآسيا الوسطى، ومن هنا، فإن التنظيم يستفيد من تجنيد أبناء هذه الشعوب للقيام بعمليات في تركيا؛ إذ إن اللغة والثقافة مشتركتان، ما يسهّل اندماجهم بسهولة بين المواطنين الأتراك أكثر من العرب، وهذه الصفات بالإضافة إلى التاريخ المضطرب الذي عاشته دول المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي؛ يجعلها منطقة خصبة لاكتساب أتباع جدد للتنظيم.
ويلفت الأكاديمي التركي نهاد يلماز، إلى أن انهيار الاتحاد السوفياتي قاد إلى المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية الأفغانية، وإلى اندلاع الحرب في طاجيكستان، التي أدت إلى ظهور حركة طالبان في أفغانستان، الحركة الأقل شهرة منها في أوزبكستان أي «الحركة الإسلامية الأوزبكية». وحسب يلماز كان الهدف الأبرز للحركة الأخيرة الإطاحة بنظام الرئيس (الراحل) إسلام كريموف في أوزبكستان والاستعاضة عنه بـ«خلافة إسلامية» تحكم المنطقة، وأن جمهوريات أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وكازاخستان ضبطت حركة التنقل فيما بينها.
هذا، وشنّت «الحركة الإسلامية الأوزبكية» هجمات خطيرة على قيرغيزستان من قواعدها في طاجيكستان المجاورة في عامي 1999 و2000 قبل تقييد قدرات الحركة بالاجتياح الأميركي لأفغانستان عام 2001. ورغم تدمير أميركا وحلفائها «الحركة الإسلامية الأوزبكية» خلّفت الأخيرة وراءها تراثًا يقوم على محاولات خلق بديل إسلامي للأنظمة الديكتاتورية في دول آسيا الوسطى في حالة غير مسبوقة إقليميًا. وتجسد تصاعد القمع وعمليات الاضطهاد ضد الجماعات الإسلامية والمعارضة في المجزرة التي وقعت عام 2005 في مدينة أنديجان بأوزبكستان، عندما قمع الجيش الأوزبكي المتظاهرين من المواطنين الذين طالبوا بوظائف أفضل وتعليم وخدمات حكومية، وأدى تحدي المتشدّدين للحكومة إلى وقوع ألف قتيل.
* غياب الإصلاحات
ويرى خبراء، أن حظر الأحزاب الإسلامية السياسية والمنظمات، مثل حزب التحرير الإسلامي، الذي يهدف إلى إقامة «الخلافة» في آسيا الوسطى عبر السياسة لا العنف، دفع كثرة من الشباب إلى حظيرة الراديكاليين الذين يعملون بشكل سري. وهذا على الرغم من أن اللجوء إلى العنف باسم الإسلام مرتبط باليأس والغضب والاضطهاد والسياسات الخاطئة لا فهم الدين.
وتحديدًا، يشير الخبراء إلى أن إخفاق حكومات آسيا الوسطى في تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية، وتخفيف الضغط على الأحزاب والمنظمات الإسلامية أدى إلى اندلاع نزاع واسع يستلهم الكثير من أفكار «داعش»، وعمليات إرهابية واسعة ينفذها أبناء آسيا الوسطى في الخارج. وهذا بالضبط ما عكسته الاعتداءات القاتلة في إسطنبول، حيث بات واضحًا أن المجندين من أبناء دول آسيا الوسطى في صفوف «داعش» قرّروا مغادرة المناخ الذي يعيشون فيه، والبحث عن مناطق للقتال في سوريا وتركيا. وكانت فيونا هيل، الباحثة في معهد «بروكينغز» بالعاصمة الأميركية واشنطن، قد ناشدت الكونغرس الأميركي ضرورة التحليل العقلاني والعميق للخطاب الديني المتطرف، واعتبرت أن الالتزام الطويل الأمد، والتقييم الحذر، وتنسيق الخطط الطارئة هي الحلول الوحيدة من أجل مواجهة تحديات آسيا الوسطى، وتحقيق النجاح في الحرب ضد تنظيمات مثل «داعش». وقالت: إنه طالما واصلت أنظمة المنطقة تجاهل معاناة الناس العاديين فإن أعدادا جديدة منهم ستنضم إلى صفوف «داعش» وتقوم بارتكاب أفعال إرهابية في الخارج.
* الاحتضان التركي
وهنا، يشير الأكاديمي التركي يلماز إلى أن الاحتضان التركي للفارين من قمع الأنظمة في كيانات الشعوب التركية في آسيا الوسطى يعود إلى الإرث العثماني. ويلفت إلى دور التوجهات الراهنة في تركيا لاحتضان مَن يعانون الظلم والقهر في أوطانهم، وهم في غالبيتهم من الإسلاميين السنة المحافظين الذين هم على خلاف مع حكومات بلادهم. وبحسب التقارير، فإن بعض هؤلاء عبروا الحدود إلى سوريا للمشاركة في الحرب، وبعضهم أخذ معه أطفالا، مثل الداعشي الأوزبكي عبد القادر ماشاريبوف منفذ هجوم مطعم ونادي «رينا». إذ وصل هؤلاء إلى تركيا مع عائلاتهم، ويشكّل الأولاد القادمون من آسيا الوسطى الجزء الأكبر من «أشبال الخلافة»، وبعضهم لا يزيد عمره على ثماني سنوات، وظهر هؤلاء عبر فيديوهات ينفذون فيها عمليات إعدام.
وهنا، يشير البعض إلى أن التدفق عبر الحدود التركية ذهابًا وإيابًا إلى سوريا كان سببا في التوتر بين أنقرة وموسكو قبل التفاهمات الأخيرة بينهما، التي أدت إلى تنسيق في الحرب على التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» و«النصرة»، وتفاهمات من أجل وقف إطلاق النار في سوريا، وصولاً إلى مفاوضات السلام بين الأطراف السورية في آستانة عاصمة كازاخستان بعد غد (الاثنين). وكانت العلاقات بين أنقرة وموسكو قد توترت على خلفية وجود لاجئين من الشيشان وطاجيكستان وجمهوريات آسيا الوسطى (التركية الشعوب) السوفياتية سابقًا داخل تركيا، واتهام روسيا بالإقدام على اغتيال عناصر منهم.
كذلك، سبق للحكومة التركية أن دعمت شعب الويغور، التركي عرقيًا، في «تركستان الشرقية» (سنكيانغ) بعد اتهام الحكومة الصينية بشن حملة ضدهم خلال شهر رمضان؛ إذ أصدرت وزارة الخارجية بيانًا قالت فيه «شعبنا حزين بشأن الأخبار التي تقول إن الأتراك الويغور منعوا من الصيام، أو أداء فروضهم الدينية الأخرى». وللعلم، كانت الحكومة الصينية قد ادعت، بدورها، قبل سنتين أن نحو 400 مقاتل من الويغور يقاتلون في سوريا، وأن الطريق التي سلكوه كان من قيرغيزستان، ثم تركيا لعبور الحدود إلى سوريا. ووفق تقارير إعلامية، تضاعف هذا العدد أربع مرات.
«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب
سفاح «ليلة رأس السنة» في إسطنبول زاد من التساؤلات حولها
«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة