قبل ثلاثة أعوام وضع المخرجان التسجيليان نيكولاس إياغوتزي وبابلو شيهيبار خطّة عمل لفيلمها المقبل. الموضوع الماثل أمامهما كان تناول حياة وأعمال العلماء التشيليين الذين تركوا البلاد وهاجروا إلى دول أخرى للعمل فيها.
خلال بحثهما في الموضوع برز فجأة اسم شخص اسمه بل غايدي الذي لا علاقة له بالموضوع المنوي تحقيق فيلم عنه. فهو لم يكن سوى مهندس أرجنتيني المولد (ولد سنة 1952) انتقل للعمل في الولايات المتحدة في سن مبكرة. لكن شيئًا استرعى الانتباه: الرجل كان جاسوسًا مزدوجًا، عمل لصالح الروس والكوبيين والألمان الشرقيين لفترة، ثم انقلب وعمل لصالح الأميركيين لفترة أخرى. بعد ذلك قرر أن يكمل مشواره التجسسي مع عملاء آخرين.
بتدرج سريع تحوّل المخرجان من العمل على مشروعهما الأول للعمل على مشروع جديد هو، بالتأكيد، أكثر إثارة من مجرد ملاحقة علماء تشيليين تركوا البلاد لسبب أو لآخر. فغايدي كان في العقد الثاني من عمره عندما أعجب بالشيوعية كـ(آيديولوجيا) وقرر أن يخدمها كيفما استطاع.
كان يعمل آنذاك في مصنع إلكتروني في «سيليكون فالي» (ولاية كاليفورنيا) وقرر تسريب معلومات مصوّرة للمنتجات، ومنها رقائق دقيقة كانت في الثمانينات بمثابة الجيل الأول لما استحدث لاحقًا ويستخدم اليوم من رقائق إلكترونية في الهواتف النقالة وأجهزة الكومبيوتر وخلافها.
معلوماته أفرحت المخابرات الكوبية، وتعاونه تم تقديره على أعلى مستوى. المرجح، كما يذكر الفيلم المنجز الآن تحت عنوان «تشي المجنون»، أن الرئيس كاسترو دعاه إلى قصره وأن غايدي وافق وقصد كوبا للغاية. لكن الذي حدث، حسب الفيلم وليس من مصادر محايدة أو مختلفة، أن الجاسوس بالاختيار غايدي لم يكن مستعدًا لرؤية كل هذا الكم من الشقاء بين الكوبيين. الحياة المدقعة، البيئة ذات الدخل المحدود على نحو شامل أزعجته، ومعايشة الحياة الكوبية التي تغنّى بنظرياتها السابقة دفعته لمراجعة ذاته، من هنا بدأت رحلته الثانية. استدارة كاملة من التجسس لصالح كوبا للتجسس عليها والتعامل مع وكالة FBI بتزكية من وكالة المخابرات الأميركية CIA.
* مغامرة محببة
التبرير الوارد في الفيلم قابل للتصديق لكنه ليس كافيًا، معقول لكنه غير مبرر تمامًا، وما يؤكد ذلك باقي حكاية الجاسوس ذاتها. في عام 1992 عاد إلى الولايات المتحدة، وحصل على عمل في شركة إنتل في مدينة صغيرة تقع جنوب شرقي مدينة فينكس (عاصمة ولاية أريزونا) اسمها شاندلر. هناك وجد نفسه أمام منجزات إلكترونية متطورة عما كانت عليه في أواخر الثمانينات، فنقلها إلى فيلم في الوقت الذي كشفت فيه الشركة فعلته. حين شعر بالخطر هرب إلى أميركا الجنوبية واتصل بالصينيين والإيرانيين وباع الاثنين المعلومات التي بحوزته.
لكن الرجل، لسبب آخر غير مفهوم بكامله، عاد إلى الولايات المتحدة، حيث كان البوليس بانتظاره وأودع السجن لثلاث وثلاثين سنة. بعد الإفراج عنه وجد عملاً في ألمانيا ونزح إليها، حيث تابعه المخرجان وأجريا معه مقابلة للفيلم تتقاطع هنا، بمونتاج عادي القيمة، بين حياته وأعماله وبين حضوره الشخصي وحديثه للكاميرا.
عنوان الفيلم مركب من الاسم الأول لتشي جيفارا، ومن اللقب الذي أطلق عليه خلال فترة سجنه. «كرايزي تشي» يتحدث عن فترة اعتقاله ويسردها، وباقي الفترات كما لو كان يتحدّث عن مغامرة محببة. وربما كانت كذلك بالفعل، فحسب شهادة أخيه هو لم يقصد أن يخون أميركا، بل هوته المغامرة ولم يستطع الاستقرار على وجهة واحدة، فانتقل من معسكر إلى آخر.
لكن بِل غايدي، أو تشي المجنون، لا يضع كل اللوم على نفسه. يعترف بما أقدم عليه، لكنه يحيل هذا الاعتراف إلى ظروف أو يجعل منه مادة لإظهار قناعته بأمر آخر. فالفقر المدقع لكوبا غير وجهة نظره، وإحساسه بأن جهاز «إف بي آي» ينوي خداعه هو مبرر آخر للانتقال ثانية إلى صف الأعداء. وهو حين توجس شرًا من رجال الجهاز ابتدع كاميرا خفية لالتقاط المقابلات التي تتم بينه وبين رجال الجهاز لكي يوثّق كل شيء.
هذا ربما لم يعفه من سجن لثلاثة عقود خرج منه رجلاً منهك القامة، لكنه جعله صاحب حضور بين عالم يعج بالجواسيس دومًا.
ليس كل «شي» جيفارا
«تشي المجنون» فيلم عن جاسوس غير وجهته أكثر من مرّة
ليس كل «شي» جيفارا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة