عقدة غزة

إسرائيل شنت 13 عملية عسكرية واسعة في القطاع خلال 13 سنة.. وقضيتها مشتعلة

عقدة غزة
TT

عقدة غزة

عقدة غزة

«أتمنى أن أصبح ذات يوم لأجد البحر قد بلع غزة بالكامل».. هذا ما قاله إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وأحد أكثر القادة الإسرائيليين الدهاة إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في عام 1988، واستمرت عدة سنوات، وهو تعبير واضح وصريح وبليغ ويختصر عقدة غزة بالنسبة لإسرائيل، أو كما يحلو للإعلام الإسرائيلي تسميتها أحيانا «طنجرة الضغط».
وعلى مدار سنوات الاحتلال الطويلة، كانت «طنجرة الضغط» هذه قنبلة موقوتة بحق، دخولها مشكلة والانسحاب منها مشكلة أكبر، وتركها في حالها مسألة أصعب وأصعب.
لم يترك الإسرائيليون شيئا إلا جربوه في غزة: الهجوم عن بعد، والاحتلال الطويل، ثم تسليمها للسلطة، فالانسحاب منها، ثم فك الارتباط نهائيا، وشن هجمات رادعة لاحقة، فحروب دموية، ولكن من دون أن ينتهي الكابوس.
تعود مشكلة إسرائيل مع غزة منذ البدء.. حتى قبل احتلالها عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري، إذ تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، وقال بن غوريون خلال اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه: «أعرف أنه يجب ضم القطاع.. سنستفيد من ضمه، لكنه لن يبقى أبدا في أيدينا».
شن بن غوريون أول هجوم إسرائيلي على غزة في 14 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1948، أي بعد ثلاثة أيام من إعلان الاستقلال في إسرائيل، رمت الطائرات الإسرائيلية آنذاك تسعة أطنان من القنابل وغادرت. كان بن غوريون يريد تأمين الطريق إلى النقب وإحكام السيطرة عليها، وأطلق لاحقا عملية عسكرية عرفت باسم «عملية يوآف»، ثم تراجع تحت ضغط الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، لكنه ظل يتطلع إلى احتلال القطاع، ويقول لوزرائه: «إذا لم نأخذه الآن فسيصبح صعبا فيما بعد».
عاد بن غوريون بعد خمس سنوات بمقترح جديد لاحتلال غزة، لكن حكومته رفضت ذلك، وبعد عام ونصف العام، أثناء حملة سيناء، وقع احتلال غزة في عام 1956، لكن ذلك لم يدم طويلا، وبعد خمسة أشهر في مارس (آذار) 1957 انسحب الجيش الإسرائيلي من غزة، وجددت مصر الحكم العسكري على القطاع.
وظل احتلال غزة بمثابة الحلم الكابوس في إسرائيل. وفي 1967، كان وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان الذي دخل «فاتحا» للقدس مترددا في شأن القطاع، لكنه قرر احتلاله في النهاية، وهذا ما جرى في حملة انتهت أيضا باحتلال شبه جزيرة سيناء.
وخلال سنوات الاحتلال الطويلة، لم تخضع غزة أبدا للمفهوم الذي تريده إسرائيل (شعب منضبط تحت الحكم العسكري). وسجلت خلال سنوات السبعينات والثمانينات في غزة عدة عمليات ضد الجيش الإسرائيلي ومحاولات كثيرة لبناء مجموعات مسلحة.
وفي 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وواجهت إسرائيل أول مجموعات مسلحة منظمة، وراح مقاتلون هناك ينفذون عمليات لم تعتدها إسرائيل في الأراضي المحتلة، كمائن وهجوم مسلح وخطف وقتل جنود.
كانت الانتفاضة في غزة أكثر من عنيفة وصعبة إلى الحد الذي تمنى معه رابين أن تغرق في البحر. وعندما وقعت إسرائيل اتفاقية السلام مع منظمة التحرير عام 1993 هربت أولا من غزة، وسلمت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات القطاع كاملا إلى جانب مدينة واحدة في الضفة وهي أريحا.
ظل الإسرائيليون يحتلون أجزاء من غزة، لكن مقاومتها لم تتوقف. وفي 2001، أطلقت حماس أول صاروخ محلي الصنع على سديروت. كانت صواريخ حماس بسيطة لا تصل ولا تؤذي حتى إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) سماها لاحقا بالعبثية.
ورغم الضغط الإسرائيلي الكبير ومعارضة السلطة الفلسطينية، لم تتوقف هجمات الفلسطينيين من غزة وظلت العلاقة بين القطاع وإسرائيل بين مد وجزر.
ومرة ثانية، لم تعرف إسرائيل كيف تتصرف مع غزة.
يقول الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف إن «القصة بين إسرائيل وغزة طويلة ومستمرة منذ عام 1948، كانت وما زالت وستبقى علاقة عنف وضغط وإحباط ويأس واتفاقيات وفرص ضائعة».
ويرى الكاتب أن سلسلة الحروب الطويلة التي شنتها إسرائيل على غزة في السنوات الأخيرة تثبت ما ذهب إليه بن غوريون نفسه عام 1948، بما معناه «لو غزونا غزة ألف مرة، فإنها لن تخضع».
كانت إسرائيل تعتقد أن تسليم غزة سيحولها إلى شرطي على الحدود، وكان هذا بمثابة وهم جديد. اضطرت إسرائيل لاحقا إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليم السلطة لها بنحو ثماني سنوات، وتحديدا في نهاية أبريل (نيسان) 2001. أطلقت إسرائيل على العملية اسم «حقل الأشواك» وتركزت العملية في رفح وخانيونس بعد أن توغلت عشرات الدبابات في تلك المدن وهدمت عشرات المنازل، وخاصة على محور فيلادلفيا «صلاح الدين» الذي كانت تسيطر عليه إسرائيل قبل انسحابها من القطاع.
أدت العملية التي استمرت خمسة أيام إلى مقتل ما لا يقل عن 18 فلسطينيا، فيما أصابت المقاومة التي كانت تمتلك بعض الأسلحة الخفيفة فقط حينها عددا من الجنود بجروح طفيفة.
في مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح» بعد أن قتل عدد من الجنود في عمليات متفرقة سابقة، وتركزت العملية لعدة أيام في رفح، وأدت إلى مقتل 17 فلسطينيا وجنديين، وانتهت بهدم أكثر من 15 منزلا وتدمير الكثير من المنشآت والمصانع.
في سبتمبر (أيلول) 2004، عادت إسرائيل ونفذت عملية «أيام الندم» واجتاحت مناطق واسعة من شمال قطاع غزة. كانت العملية الواسعة الأولى التي يخرج بها الجيش الإسرائيلي ردا على إطلاق الصواريخ من القطاع. واستمرت العملية 17 يوما وأدت إلى مقتل 100 فلسطيني على الأقل.
تمركزت قوات الجيش الإسرائيلي خلال العملية في مناطق بيت حانون، وبيت لاهيا ومخيم جباليا للاجئين، التي كانت بحسب إسرائيل مناطق لإطلاق الصواريخ الأساسية لـ«القسام» تجاه مدينة سديروت.
وخلال العملية، اتهمت إسرائيل «الأونروا» بمساعدة حماس بعدما بثت مقاطع لما قالت إنه نقل صاروخ في سيارة تابعة للأمم المتحدة. في العام نفسه، بدأ الإسرائيليون يفكرون في «فك الارتباط» مع غزة والتخلص من «طنجرة الضغط».
وفي 2005، انسحبت إسرائيل فعلا من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط أحادي الجانب»، وبحسبها أخلت إسرائيل 21 مستوطنة في القطاع ومعسكرات الجيش الإسرائيلي، بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت آرييل شارون.
أجبر شارون 8.600 إسرائيلي على ترك المستوطنات وقال إنه لا مبرر بعد الآن ليقول أحد إن إسرائيل تحتل القطاع.
وأقر الجنرال الإسرائيلي، عيبال جلعاد، وهو أحد مؤسسي ـخطة «فك الارتباط»، في حديث مع «معاريف»: «الأفضلية الإسرائيلية في كل المناحي لم تمكنا أبدا من إخضاع غزة».
وكشف جلعاد عن أن شارون كان اقترح الانسحاب من غزة عام 1988، ثم عاد وطرح الفكرة نفسها عام 1992. وفي أعقاب الانتفاضة الثانية عام 2000، قرر أخيرا أن الوقت قد حان للانسحاب من غزة.
جرى الانسحاب كما أراد شارون، لكن كابوس القطاع ظل يطارد الإسرائيليين.
لم تتوقف الصواريخ والعمليات، ونفذت إسرائيل آنذاك عدة حملات سريعة من بينها «الواقي الأمامي» و«رياح خريفية»، مرورا بـ«السهم الجنوبي»، وحتى الوصول إلى عملية «أول الغيث».
كانت عملية «أول الغيث» في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 هي العملية الأولى بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، واستمرت العملية سبعة أيام وجرى خلالها تدمير مخارط لتصنيع صواريخ «القسام»، ومخازن للأسلحة، ومقرات ومراكز خدمات لوجيستية لحماس. وخلفت جميع العمليات السابقة ما لا يقل عن 70 قتيلا في صفوف الفلسطينيين و11 جنديا إسرائيليا، وكانت تستهدف هذه العمليات منع إطلاق صواريخ «القسام»، ودمرت إسرائيل من أجل ذلك الهدف عشرات المنازل شمال غزة.
بعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، حدث تطور مفاجئ ومنحى خطير في العلاقة بين غزة وإسرائيل، إذ نجحت حماس وفصائل أخرى عبر نفق طويل يمتد لـ300 متر من تنفيذ هجوم مباغت على موقع كرم أبو سالم العسكري وأخذت معها الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط حيا يرزق إلى غياهب «طنجرة الضغط».
أعلنت إسرائيل فورا بدء عملية باسم «سيف جلعاد» دمرت خلالها محطة كهرباء غزة ومئات المنازل، قبل أن تتطور عمليتها إلى برية موسعة، وعرفت باسم «أمطار الصيف» واستمرت نحو شهر وجرت خلالها مهاجمة البيوت وعدد من الجسور، وأدخلت إسرائيل للمرة الأولى منذ «فك الارتباط»، قوات المدرعات، المشاة والهندسة إلى جنوب القطاع.
قتل خلال العملية نحو 394 فلسطينيا، وجرح نحو 1000 فلسطيني، وقتل نحو تسعة جنود إسرائيليين.
وفي فبراير (شباط) 2008، عادت إسرائيل من جديد ونفذت عملية «الشتاء الساخن».
بدأت العملية في 27 فبراير 2008 وانتهت في 3 مارس، وتضمنت سلسلة من الاغتيالات لناشطين فلسطينيين، وفيها اقتحمت إسرائيل مناطق من القطاع، ولأول مرة كانت إسرائيل تحتل شمال غزة والمقاومة تمطر سديروت وأشكلون بالصواريخ.
قتل في العملية نحو 170 فلسطينيا وجرح نحو 400 وقتل عشرة جنود إسرائيليين وبعض المستوطنين.
ولم تنته القصة..
في نهاية العام وتحديدا في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، شنت إسرائيل إحدى كبرى عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية وعرفت باسم «الرصاص المصبوب». بدأت العملية بهجوم جوي مركز على غزة أدى إلى مقتل 89 شرطيا تابعين لحماس، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.
خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوما، نحو 1400 قتيل فلسطيني وآلاف من الجرحى، ودمرت أكثر من ألف منزل في غزة وتكبدت إسرائيل أكثر من 13 قتيلا بين جنودها وثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.
قالت إسرائيل إنها أضرت كثيرا بقدرات حماس العسكرية وبنيتها التحتية ولقنتها درسا قاسيا.
وبعد أربع سنوات وفي 2012، شنت إسرائيل عملية عامود السحاب.
أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان حماس، أحمد الجعبري، واتضح بعد ذلك أن إسرائيل لم تنل من قدرات حماس العسكرية في الحروب السابقة.
شنت حماس أعنف هجوم على إسرائيل واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين.
اكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل أكثر من 200 فلسطيني وجرح 500 وخلفت دمارا كبيرا، وقتل الفلسطينيون سبعة إسرائيليين بينهم جنود.
أطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخا وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة.
وفي 21 نوفمبر انتهت العملية بهدنة توسطت فيها مصر.
واليوم، بعد عامين فقط، تنفذ إسرائيل في غزة عملية «الجرف الصامد» التي بدأتها منذ الثامن هذا الشهر، ولا يبدو أنها الأخيرة في المواجهة المتجددة.
وفي هذه الحرب المستمرة حتى اليوم، قتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني بينهم عائلات كاملة وجرحت أكثر من ثلاثة آلاف ودمرت ألفي منزل وتكبدت أقسى خسائر في حروبها مع غزة، إذ فقدت نحو من جنودها قتلى في الميدان حتى قبل أن تنتهي الحرب، وفوق ذلك خطفت حماس أحد الجنود بعد معركة في أحد أحياء القطاع.
ومن البديهي أن لكل جولة مواجهة عسكرية تكاليف باهظة اقتصادية كذلك.
ويرجح اقتصاديون أن غزة تخسر مع كل يوم آخر من المواجهة نحو 37 مليون دولار، فيما تخسر إسرائيل نحو 100 مليون، وتدخل في الحسبة تكلفة الحرب كذلك.
وتثبت الحرب التي تتجدد كل عامين أن غزة تخرج من كل حرب أقوى وأكثر بأسا وشدة وخبرة كذلك، فيما لم تستطع إسرائيل تحديد استراتيجية واضحة للتعامل مع القطاع. ولم يتوقف النقاش في إسرائيل منذ سنوات حول مصير قطاع غزة، ولم تحسم أي حكومة إسرائيلية أمرها بشأن ذلك، يتركونه أو يحتلونه، يبقون على حماس أم يسقطون سلطتها، وفي كل مرة كان يبرز السؤال الأصعب: ماذا بعد احتلال غزة إذا كان ذلك ممكنا؟
وخلال الأيام القليلة الماضية، عادت فكرة احتلال القطاع إلى الواجهة.
وقال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، يتسحاق أهرونوفيتش، إن «الجيش الإسرائيلي ليس مقيدا بالوقت فيما يتعلق بالعملية البرية في قطاع غزة»، مضيفا: «إذا أحوجنا الأمر، فسنحتل قطاع غزة». وأضاف: «في كل الأحوال، إسرائيل ستلحق بحماس ضربة قاسية».
وتقول إسرائيل منذ ثلاث حروب إنها ستلحق بحماس مثل هذه الضربة، لكن الحركة الإسلامية تخرج في كل حرب أقوى من ذي قبل.
ولا يبدو أن حديث أهرونوفيتش جاء من العدم، وقالت مصادر سياسية إسرائيلية إن مسألة الوضع المستقبلي للقطاع تطفو على السطح الآن داخل أروقة صنع القرار في إسرائيل. ويرى مراقبون في إسرائيل أن عودة الحكم العسكري لغزة أو لأجزاء منها مسألة ممكنة، لكنها تأتي حلا أخيرا.
وقالت مصادر أمنية إسرائيلية إن الجيش يستعد لاحتمال تلقيه أوامر باحتلال غزة، وإنه قام باستدعاء العشرات من جنود الاحتياط من وحدات الحكم العسكري، إضافة إلى أكاديميين متخصصين في مجال الحكم والإدارة المدنية، وذلك في إطار التجنيد الأخير الذي ضم 18 ألفا من جنود الاحتياط. وتأتي هذه النقاشات على خلفية تصاعد الانتقادات في إسرائيل لاستراتيجية الحكومة في التعامل مع غزة، وثمة انقسام كبير داخل الحكومة الإسرائيلية حول الطريقة المثلى للتعامل مع القطاع.
ويدعو وزراء لضبط النفس في التعامل مع غزة، ويدعو آخرون لاحتلال القطاع والقضاء على حماس نهائيا. ولم تفض عشرات الاجتماعات للمجلس الأمني والسياسي المصغر إلى قرار واضح. وحتى عندما قرر المجلس عملية برية قال إنها محدودة، ومن ثم أمر بتوسيعها.
وتجد إسرائيل صعوبة بالغة في إعادة احتلال القطاع بسبب الكثافة السكانية العالية هناك وطبيعة البيوت والمخيمات المكتظة والأسلحة التي تملكها الفصائل الفلسطينية.
وقال عوزي أراد، مستشار الأمن القومي السابق في مكتب بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، إن إسرائيل تعيش في مأزق بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرار ضد حماس.
وأَضاف المستشار الإسرائيلي: «إذا أردنا تحقيق أهداف عملية فسنكون بحاجة إلى تجنيد قوات أكبر والقيام بعملية متدحرجة ومتواصلة».
ويعتقد معظم الساسة الإسرائيليين أن احتلال غزة وإسقاط حماس، معركة لا بد منها في النهاية وسيأتي يوم لخوضها.
لكن ماذا بعد ذلك؟ هذا هو السؤال الذي طرحه عاموس جلعاد، المسؤول الكبير في وزارة الدفاع الإسرائيلي، الذي قال: «السؤال الذي يقض مضاجعنا، ماذا بعد إعادة احتلال القطاع؟ هل تقوم إسرائيل بإدارة شؤون مليون ونصف المليون فلسطيني في جميع مناحي الحياة؟»
وقال الخبير في الشؤون الإسرائيلية «علي واكد»، لـ«الشرق الأوسط»: إن «إسرائيل بعد سلسلة من الحروب مع غزة تسعى اليوم إلى تحقيق إنجاز سياسي يمكنها من نزع تهدئة طويلة ينعم فيها سكان جنوب إسرائيل بالهدوء، وعدم الاكتفاء بفترة تهدئة قصيرة تتبعها جولات أخرى، كما جرى في أعقاب عمليتي (الرصاص المصبوب) و(عمود السحاب)».
وأضاف: «هذا هو الهدف الرئيس لإسرائيل في الفترة الحالية»، لافتا إلى أن دخول الجيش الإسرائيلي في عملية برية يأتي للضغط أكثر على حماس بالقبول بتهدئة طويلة الأمد، ومن خلالها يستعيد الجيش هيبته بإقناع الفلسطينيين بأن التفكير في كل عملية إطلاق صاروخ نحو جنوب إسرائيل سيدفعون ثمنه باهظا.
ويرى واكد أن خيارات إسرائيل الأخرى تبدو صعبة الآن. وقال: «في إسرائيل، هناك إقرار واضح بأن غزة تمثل مشكلة لم تحل جذريا، ومن الصعب جدا أن يجري حلها نهائيا».
وأضاف: «جبهة غزة تشكل عقدة أمنية وسياسية لإسرائيل».
ومن وجهة نظر واكد، فإن الطرف الإسرائيلي لا يريد تغيير موازين القوى السياسية في غزة، بل «يتعمد استخدام سياسة الفصل بين غزة والضفة لإضعاف السلطة سياسيا». وكان لافتا أن الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية الذي سبق الهجوم على غزة جاء في أعقاب توقيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس اتفاق مصالحة مع حماس، وهو الاتفاق الذي دعت إسرائيل عباس فورا إلى تمزيقه وخيرته بين إسرائيل وحماس.
ومع ذلك، لا يبدو أن الحرب على غزة يمكن أن تخرب المصالحة. وحتى الآن، تظهر إسرائيل متخبطة في إخراج المشهد الأخير للحرب.
ويرى المحلل السياسي والمختص بالشؤون الإسرائيلية «أكرم عطا الله»، أن إسرائيل لم تحقق أي إنجازات عسكرية سواء في العملية الحالية أو العمليات الأخيرة التي شهدتها غزة في السنوات السابقة، مستدلا بذلك على تطور قدرات المقاومة من معركة لأخرى من خلال استخدام أسلحة وصواريخ جديدة. وأضاف عطا الله لـ«الشرق الأوسط»: «كل ذلك التطور الحاصل على صعيد قدرات المقاومة، شكل صورة أخرى من الحالة المعقدة التي تعيشها إسرائيل مع مقاومة غزة، التي أصبحت بلا شك شوكة في حلق إسرائيل، تحاول التخلص منها بكل السبل»، وأعرب عطا الله عن اعتقاده أن العملية الحالية ربما تنتج اتفاقا ترغب إسرائيل والمقاومة في الوصول إليه من خلال تهدئة طويلة تستمر لعدة سنوات وبما يضمن تلبية شروط الجانبين. لكن المؤكد أن إسرائيل لن تتخلص من «طنجرة الضغط» أبدا.
«ليخ لغزة»؛ أي: اذهب إلى غزة. هذا ما يقوله إسرائيلي للآخر عندما يريد أن يهاجمه بعبارة: اذهب للجحيم.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.