عزت القمحاوي
قرأت في صفحة «ثقافة» مقال الكاتب والشاعر عمر الراجي، صباح الاثنين الماضي، بعنوان «أين اختفى محمد عابد الجابري؟»، وهو سؤال على درجة من الأهمية، ويجب أن يحرض المهتمين بمستقبل الثقافة العربية على تقليبه مثلما حرضني. هذا السؤال المطروح بمناسبة تسع سنوات على رحيل الجابري، يتصل مباشرة بشاغل أساسي يشغلني منذ وقت طويل هو انقطاعات الثقافة العربية.
«أنت امرأة ضالة» صيحة طاهر باشا (زكي رستم) في فيلم «نهر الحب»، واحدة من أشهر الجمل التي اندفعت من الشاشة الفضية إلى الشارع.
هناك تواطؤ لا غنى عنه عند قراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو مسرحية، وكذلك عند الخروج في رحلة سياحية. نبدأ القراءة مستريحين في أماكننا أو نرتدي ملابسنا ونتزين ونخرج للمشاهدة رغم أننا نعرف أن الوقائع غير حقيقية، لكننا نتواطأ مع الكاتب لاعتبار ما نقرأه أو نراه حقيقياً. هذا التواطؤ يسميه تيري إيغلتون «الانحناء أمام سلطة الراوي» لا وجود للأدب من دون هذا الانحناء، وهو لحسن الحظ لا ينطوي على إذلال أو مخاطرة كبيرة، ما دمنا غير موقّعين على عقد طويل الأمد مع الراوي.
لو كانت السياحة ديناً، فمدينته المقدسة البندقية. هي المكان الذي يزور محبي السفر في أحلامهم ويناديهم، مثلما تفعل المدن المقدسة في أحلام المؤمنين. وبمجرد أن يتحقق الحلم، لا بد من شهقة عند مصافحة المدينة، تشبه في عمقها شهقة دبة الروح في الجسد الفخار. مغادرة غبشة أو عتمة محطة القطار إلى النور في ساحة سان ماركو بمثابة خروج مفاجئ إلى النهار؛ تتعرض الروح لصدمة مواجهة الجمال الكامل اللانهائي الذي لم يتأهل الزائر للقائه.
تُصرُّ شركات الطيران على عرض إجراءات السلامة قبل الإقلاع، بينما يصر أغلب الركاب على تجاهل هذه الفقرة؛ فلم يعد أحد من طائرة معطوبة ليحكي لنا إن كان عرض إجراءات السلامة الشيق قد أفاده! لكن لا أحد بوسعه أن يتجاهل الفقرة التالية؛ فقرة تمثيل الوجود الراسخ! عرض مسرحي بلا نص، يندمج فيه الركاب مع طاقم الضيافة؛ يتصرفون كما لو كانوا آمنين على أرض متينة.
لا أحب المدن المنكسرة، ولا تلك المتباهية. فهما تنطويان على ثقل يبدد خفة السفر ويطفئ بهجته. دمشق، مثلاً، كانت فردوساً جميلاً بأناقة أرواح سكانها، بطعامها، بعمارتها القديمة، لكن رائحة الخوف تثقل هواء ذلك الفردوس. كان عليك أن تخفض صوتك إذا أبديت ملاحظة بسيطة، وربما تجد نفسك في محل ريبة دون أن تقول شيئا، لمجرد أنك صحافي. وكان من الممكن أن يداهمك الحزن، لا بسبب أذى يمسك شخصياً، بل لرؤية العدوان يقع على آخرين ليس بوسعك أن تمد لهم يد العون. للأسف، تبدد الفردوس وبقي الخوف. انتفض الناس ضده؛ ففقدت المدينة ما يحبونها لأجل، بينما تضاعف الخوف حتى صار خيمة سميكة تُغلِّف ما تبقى من المدينة.
بعض الكتب يعرف كيف يدافع عن نفسه في مواجهة قارئ غشاش. من هذه الكتب رواية نجوى بركات الجديدة «مستر نون»، الصادرة عن دار «الآداب».
كانت رحلة نوح بمثابة خلق ثانٍ للعالم. سفرٌ إلى اللامكان طفواً فوق قدر الغرق، وأول يابسة ظهرت كانت محطة الوصول المثالية. كانت تلك رحلة فرار واحدة نعرفها تكللت بالنجاح؛ فالقدر لا يمنح المسافر جائزته دائماً. الفرار من الموت، واحد من الأهداف المضمرة للسفر، لكن المصير محتوم. في بعض القصص الميثيولوجية يكون البطل عارفاً مسبقاً بمصيره، وفي بعضها يجهل ذلك كلياً. فرّ أوديب من نبوءة قتل أبيه والزواج من أمه، فإذا به يحقق النبوءة بهذا الفرار.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة