انقطاعات الذاكرة في الثقافة العربية

عيوب جوهرية في الواقع الثقافي وواقع النشر العربي

طه حسين
طه حسين
TT

انقطاعات الذاكرة في الثقافة العربية

طه حسين
طه حسين

قرأت في صفحة «ثقافة» مقال الكاتب والشاعر عمر الراجي، صباح الاثنين الماضي، بعنوان «أين اختفى محمد عابد الجابري؟»، وهو سؤال على درجة من الأهمية، ويجب أن يحرض المهتمين بمستقبل الثقافة العربية على تقليبه مثلما حرضني.
هذا السؤال المطروح بمناسبة تسع سنوات على رحيل الجابري، يتصل مباشرة بشاغل أساسي يشغلني منذ وقت طويل هو انقطاعات الثقافة العربية. لأسباب مختلفة تطمر كل حقبة ما سبقها تحتها؛ فلا يكاد يرتفع لنا بناء كأننا نبني من الرمل على شاطئ مصيف.
ذلك موضوع آخر يطول، أسبابه متعددة، يكمن بعضها في الفكر ذاته، كما يكمن في العلاقة الثأرية بين الأجيال، في تشابه مع حالة الثأر في الواقع الاجتماعي والسياسي العربي.
آباء يتشبثون، ثقافيون يتشبثون بمقاعدهم يمارسون النفي ضد أبنائهم، وأبناء يحلون محلهم غاضبين ويعاقبونهم بالنسيان، دون أن ننسى بالطبع علاقة أولئك الآباء والأبناء بالسلطة والمجتمع.
هناك كذلك عيوب جوهرية في الواقع الثقافي وواقع النشر العربي الذي لم يستقر بعد كصناعة راسخة مثلما نراه في حضارات أخرى، حيث يتوالى صدور الطبعات الجديدة من كتب السابقين، محروسة بين الحين والحين بكتب جديدة عن أفكارهم وسير حياتهم مما يضعهم في الراهن دائماً.
أثر البيئة الثقافية والسياسية والاجتماعية على انقطاعات الذاكرة بين جيل وجيل هو نفسه الأثر على مفكر فرد، حضوراً وغياباً. ويبقى الأهم دراسة المنتج الثقافي لتلك الحقبة أو ذلك الفرد دون تقديس أو تحامل. وأحسب أن عمراً من الشقاء الفكري عاشه محمد عابد الجابري يستحق وقفة مطولة تتأمله من شتى جوانبه.
عندما كنت طالباً بدايات الثمانينات، كانت كُتب محمد عابد الجابري وسيلة للفخر الثقافي. يتأبطها أحدنا في ساحة جامعة القاهرة بوصفها شارة للتميز. كتاب للجابري دليل عمق ثقافي يتمتع به حامله، بالإضافة إلى أن وجود كتاب غير مصري في أيدينا كان إجابة على شوفينية طالما اتهمنا بها الأشقاء في الأقطار الأخرى.
كذلك، كنا نتابع بشغف مراسلات محمد عابد الجابري وحسن حنفي على صفحات مجلة «اليوم السابع» باعتبارهما قطبي الفلسفة في مشرق ومغرب العالم العربي، مثلما تابعنا مراسلات محمود درويش وسميح القاسم بوصفهما نجمي الشعر الفلسطيني من الخارج والداخل.
اختلفت أقدار الشاعرين الفلسطينيين بعد ذلك، تقدم نص درويش حتى صار للإنسانية كافة، وانتكس نص سميح جمالياً ومعرفياً، بينما ظل قطبا المشرق والمغرب في مكانهما، يتراوح استقبالهما بين الانبهار وعدم الاكتراث. وأجدني متفقاً مع الراجي في توصيف التحولات السياسية الحالية التي تبدو ظاهرياً انقلاباً على أفكار العقل والعقلانية، لكنني سأبتعد عنه من حيث توصيف انفجار الطائفية واللاعقلانية؛ فالممارسات الحربية العنيفة لم تخض جدلاً مع أفكار الجابري أو غيره لتنقلب عليه. هو انفجار سياسة ومصالح على أساس عقائدي لم يتعرض أصحابه إلا إلى الشكل الدعائي الديني.
كتب الجابري محلقاً فوق تعقيدات الواقع السياسي، لا يراها ولا تراه، وقد ذهب الحلم بصنوه المصري إلى حد أن ألَّف كتاباً في «علم الاستغراب». أراد حسن حنفي أن نعامل الغرب بمثل ما عاملنا؛ وتصور أنه يؤسس لعلم يدرس الغرب، وربما يستبيحه رداً على استباحة الاستشراق لنا!
لم يذهب الجابري هذا المذهب في التعالي على شروط الواقع وموازين القوة بين الشرق والغرب، لكنه بذل جهداً ضخماً في تشخيص أمراضنا الفكرية، وكتب وصفات دواء جيدة، لكنها غير موجودة في الصيدليات، فلم يستفد المريض شيئاً أكثر من أن طواها ووضعها في جيبه.
مقارنة الجابري بعبد الفتاح كيليطو يمكن أن توضح قليلاً ما أعنيه. تحدث الجابري مطولاً عن القواعد؛ عن الوجه الأفضل لقراءة التراث وتفسيره، بينما رأى كيليطو أن يدخل في صلب الموضوع ويُقدِّم تأويله الجمالي للتراث.
ربما يمكن القول إن التراث الأدبي الذي يدرسه كيليطو يختلف عن التراث الفكري والديني الذي يعنيه الجابري، لذا ستتضح الصورة أكثر إذا ما عقدنا المقارنة نفسها بين الجابري واثنين من آبائه: عبد الرحمن الكواكبي وطه حسين. الكواكبي في «طبائع الاستبداد» ضرب ضربة في الاجتماع السياسي، في صلب السؤال الأصلي الذي تتفرع عنه أسئلة الثقافة، سائراً على درب التنويريين الغربيين في اشتباكهم الواضح مع الواقع، وكتبهم التي تُعد مشروعات عملية للتحديث مثل «العبودية الطوعية» و«العقد الاجتماعي»، ونال مكافأته قتلاً بالسم. وطه حسين في «الشعر الجاهلي» طبَّق بالضبط القواعد التي لم يكن الجابري قد اقترحها بعد للتعامل مع التراث، فإذا به يجد نفسه في وسط الاجتماع السياسي. وهبت عليه عاصفة اضطرته للانحناء قليلاً حتى لا ينكسر. وإلى اليوم يمكن لأي ناشر أن يطبع «طبائع الاستبداد»، ويبيع ما يطبعه، وبدرجة كبيرة يلقى «في الشعر الجاهلي» الاستقبال الحسن إلى اليوم.
غاية القول إن مشروع الجابري أطال الوقوف حول قواعد اللعبة، فلم تجد كتبه السبيل للدخول إلى المجتمع الواسع، فظل كتابه تحت آباط قلة من الرومانسيين، بينما كانت السلطة تتأبط كتاب ميكافيللي مُيسرة للأغلبية تأبط كتب الفقه.
لم تتصادم أفكار الجابري مع تفاصيل التخلف في المجتمع بقدر ما تصادمت مع التخلف في متون الكتب. وعلى الرغم من أنه بذل جهداً كبيراً بما يعنيه بـ«العقل العربي» من حيث هو تكوين معرفي تاريخي، ليبتعد به عن المفهوم العنصري، المستند إلى تطرف علم الأعراق لإسباغ عبقرية أو تخلف طبيعيين؛ فإن اثنين من عناوين كتبه «تكوين العقل العربي» و«نقد العقل العربي» يوحيان لمن لم يقرأ بهذا المعنى القريب. ولا مزاح في هذا، فقد أعفاني الفرنسي بيير بيار بكتابه «كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟» من عبء الدفاع عن فكرتي.
أحسب أن ظلالاً من الإيمان باستحالة تغيير «العقل العربي» قد وصلت إلى المستعدين لليأس من عنواني الجابري، بينما ظلت أفكاره الأفضل بعيدة عن جدل مجتمع كانت أسباب احتراقه تنضج في مقلب آخر.
ولست مع عمر الراجي في تشاؤمه، فنحن نتحاور اليوم في واقع بدأ بالتغير. حيث يقول حراك العراق ولبنان إن نار الطائفية قد أنضجت الشعوب، ورغم اختلاف منطلقات حراك الجزائر؛ فهو ليس خالياً من ذلك النضج المعرفي الذي يلفظ سؤال الدين كما يفهمه المتعصبون والعرق بعيداً عن ساحاته، ويمكن بوضوح أن نلمح الكواكبي في هذه الساحات بأكثر مما نرى الجابري، وهذا لا يمنع من أن نعود في لحظة أقل التهاباً إلى أفكار الجابري وحسن حنفي.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.